“تفضل.”
“أخيراً جاء دوري أظن أن رجال القاعدة كلهم تلقوا واحداً على الأقل.”
رغم أنه أضاف تعليقاً يحمل شيئاً من المعنى الخفي، إلا أن ملامحه بدت سعيدة، فقد كان يحدّق في البيضة وهو يبتسم بخفة.
ربما كان عليّ أن أُحضرها له منذ وقت طويل والآن بعد أن فكّرت في الأمر، لم أكن قد أوليت اهتماماً بشيء آخر له غير الملابس.
سألتُه وأنا أشعر ببعض التأنيب:
“هل تأكل البيض النيء أيضاً؟”
“لا أمانع أي شيء.”
أجاب ببساطة تامة، بينما مسح قشرة البيضة بطرف سترته.
قالت كلوي وقد اكتشفت أخيراً شخصاً متحضراً في هذه القاعدة:
“أنت فعلاً كائن هجين.”
هل من الطبيعي لجندي يطأ ساحة المعركة أن يكون بهذا الترتيب؟ وهل من الطبيعي لأحد من العائلة الملكية ألا يرفض شيئاً يؤكل؟
كان آلفين أول جندي تلتقيه كلوي في الجبهة يتمتع بهذا القدر من الانضباط، وكان أيضاً من القلائل الذين حطموا الصورة النمطية عن أفراد العائلات الملكية.
أما آلفين، فبدا كأنه لا يفهم السبب الذي جعل كلوي تقول مثل هذا الكلام لوّحت بيدها نافيةً أن تقصد شيئاً خاصاً، ثم جلست مجدداً إلى المكتب.
كان لا بد من إعادة جنود فيتسمارك إلى جناح المرضى قريباً، كما قال ماثيو.
صحيح أن موسم الأمطار لا يزال بعيداً، لكن لا يمكن ترك الأمور معلّقة إلى الأبد.
ذهبت كلوي تتأمل مخطط توزيع الأفراد وعددهم، بينما آلفين جلس وقد أسند ذقنه إلى يده، يتنقّل بنظره بين وجهها الجانبي والسماء المعتمة في الخارج.
“كلوي، ألم تقولي سابقاً إن جسدك يرتجف عندما لا تنامين جيداً؟”
“نعم، لماذا؟”
ابتسم وقال:
“هل أخبرك لماذا يحدث ذلك؟”
كل مرة كان يراقب فيها كلوي عن كثب، كان يزداد علماً بأمرها كان هو نفسه مشكلة، إذ كان يزورها فجأة كلما خطر في باله، لكنها كانت بالأصل ذات نمط حياة لا يمكن التنبؤ به.
كان يرغب غالباً في البقاء حتى يراها تغلق عينيها، لكنها كانت لا تنام بسهولة والأسوأ من ذلك أن بعض الليالي كانت تنام فيها كمن غشي عليه فجأة.
كما أنها لم تكن تأكل شيئاً يُذكر وكان الشيء الوحيد الذي يُحسب لها هو أنها كانت تمارس بعض تمارين التمدد أحياناً.
نهض آلفين من مكانه وفتح أحد الأدراج، ثم أخرج مغلفاً لطيفاً لقطعة حلوى، وفتحها ودفعها إلى فمها.
فتحت كلوي فمها لا إرادياً، وانتفخت إحدى وجنتيها بالحلوى الكبيرة، وهو ما وجده آلفين لطيفاً جداً.
“فمك صغير فعلاً”، فكّر وهو يقول:
“سواء استخدمتِ جسدك أو عقلك، فذلك يتطلب طاقة وإن كنتِ ترغبين في البقاء مستيقظة أكثر من المعتاد، فعليك أن تأكلي أكثر.”
“…….”
“لكن بما أنك لا تفعلين ذلك، فبدنك يبدأ بإرسال إشارات تعبر عن الإنهاك.”
كان من الصعب الاعتراض على كلامه لم يخطر في بالها ما تقوله، فظلت تمضغ الحلوى بصمت، ثم أخرجت قطعة أخرى وقدّمتها له.
ابتسم بعينيه وقال:
“افتحيها لي أنتِ أيضاً.”
تساءلت كلوي ما إن كانت قد تصرّفت بجفاء مرة أخرى، فهزّت رأسها موافقة وفتحت له الحلوى.
فتح فمه تجاهها، ثم مضغ الاثنان الحلوى الكبيرة جنباً إلى جنب كطفلين صغيرين.
رفعت كلوي ساقيها على الكرسي، وضمت ركبتيها وهي تحدق في الفراغ، تفكر: متى أصبحتُ على هذا الحال؟
ثم بدأت تشرح له متأخرة:
“أحياناً أثناء العمل، نضطر للسهر لعدة ليالٍ متواصلة، ونأخذ قيلولة صغيرة فقط لنستعد لسهر آخر وتكرار ذلك لست أو سبع سنوات يجعل جسدك غير قادر على النوم حين ينبغي له أن ينام.”
