كان أفراد القاعدة في خضم عملية الانتقال وعلى الرغم من أنهم لم يقطعوا سوى نصف نهار من المسير، إلا أن حالهم قد أصبح يرثى له لم يكن الأمر متعلّقاً بالمظهر، بل إن الأجواء كانت كئيبة عموماً.
منذ لحظة الانطلاق، واجهوا صعوبات لا تُحصى فقاعدة الرعاية الطبية كانت تحوي شتى أنواع المؤن، ولم يكن من السهل على أفراد القاعدة، الذين كان عليهم رعاية المرضى أيضاً، نقلها جميعاً غير أن انعدام الثقة الذي بدأ ينمو جعلهم لا يرغبون في الاستعانة بجنود فيتسمارك.
قال آلفين لماثيو الذي كان حائراً:
“أنتم تولّوا أمر المرضى والأسلحة نحن سنتكفّل بالمؤن يمكنكم فقط أن تراقبونا من الخلف وأنتم تحملون أسلحتكم.”
أرادت كلوي أن تثني آلفين عن كلام فهي تعلم أن كونه من العائلة المالكة يجعله أحياناً يتحدث بطريقة فظة، لكن الموقف الآن لا يحتمل مثل هذا الأسلوب حتى من يعرف الظروف مثلي، يرى في كلامه شيئاً غريباً.
وكان ماثيو يحدق في آلفين وكأنه يريد قتله فقد كان أحد الحراس الذين لقوا حتفهم مؤخراً مقرباً من ماثيو منذ أيام المرتزقة.
ومع أن ماثيو كان يعلم أن الجنود المتبقين من فيتسمارك لم يوجّهوا أسلحتهم نحو القاعدة ذلك اليوم، إلا أنه لم يكن قادراً على كبح رغبته في إطلاق النار عليهم، لمجرد أنهم ينتمون لنفس الجنسية التي ينتمي إليها قاتل صديقه.
قال آلفين بنبرة ثابتة:
“هل ستتخلى عن كل هذا حقاً؟”
“……”
“ربما نصل إلى وجهتنا، لكننا لن نصمد طويلاً بعد ذلك بدون مؤن.”
“……”
“إذا لم يكن بمقدورك تقبّل ذلك، ففكر بالأمر على أنه مجرد استغلال في النهاية، أنت لا تنوي قتلهم، أليس كذلك؟”
كان آلفين على دراية جيدة بأمثال ماثيو من المرتزقة فمرتزق يترك القتال لينضم إلى قاعدة كهذه، لا بد أنه فقد رغبته في القتل في مرحلة ما، غير أن هذا المجال هو كل ما يُجيده.
وفي نهاية المطاف، بدأ جنود فيتسمارك بسحب العربات المحمّلة بالمؤن مثل الأدوية والبطانيات والغذاء بينما تولّى أفراد القاعدة وبعض جنود إيدلين السليمين رعاية المرضى والأسلحة من الخلف، دون أن يتغافلوا عن مراقبة الجبهة.
كانت كلوي تسير وسط أفراد القاعدة بخطى ثابتة وحين نظرت حولها أسرعت الخطى باتجاه آلفين وديوي كان آلفين يسير حاملاً حملاً ثقيلاً على كتفه، بينما كان ديوي يدفع عربة بيد واحدة ورغم أن آلفين هو من قطع يد ديوي، فإنّهما لم يبدوا وكأن بينهما أيّ توتر.
تردّدت كلوي قليلاً، تفكر إن كانت ستساعد في دفع العربة أم لا ألن يكون ذلك مزعجاً له؟ لكن ديوي بادرها بالسؤال:
“كلوي، ماذا؟ هل لديك ما تقولينه لي؟”
“لا.”
نظر آلفين نحوها وقد بدا عليه شيء من الدهشة، ثم تنهد وكأنه أدرك شيئاً فجأة أنزل ما كان على كتفه ووضعه فوق عربة ديوي.
فزّ ديوي من الوزن الزائد وهتف: “أوه، ما هذا!”
قال آلفين: “أنت، اخرج اذهب وافعل شيئاً آخر أو بالأحرى، خذ قسطاً من الراحة.”
ظل ديوي لحظة في حيرة، ثم فهم أن هذه فرصة للراحة فاندسّ بين الجنود واختفى سارعت كلوي إلى أخذ مكانه، لكن آلفين أطلق تنهيدة أعمق وقال:
“وأنت أيضاً، اتركي الأمر أنتِ لا تملكين أيّ قوّة بدنية.”
كانت كلوي تستخدم تعبير “كالمتسوّلة” أحياناً، لكنها شعرت بالإهانة حين سمعته من الأمير.
غير أنها تجاهلت ذلك وأخذت تدفع العربة بصمت ثم ما لبث آلفين أن ابتسم وسحب العربة أمامها، فاضطرت إلى الإسراع خلفها وهي تقول: “آه، مهلاً!”
