كانت الوحدة الخاصة التي استدعتها فيتسمارك تعاني من صعوبات جمّة.
لقد نجحوا في عبور سلسلة الجبال الوعرة، لكنهم لم يستطيعوا تفادي أنظار وحدات إديلين القريبة تمامًا في البداية، كانت المناوشات مقتصرة على قتل الكشافة واحدًا تلو الآخر، وتبادل إطلاق النار المتقطع غير أن صوت الطلقات كان بمثابة شرارة جديدة، فاشتدت المعركة مع مرور الوقت.
كانت الخطة منذ البداية محفوفة بالمخاطر؛ إذ كان عليهم تحمّل الصعوبات الجغرافية للتسلل خفية إلى قلب العدو كما كان عليهم الحفاظ على القدرة على التحرك تحسبًا للانسحاب، ونتيجة لذلك، لم يتمكنوا من إحضار عدد كافٍ من المدافع المتنقلة.
ومع ذلك، فإن ما مكنهم من التقدم حتى هذه النقطة كان وجود ساحر النار لا غير والآن، أمامهم أربعمئة جندي من إديلين، وخلفهم مباشرةً توجد قاعدة ويلينغتون الطبية.
لكن ساحر النار زمّ شفتيه وسبّ قائلاً:
“اللعنة!”
فالهدف بات قاب قوسين أو أدنى، لكن استعادة قواه السحرية بطيئة جدًا حتى ولي العهد، الذي طالما اعتبره مصدر فخر، بدأ مؤخرًا يشكك في قوة سحره.
“متى بدأ الخطأ؟”
عضّ الساحر على شفتيه الداكنتين بقوة ربما بدأ ذلك عندما كان الأمير الثالث ينفذ عملية التسلل إلى هذه القاعدة فمنذ أن استخدم سحره في ذلك اليوم، وهو يشعر أن قواه السحرية تتسرب منه شيئًا فشيئًا، وكأن هناك شرخًا في وعائه.
ومع ذلك، رفع يده من جديد رغم العرق البارد الذي يتصبب منه لقد حان الوقت ليُظهر نتيجة حاسمة هذه المرة.
***
حين خرجت كلوي من المبنى، كان المشهد أمامها عبارة عن كرات من النار تتطاير بكل معنى الكلمة المدافع والبنادق وسحر النار، كلها ساهمت في إشعال معركة فوضوية مرئية للعيان.
ومع ذلك، وفي خضم هذه الأزمة، كان أهل القاعدة مختلفين في الرأي.
قال أحدهم:
“يجب على من يعرف استخدام السلاح أن يخرج ويقاتل!”
لكن رأي آنا كان مختلفًا:
“لا يزال هناك الكثير من الجنود غير القادرين على الحركة الهدف الأساسي من القاعدة ليس القتال، بل علينا أولًا إجلاء الناس بأمان.”
فردّت الأخرى:
“آنا، علينا أن نقاتل وننتصر لنتمكن من تأمين الأمان في النهاية!”
“وماذا إن خسرنا؟ هل نموت جميعًا إذًا؟”
ساد الصمت بين أفراد القاعدة للحظة.
قالت آنا:
“نحن على الأقل نستطيع الهرب، أما المرضى، فهم مستلقون هنا غير قادرين على الحراك، وسيموتون في أماكنهم.”
كان افتراضًا قاسيًا، لكنه ممكن وبعد لحظة من التفكير العميق، قام ماثيو بتوزيع المهام.
قال:
“أرسلوا طلب دعم إلى الخلف، ولتلتحق فرقة الاستطلاع بالمعركة فورًا أما الأفراد غير القتاليين، فقوموا بنقل المرضى، وسيقوم الحراس بمرافقتهم آنا، أعتذر، لكن هذا أفضل ما يمكننا فعله.”