لكن آلفين، الذي بدت عليه الحيرة، قدّم ملاحظة مؤلمة نوعاً ما:
“ألا يمكنكِ أن تنامي قليلاً عندما تضطرين للسهر، وتعملي أكثر عندما يمكنكِ النوم؟ ألا يمكن توزيع الأمر بشكل مناسب؟”
نظرت إليه كلوي ببرود.
يا له من رأي يليق بقائد جيش يعتقد أن صوت الدجاجة حين تبيض هو بوق الاستيقاظ.
يا لهذا العدو اللدود.
لهذا السبب تتراجع العلاقات بين الصناعات المختلفة.
قالت:
“سأضرب لك مثلاً غريباً بعض الشيء كلامك يشبه هذا:”
“ما هو؟”
“أن تكون في خضمّ معركة ثم تقول: ’فلنتوقف لتناول الطعام ثم نكمل القتال.‘”
غطى آلفين فمه وضحك وهو يهز كتفيه، وضحكت كلوي أيضاً لأنها كانت تعلم أن المثال لا يُعقل.
بطبيعة الحال، في أثناء التحضير للعرض، تظهر العديد من المتغيرات غير المتوقعة لكن ذلك لا يعني تأجيل العرض الذي تعتمد عليه أرزاق الكثيرين.
ومع ذلك، لا يجوز المساومة على جودة العمل فما الذي يمكن التضحية به لسدّ هذه الفجوة؟
الجواب: الجسد والجهد البدني.
غير أن هذا المثال غير رشيق تماماً، فمعركة كلوي من أجل معيشتها وكرامتها، أما معركة الجنود فهي من أجل البقاء ذاته.
وفوق ذلك، لا يُعدّ هذا الأمر حتى مادة للنقاش، لأن معظم كتّاب المسرح يعانون من الأرق وآلام الظهر.
لذلك لديهم مزحة قاسية متداولة بينهم:
إن كنت تنام جيداً ولا تؤلمك ظهرك، فأنت إما عبقري فعلاً أو لا تعمل بجد.
بمعنى آخر: لست عبقرياً، لذا توقف عن التذمر وابدأ بإهلاك جسدك في العمل.
قالت كلوي:
“لكن، آلفين، إن شعر الإنسان أنه سيموت حقاً، فإن عينيه تُغلقان تلقائياً.”
مال آلفين برأسه، متسائلاً إن كانت تمزح هل تقصد أن تغمض العينين يعني النوم؟ أم أنها تعني الموت الحقيقي؟
قالت:
“ثم إن التركيز في الليل يكون أفضل وإن أكلت شيئاً وقتها، أشعر بالانتفاخ وأنام سريعاً.”
“ما الخلاصة؟ هل تريدين النوم أم لا تريدين؟”
“في الحقيقة، أنا أيضاً لا أعلم أحياناً.”
حين بدا آلفين مذهولاً، نظرت إليه كلوي وضحكت باستمتاع وهي تراقب تعابير وجهه.
وبعد هذه المحادثة القصيرة، عادا ليدحرجا الحلوى في أفواههما آلفين، وإن كان قد أكلها فقط لأنها أعطته إياها، لم يكن يحب مضغ الأشياء ببطء وهو يذيبها، فذلك لم يكن يناسب ذوقه أبداً.
وفي النهاية، سُمع صوت قرمشة في فمه وهو يسحق الحلوى.
كان آلفين يحدق طويلاً في شفتيها الممتلئتين اللتين أصبحتا الآن ناعمتين ولامعتين.
كان لسانها، وهي تحركه داخل فمها، يظهر بين الحين والآخر من جانب شفتيها، وتلك الحركة ذكّرته بشيء ما.
وفجأة، شعر آلفين بأنه لم يعد يريد الانتظار أكثر.
“هل الطعم لذيذ؟”
“أمم، إن كنت صادقة… فهو ليس من النوع الذي أفضل.”
فجودة الأشياء التي تصل دفعة واحدة ضمن الإمدادات كانت متقاربة في الغالب فلا مجال لتوقع طعم حلوى فاخرة من محل حلويات يدوي في العاصمة.
ابتسم آلفين بخفة، ثم قرّب يده من أمام فمها وقال:
“آه.”
“هم؟”
رمشت بعينيها فقط، فأشار بذقنه وكأنه يحثّها.
أخرجت الحلوى من فمها ووضعتها في كف يدها، ثم شعرت فجأة بالخجل لما فعلته.
لكن آلفين لم يبدُ عليه أنه يرى في ذلك أي حرج، بل فتح النافذة جزئياً ورمى الحلوى التي بللتها لعابها بلا مبالاة.
فأسرعت كلوي بمسح راحة يده بكمّها.