ضحك آلفين طويلاً، ثم لاحظ الحقيبة التي كانت على كتفها فقال:
“ضعيها هنا أيضاً.”
“لا، سآخذها بنفسي.”
“ما بداخلها؟”
لم يكن فيها شيء مهم بل لم يكن هناك ما يستحق الذكر وحين بدأت تحكّ رأسها في حرج، اختطف آلفين الحقيبة وفتحها.
“آلفين، كيف تفتح حقيبة غيرك بهذه الطريقة؟”
“لمَ لا؟ هل لا يزال لديك ما تخفينه عني غير ذلك… الملابس الداخلية في المرة الماضية؟”
“……”
“أظنني سأتراجع عن قولي إنني لا أتذكّر ما كنتِ ترتدينه.”
لم ترتدِ كلوي قطعة القماش التي أرسلتها جوليا فقد كانت بحاجة لقرار كبير حتى تفعل، لكنها الآن لا تستطيع لمسها بعد أن كُشفت ومع ذلك، فإنّ ذاكرة آلفين الحادة التقطت حتى اللحظة التي أخفت فيها الملابس بسرعة خلف ظهرها.
“ما زلت لا أستطيع النوم كلما تذكّرت ذلك.”
“…آلفين، أنا أجيد الشتم.”
“لا أحد هنا يعرف ذلك أكثر مني.”
كانت قد كُشف أمر قاموس شتائمها من قبل، فصمتت من جديد وهي تفكر: لا بد من التخلص منه.
ألقى آلفين نظرة على محتوى الحقيبة وضحك لم يكن فيها سوى أدوات كتابة ودفتر وبعض الملابس شخص آخر لا يملك شيئاً مهمّاً سوى شيء واحد فقط.
“قلتِ إنك لن تخرجيها، لكنك تحتفظين بها بعناية.”
“أخشى أن تُسرّب إذا رميتها دون حذر، فأُسجن بسببها.”
ضحك آلفين ووضع الحقيبة بعناية فوق العربة.
“سأعطيك إياها حين نصل إلى مكانٍ مناسب لا تقلقي كثيراً، اتركيها هنا الآن.”
أومأت برأسها وواصلت دفع العربة إلى جانبه.
حتى في المناطق الحدودية، توجد قرى كان هناك العديد منها قرب القاعدة التي غادروها لكن من الطبيعي أن تقل الكثافة السكانية كلما ابتعدوا عن مركز إيدلين.
تمنّوا لو يجدون منزلاً مهجوراً، لكنهم اضطروا إلى قضاء الليل في الغابة.
ويبدو أن الحيوانات البرية فوجئت بالبشر الذين اقتحموا موطنها وبينما كان من الطبيعي أن تهرب أو تهاجم، بدا عليها الارتباك ألقى آلفين سكّينه على خنزير بري، وفي اللحظة ذاتها تقريباً أطلق ماثيو النار عليه ببندقيته.
اقترب أليكس من القائد وهو يستخرج السكين من الجثة وهمس:
“يا صاحب السمو، لماذا يطلق الإيدلينيون النار في أماكن كهذه؟ أليس ذلك مضيعة للرصاص؟”
تنهد آلفين وقال: “من يدري؟ ربما بدافع الكسل ثم لا تنسَ أن هؤلاء ليسوا جنوداً نظاميين، إنهم مدنيون لا يمكنك مقارنتهم بك.”
قُدّم الخنزير البري للأطباء الذين اعتنوا بالمرضى خلال الرحلة، وتناول الآخرون القليل من الطعام الذي جلبوه معهم من القاعدة.
لكن المشكلة كانت فيما بعد إذ كان عليهم قضاء الليل في الغابة، بهذا العدد الكبير ورغم أنهم كانوا يملكون معدات لنصب خيام، إلا أن نصبها من أجل بضع ساعات من النوم كان مرهقاً للغاية فاختاروا إشعال النيران وتوزيع الحراسة الليلية.
في أحد أطراف المكان، بدأت نساء إيدلين بأخذ أماكنهنّ واحدة تلو الأخرى وعلى الطرف المقابل، جلس جنود فيتسمارك. أما رجال القاعدة فقد اصطفوا في المنتصف وكأنهم يحرسون نساءهم.
كانت كلوي تتنقّل بينهم وهي توزّع البطانيات بسرعة تعالت أصوات الصراخ في أرجاء المكان: “قنبلة!”، لكن الجميع التقطوا البطانيات بسرعة ورفعوا إبهامهم إعجاباً.
“كلوي، كانت رمية رائعة!”
نادى أحد جنود إيدلين الذي التقط بطانية:
“كلوي.”
“ماذا؟”
“أشعر وكأننا في نزهة.”
تمتمت كلوي بدهشة:
“…أريد حقاً أن أتعلم طريقة تفكيركم الإيجابية.”
كانت تلك الجملة مزحة سخيفة قليلاً، لكنها في الحقيقة كانت صحيحة بسبب سوء الأحوال، أصبحت كل كلمة فكاهية تُقال ذات قيمة ومصدر ترحيب.