قالت آنا:
“وأين سننقل المرضى…”
كان ألفين، الذي كان واقفًا بعيدًا يسمع الحديث، قد أعاد نظره إلى السماء يتفحصها بعناية كانت الومضات أضعف من ذي قبل، وهذا يعني أن النهاية باتت وشيكة كان يتفحص السيف الذي أعطته إياه كلوي وهو يفكر:
أين يكون الآن، ساحر ولي العهد؟
في تلك اللحظة، اقترب أليكس من ألفين وهمس له:
“يا صاحب السمو، دعنا نغادر الآن يبدو أن أنظار الجميع مشتتة.”
“…….”
نظر إليه ألفين بصمت، ثم خطا دون أن ينبس ببنت شفة نحو كلوي كان ينوي أن يوصيها بعدة أمور.
ربما لن تصل تأثيرات السحر إلى مقدمة القاعدة، لكن لا يمكنه الجزم بما يكفي حين يتعلق الأمر بحياتها لذلك، لم يكن أمامه سوى خيار واحد أراد أن يخبرها أنه يجب مغادرة القاعدة مع المرضى فور سقوط النار في مكان بعيد لأن جمع الطاقة لتحضير السحر التالي سيتطلب وقتًا.
لكن أليكس لم يكن الوحيد الذي لاحظ أن أنظار الناس مشتتة فما إن فُتحت أبواب القاعدة من قبل الحراس، حتى حدث أمر غير متوقع من الداخل أيضًا.
كان جنود فيتسمارك يقيمون خارج عنابر المرضى، وبالنسبة إليهم، كانت الومضات في السماء إشارة للإنقاذ وعلى الرغم من أن معظمهم كانوا في حالة ارتباك داخل الثكنات، إلا أن قلة منهم، ممن كانوا يترقبون الفرصة، تسببوا في فوضى داخل القاعدة.
ركض جنود فيتسمارك خارجين، وانتزعوا أسلحة الحراس، وضربوهم بعقِب البنادق، وفرّوا بأقصى ما لديهم من قوة.
“إنه الدعم! لقد جاؤوا لإنقاذنا!”
وفي مقدمة أولئك الجنود، ظهر وجه يعرفه كلوي جيدًا، كان وجه المؤلف الموسيقي.
“لوسيان…”
صرخ ماثيو موجهًا أوامره للناس:
“أطلقوا النار! أغلقوا البوابة بسرعة!”
بدأ أفراد القاعدة السيطرة على الداخل عبر إطلاق النار بدقة، لكن الأوان كان قد فات استمرت الخسائر البشرية في الظهور داخل القاعدة أما وحدة إديلين الأمامية، فباتت في حيرة من أمرها، لا تدري في أي اتجاه تصوّب بنادقها، بعد أن رأت الأعداء يركضون من الخلف أيضًا.
أما جنود فيتسمارك الذين تمكنوا من الفرار، فأخذوا يلوّحون ببزّاتهم العسكرية لإعلام القوات الداعمة بوجودهم “نحن هنا، ما زلنا على قيد الحياة.”
لكن بالنسبة لساحر النار، الذي جاء حتى هنا ليمحو قاعدة ويلينغتون الطبية عن بكرة أبيها، كان هذا إشارة من نوع آخر تمامًا قرّر أن يستخدم ما تبقى من قواه السحرية، التي ادخرها للانسحاب، على أولئك الأسرى أيضًا.
وحين دخل جنود فيتسمارك مدى التأثير، رفع الساحر يديه عالياً.
وفي تلك اللحظة، تجمّد وجه ألفين بعدما تأكد من موقع الومضات في السماء.
“ذلك المجنون….”
“يا، يا صاحب السمو، ما هذا….”
ذلك المشهد كان صدمة للجميع، دون تفرقة بين صديق وعدو.
رأت كلوي الموسيقي الذي طالما أحبّته، يختفي من هذا العالم في لحظة واحدة جنود إديلين الذين كانوا يصوّبون بنادقهم إلى الأمام والخلف لم يصدقوا أعينهم، أما أهل فيتسمارك الذين كانوا يراقبون الوضع من قرب الثكنات، فأنكروا ما رأوه بكل ما أوتوا من قوة.