بعدها، جلس الاثنان جنباً إلى جنب على السرير فبعد أن لعبا كالأطفال بالحلوى، حان الآن وقت “لعبة الكبار”.
مال آلفين برأسه قليلاً، وفتحت كلوي شفتيها لتلبي دعوته.
امتدت يده الكبيرة إلى مؤخرة رأسها، تغوص في شعرها كأنها تبحث عن شيء فيه.
وكان لطعم ريق كل منهما حلاوة تشبه طعم الفاكهة المنقوعة في السكر.
مدّد آلفين كلوي على السرير واعتلى جسدها، ثم فكّ أزرار قميصه.
كان في عينيه مزيج من الرغبة القوية والابتسامة العابثة.
قال:
“بعد أن ننتهي، ستنامين جيداً.”
ومنذ وقت غير معلوم، صار اقترانهما الجسدي أمراً طبيعياً.
وربما كان هذا متوقعاً منذ زمن طويل: في الليلة التي زحفت فيها إلى فراشه، أو عندما نامت وهي تمارضه، أو حين تبادلا أول قبلة في المخزن.
كلوي، في تلك اللحظات، كانت تشعر بحرارة تكاد تنفجر داخلها.
كانت العيون تلاحق بعضها بلا وعي، والأجساد تنجذب بلا توقف.
وحين تتشارك معه دفء الجسد، كانت روحها تسبح في اللاشيء.
فقط لأنها تستطيع أن تركز في اللحظة نفسها دون أن تفكر في أي شيء آخر، كان هذا كافياً ليجعلها تحب تلك اللحظة.
كان قلبها يخفق بقوة.
وفي كل مرة كانت تهتز فيها أجسادهم، كانت شفتاها الصغيرتان تنفتحان.
ولكي لا يُسمع صوت غريب في الغرفة المجاورة، ظلت تعض شفتها السفلى باستمرار.
وكان يحدث أحياناً أن تعض شفتها بشدة، فيضطر هو إلى أن يكمّم فمها بيده الكبيرة.
وعندما كان ينظر إليها وهي تحبس صوتها ودموعها في عينيها، كان يشعر أحياناً وكأنه يعذّبها.
كان يعلم أن ما تفعله ليس مجرد رد فعل من الألم، لكن، لو كان بإمكانهما أن يتبادلا الحب بحرية أكثر، بلا أن تقيّدهما نظرات وآذان الآخرين، لكان ذلك أفضل.
في مكان أروع، دون أن نقع تحت رحمة أي ظرف يحيط بنا… فقط أنا وأنت.
كلوي، مثل الليالي السابقة، كانت تخرج أصوات “آه، آه” متناثرة على نمط الستكاتو.
وعندما كان يلعق أذنها، كانت تهمس بـ”آوووه” مثل نغمة ليغاتو.
وعندما قطّبت حاجبيها، مدّ آلفين يده ليمسّد شعرها بلطف، ثم أخذ يتحرك ببطء أكثر، باسترخاء.
فإن كان لا بد من تسمية إيقاعه، فربما كان “لارجو” أو “أداجيو”.
وبينما كانت هذه الأفكار تتوالى في عقلها، ظهرت بسمة على شفتيها رغم أن عينيها كانتا دامعتين.
رأى آلفين ذلك، فتبدّلت نظرته لتصبح أكثر حدّة.
“هاه… أليس من قلة الاحترام أن تفكّري في أشياء أخرى وأنتِ على السرير معي؟ هل لديك كل هذه السعة من الوقت لتشردي؟
أنا أكاد أجنّ هنا.”
رغم لهاثها، أنكرت كلوي قائلة:
“لا، هـه… كنت أفكر بك.”
“…….”
“لأنك… تشبه الموسيقى.”
لم يكن آلفين يستطيع القول إنه يفهم تماماً ما يدور في عقلها.
لكن شيئاً واحداً كان يعرفه يقيناً، وهو أن هذا أعظم مديح قد تمنحه كلوي لأي شخص.
ثم قال وهو يلعق خدّها وشفتيها بشغف يشبه شغف الوحوش:
“كيف تقولين شيئاً كهذا وأنتِ على السرير… هاه.”
“…….”
“وفوق هذا كله، على ما أذكر، أخبرتني من قبل أنك تحبين الموسيقى الصاخبة، أليس كذلك؟”
“…….”
“أليس كذلك؟”
لم تستطع كلوي أن ترد عليه.
لأن حركاته، بعد تلك الجملة، أصبحت أكثر شراسة من ذي قبل.
انطلقت أصوات غير مفهومة، وأنفاس متقطعة، وإيقاعات لا يمكن التنبؤ بها، تغمر أذنيهما وتملأ الغرفة.
فلو كان هو فعلاً موسيقى، فإن آلفين كان أشرس وأشد حرارة من أي لحن عرفته كلوي في هذا العالم.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 17"