ضحكت كلوي ضحكة خفيفة وبدأت تنظر حولها لترى إن كان هناك من يفتقر إلى بطانية، أو إن كان الجميع قد وجد مكاناً مناسباً للنوم ولما لم تلاحظ شيئاً غير عادي، عادت إلى مكانها ويبدو أن آنا كانت قد أنهكها التعب من الرحلة، فقد كانت قد لفت جسدها بالبطانية استعداداً للنوم بالفعل.
كان ألفين يراقب كلوي بصمت من بين رجال فيتسمارك وأمال رأسه قليلاً وهو يتساءل:
“هل سبق لها أن خاضت تجربة التخييم؟”
لكن على عكس ما كان ألفين يظنه، كانت كلوي قد نامت في العراء أكثر من مرة فهي كانت في الأصل من فرقة مسرحية متنقلة.
لكن في تلك الأوقات، كانت هناك عربات أو خيام أما أن تنام على الأرض مباشرة، وتحت السماء دون أي سقف، فكانت تلك أول مرة لها أيضاً.
وبينما كان ألفين غارقاً في التفكير، التقط بطانيته وسار نحو كلوي إلا أن رجال القاعدة الذين كانوا في حالة تأهب شديد، عبسوا في وجهه ومنعوه من الاقتراب.
“ماذا تنوي أن تفعل؟ عد إلى مكانك.”
لقد كان موقفاً معقداً: في ظلمة الليل، ينام الرجال والنساء في نفس المكان وكان رجال القاعدة يتقدون غيرةً لحماية نساء بلدهم من “وحوش فيتسمارك”، كما يرونهم وأي تصرف مريب قد يشعل حرباً حقيقية.
ألفين تفهم دوافعهم بل وكان يحترم مشاعرهم إلى حد ما لكنه لم يستطع كتم ابتسامة سخرية ارتسمت على شفتيه.
نعم، هن نساؤكم، لكن إحداهن أيضاً امرأتي.
دفع كتفي الرجلين اللذين اعترضا طريقه، ثم تقدم نحو كلوي، التي كانت تحدق فيه بعينين متسعتين من الدهشة.
رمى ألفين بطانيته نحو كلوي دون أن ينبس بكلمة، ثم استدار عائداً.
أما رجال القاعدة الذين كانوا يلوحون بأسلحتهم فقد ارتسمت على وجوههم تعبيرات حرج، بينما نظرت نساء القاعدة إلى كلوي بأعين متسائلة لامعة مليئة بالفضول ولولا هذا الوضع المتدهور، لكانت كلوي تعرضت لسيل من الأسئلة طيلة الليل.
أما هي، فأمسكت بالبطانية بوجه مرتبك وقالت:
“يعني، كيف يريد إن ينام ؟ يتظاهر بالقوة كالعادة…”
راودها شعور أنها ربما يجب أن تعيدها إليه، لكنها لم تتحرك، فقد كانت آنا التي بدت وكأنها قد استسلمت للنوم تواً، تدق على جنبها بلطافة بإصبعها، وكأنها تقول لها: احكي لي بسرعة! ثم كررت الحركة مرتين وثلاثاً.
في محاولة للهروب من هذا الموقف، غطت كلوي وجهها بالبطانية التي رماها عليها ألفين، لكنها لم تتمكن من النوم بسهولة حتى وقت متأخر جداً من الليل.
بعد أن ظلت تتقلب طوال الليل، وربما غفَت لساعتين بالكاد، استيقظت لتجد معظم الناس قد استيقظوا فعلاً وبدؤوا بالتحضير للفطور والانطلاق مجدداً.
أما ألفين، فكان واقفاً على مسافة بعيدة ينتظرها أن تستيقظ، كي لا يثير قلق النساء الأخريات ولما التقت عيناه بعينيها بعد أن نهضت ونظرت حولها، سألها:
“هل نِمتِ جيداً؟”
بالنسبة لألفين، كانت مثل هذه الليالي في الخلاء أمراً معتاداً تماماً هو ورفاقه كانوا من النوع الذي يأكل وينام فوق الأشجار لأيام دون تذمر ومع ذلك، لم يتمكن من إغلاق عينيه في الليلة الماضية فقد كان قلقاً من أن يقترب منها أحد.
لكن وجه كلوي بدا وكأنها نالت قسطاً أقل من النوم مما ناله هو كان شاحباً كوجوه المرضى.
ولم يكن ذلك غريباً فبعد لحظات من التحديق الفارغ، سألت كلوي:
“ألفين.”
“أجل، ما الأمر؟”
“…هل داسني أحد بقوة الليلة الماضية؟”
في الواقع، من الآثار الجانبية للتخييم في العراء هو الألم العضلي ومع تعبير الألم الذي ظهر على وجهها، نظر إليها ألفين بشفقة، لكنه لم يستطع كتمان ضحكته.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 20"