من بين الجنود الفارين، كان هناك من يرتدي الزي العسكري، ومن كان يلوّح به وأيّ شخص خدم على الجبهة لبضعة أيام فقط، لا يمكن أن يخطئ في تمييز ذلك اللون.
لكن رغم هذا، في البداية، ظنّ جنود فيتسمارك داخل القاعدة:
لابد أن ذلك كان خطأً فالسحر الناري واسع النطاق لا يمكن أن يكون دقيقًا في التصويب.
لكن السحر، الذي صُبّ بكل ما أوتي من قوة، تجاوز مجددًا قوات إديلين، ومع هذا لم يبلغ القاعدة التي كان الساحر يستهدفها، بل سقط بالقرب منها فقط.
فإن كان ذلك خطأً، فهكذا تكون الأخطاء، وإن كان فشلًا، فهكذا يكون الفشل.
لم يعُد بإمكان جنود فيتسمارك إنكار الحقيقة.
الجيش كان ينوي التخلي عنا منذ البداية.
بدأت نظراتهم تخبو تدريجيًا حتى أصبحت مظلمة كالحلكة.
وفي تلك اللحظة، أعاد جيش إديلين في المقدمة القصف من جديد.
انسحب جيش فيتسمارك بعد أن أطلق آخر نيران له على قوات إديلين، وبدأ جنود إديلين بمطاردتهم على الفور.
كانت كلوي، وسط حيرتها الشديدة، تنظر إلى ألفين كان وجهه خاليًا من التعبير، أما أليكس الواقف بجانبه، فقد شحب لونه تمامًا.
وحين بدأ ألفين يتحرك فجأة، أمسك أليكس بيده على الفور كانت يده الساخنة ترتجف بشدة.
“يا صاحب السمو، لا يجوز الآن!”
في البداية، ظنّ أليكس أنه كان على ألفين الخروج في الوقت السابق، لا الآن، ولماذا يُقدم مجددًا على تصرّف متهور؟
لكن بعدها، أدرك أنه لم يكن كذلك.
تصرف الساحر كان مقصودًا بلا شك.
كاد القائد، لولا نصيحته، أن يُقتل وسط وابل من كرات اللهب الساقطة من كل صوب.
“جيش إديلين الآن يُفتّش هذه المنطقة بكل دقة وسيصلون إلى هنا قريبًا وقد رأيتم كل شيء قبل قليل ذلك الوغد… ولي العهد لا ينوي إنقاذ أحد من الموجودين هنا ومهما كانت مكانتكم، لا يمكنكم مواجهة ذلك الساحر.”
عندها، بدأ ألفين يتراخى شيئًا فشيئًا.
وبينما ينظر إلى أليكس، الذي كان يمنعه من كل قلبه، همس قائلاً:
“…يبدو أنك لست كذلك.”
“عفواً؟”
“ألست من المفترض أن تبدأ بالعمل معي قريبًا؟”
“…عفواً؟”
لكن ألفين لم يُجب بل اتجه نحو كلوي، التي كانت تقف مترددة على بُعد، تنظر إليهم وتتساءل إن كان بإمكانها الاقتراب وسرعان ما سارت نحوه.
“…ألفين.”
أمسكت بيده المشدودة بالأوردة، فقال ألفين بهدوء:
“كلوي، بما أن الطريق قد فُتح، فسوف يعود مرة أخرى وربما يكون مختبئًا في مكان ما.”
“…….”
“من الأفضل أن نُخلي القاعدة هل هناك مكان يمكن الذهاب إليه؟”
عندها، بدت ملامح كلوي أكثر حيرة من ذي قبل.
أين يمكن أن يقيم هذا العدد الكبير من الناس؟
لا يمكن الاعتماد على وحدات الاستعداد القتالي، والعاصمة بعيدة جدًا.
وبينما كانت تمسك رأسها وتفكّر، تذكّرت فجأة رسالة مركيز ويلينغتون:
كلوي، على بُعد ثلاثة أو أربعة أيام إلى الجنوب الغربي من القاعدة، هناك قلعة قديمة.
منذ أن تقدمت إديلين شمالاً، لم تعد ذات قيمة استراتيجية، فتم التخلي عنها.
لكن أثناء الحرب الثانية مع فيتسمارك، استُخدمت كحصن.
أومأت كلوي برأسها.
“نعم، يوجد.”
ثم غادرت على الفور للتشاور مع ماثيو وباقي أفراد القاعدة.
ومضت أيام دون أن تهدأ الأوضاع.
تسببت قوات فيتسمارك المنسحبة في أضرار جسيمة حتى في المناطق السكنية.
تلقت كلوي خبرًا مفاده أن القرية التي تم ترميمها قد احترقت بالكامل.
ضحكت بمرارة.
لمَ بنينا كل تلك الأسوار بإصرار؟ ونحن نعلم أنها ستنهار مجددًا.
كل الوحدات المرابطة على الجبهة الثانية بدأت عمليات تمشيط مشتركة.
وفي هذا الوضع القلق، لم يكن بالإمكان الانتقال على الفور.
كان في القاعدة عدد كبير من غير المقاتلين والمرضى.
لكن المشكلة الأكبر كانت شيئًا آخر.
الناس بدأوا يشكّون في جدوى هذه القاعدة.
في ذلك اليوم، لم يكن بين القتلى من إديلين عدد كبير.
فجنود فيتسمارك لم يكونوا يحملون أسلحة في المقام الأول.
ولم يكن أحد الطرفين قد هاجم الآخر بكل قواه.
بل، بعد قضاء وقت طويل معًا، صار كل طرف يعرف الآخر جيدًا.
ومع ذلك، كان الحراس الذين فقدوا زملاءهم، يتطلعون إلى جنود فيتسمارك الباقين وهم يتساءلون:
هل لدينا سبب حقيقي لاحتضان هؤلاء؟ هل يجب علينا علاجهم؟
حتى الأطباء المتفانون، والكهنة الذين دعوا لمحبة الأعداء، كانت تعلو وجوههم نظرات معقدة أحيانًا.
هل أنقذناهم بدافع الشفقة فقط؟
كلا. لقد كانوا، في بعض الأحيان، دروعًا.
كانوا وسيلة وقائية ضعيفة ضد هجمات العدو، وكانوا وسيلة لإنقاذ مزيد من الأرواح،
بل كانوا، بالنسبة لبعض الأفراد، وسيلة لتحقيق شعور زائف بالرضا والقيم الشخصية.
بات جنود فيتسمارك الباقون يبدون وجوهًا تخلّت عن الحياة.
الجيش تخلّى عنهم، وهذا يعني أنهم فقدوا قيمتهم كأسرى أيضًا.
لم يعودوا يتوقعون أي معاملة إنسانية داخل القاعدة،
كل ما تمنوه هو ألا يموتوا.
وقفت كلوي تتأمل جنود فيتسمارك وهم ينقلون الإمدادات بخجل، محاطين بالجنود المدججين بالبنادق.
يا سيّدي المركيز، لقد كنت مخطئًا في النهاية.
هذا النوع من الحلول لا يصلح.
وجود هؤلاء لم يجعل القاعدة أكثر أمنًا ولو قليلاً.
لم يتردد ساحر النار، ولا جيش فيتسمارك في مهاجمتهم.
لم يفكروا في الأمر لحظة.
وهذا يعني أنهم لم يكونوا من ذات الطرف، ولم يكونوا أصدقاء.
بل الذين ترددوا في إطلاق النار، والذين تلعثموا، كانوا أفراد القاعدة.
وكان من جنود فيتسمارك من لم يُطلق النار على أحد، حتى بعد الاستيلاء على البنادق.
لقد رأتهم وهم يترددون، لا يدرون ما يفعلون.
لكن هذا لا يعني أننا يمكن أن نصبح أصدقاء حقيقيين معهم.
كانت ليلة الأيام الماضية الدليل القاطع على ذلك.
لقد كان كل ما فعلناه مجرد مجهود ضائع.
فالعالم ليس حكاية خرافية.
نظرت كلوي إلى محيط القاعدة المتفحّم بعينين مليئتين بالألم.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 19"