ساحر اللهب، الذي تفتخر به فيتسمارك، هدأ مؤخرًا مرة أخرى.
ومع ذلك، فإن هيبته التي أظهرها كانت عظيمة لدرجة أن جيش إديلين لا يبدو قادرًا على التقدم بتهور.
لم أكن مهتمة كثيرًا بتاريخ الحروب، لكن مؤخرًا بدأت أشعر ببعض الفضول.
كيف كانت حرب فيتسمارك الثانية التي وقعت قبل مئة عام؟
وكيف انتهى الأمر بسحرة كلا البلدين، الذين كانوا بمثابة أسلحة، إلى الفناء؟
هل حقًا لم يتبقَ أي ساحر في إديلين؟
وأين اختفى سحرة نانسي، الذين لم يُذكر لهم اسم قط في سجل الحروب؟
– كلوي ريبرتا، تدوينات من الجبهة الثانية
***
كان قصر فيتسمارك الملكي يشهد اجتماعًا استراتيجيًا مشتعلًا كانت أجواء الاجتماع مشحونة أكثر من أي وقت مضى، وتبادل الحضور الكلمات الحادة.
فقد تغيب الملك المسن عن الاجتماع بسبب حالته الصحية.
ومع غياب من يجب أخذ رأيه بالحسبان، تبادل ولي العهد (الأمير الأول) والأمير الثاني الهجوم اللاذع ضد بعضهما البعض.
“أخي، هل يبدو أن ساحر سموك ضعيف البنية مؤخرًا؟ هل أرسل له بعض الأدوية الجيدة؟”
“وكيف لي أن أعرف إن كانت تلك الأدوية سُمًّا؟”
“أخي، ما هذا الكلام المرعب الذي تقوله؟”
الأمير الأول تمنى حقًا أن يقطع لسان ذلك المنافق، لكن الأمير الثاني لم يكتفِ، بل زاد الطين بلة بكلماته المستفزة.
“كنتَ تقول إنك واثق من جعلهم يعلنون الاستسلام قبل نهاية العام هل ما زلت ترى ذلك ممكنًا في هذه الحال؟”
“أتدري من هو أشرّ شخص في وقت الحرب؟ إنه العدو الداخلي الذي يبث الفرقة بكلماته الحمقاء، مثلك.”
ورغم تصاعد نبرة الهجوم، لم ينفعل الأمير الثاني بسهولة كالأمير الأول.
كان النبلاء يصفونه في الخفاء بالأفعى أو الثعلب.
قال بهدوء:
“أنا فقط أدعو للسير في طريق أيسر جنودنا الأعزاء يموتون كل يوم.
ولأن جيوش البلدين عالقة في طريق مسدود منذ فترة، أعتقد أن الوقت قد حان لاقتراح الهدنة.”
“وهل تظن أن ذلك ممكن حقًا؟ يبدو أنك نسيت من بدأ الهجوم أولًا.”
“آراء الناس قد تتغير، أليس كذلك؟ الوضع الآن مختلف كثيرًا عما كان عليه حينها.”
لم يعد الأمير الأول قادرًا على الاحتمال.
تضايق بشدة من رؤية النبلاء وهم يديرون أعينهم بين المتحدثَين، يبحثون عن الجهة التي عليهم أن ينضموا إليها.
قال بنبرة غاضبة:
“تريد أن تخوض الحرب وتبرم الهدنة بالكلام فقط سنرى إلى متى سيبقى هذا اللسان يعمل.”
وما إن غادر الأمير الأول قاعة الاجتماع غاضبًا، حتى أسرع مساعده للحاق به.
قال الأمير، بوجه ملتهب:
“ما آخر أخبار هذا اللعين؟ هل اتصل بالأسرة المالكة في إديلين؟”
“لا توجد معلومات مؤكدة حتى الآن، لكن يبدو أنه أرسل شخصًا إلى الوحدة التي يقودها الأمير الثالث.
ويُقال إن اللقاء لم يتم بسبب غياب الأمير الثالث.”
عندها صرّ الأمير الأول على أسنانه:
“ولماذا أرسل إليه؟ ما الهدف من ذلك؟!”
“…ليس من الصعب توقع السبب، أليس كذلك؟ لعله يريد دعمه.”
ورغم أن المساعد قال ذلك وهو ينظر في الأرض بحذر، أضاف:
“سموّ الأمير، إن تحالف الاثنَين معًا قد يسبب لنا مشكلة خطيرة.”
الوحدة التي يقودها ألفين لم تكن ظاهرة للعيان.
كانوا قلة يعملون في الخفاء، وغالبًا ما كانت مهماتهم استخبارية أكثر من كونها قتالية.
كانوا يتسللون إلى أراضي العدو بمفردهم، ويواجهون مخاطر أكبر من تلك التي يواجهها الجنود العاديون،
ومع ذلك كانوا يُعتبرون أدوات بالغة الأهمية بالنسبة للعائلة المالكة،
لكنهم، في الوقت نفسه، سلاح ذو حدين يمكن أن يشكّل تهديدًا في أي لحظة.
“ألفين هذا، يا له من لعين محظوظ.”
لم يكن يقصد أنه ينجو من الموت بأعجوبة فحسب.
بل ألفين، رغمًا عنه، كان يحمل مفتاحًا مهمًا في هذه الحرب،
سواء بين فيتسمارك وإديلين، أو بينه وبين الأمير الثاني.
وبعد تفكير، سأل الأمير:
“ما حال ساحري؟”
“يبدو أنه لم يستعد كامل عافيته بعد.”
في الحقيقة، ما جعل الأمير الأول يستشيط غضبًا في الاجتماع،
هو أن ساحر اللهب لم يعد كما كان في السابق.
لم تكن المشكلة فقط في الوقت الذي يحتاجه لاستعادة طاقته السحرية،
بل إن قوته ونطاق سحره لم يعودا كما كانا.
وقد بدأت جبهة الأمير الثاني تشتبه في أن ساحر الأمير الأول يوشك على نضوب طاقته بالكامل.
لذا، فإن اقتراح الهدنة قبل تفاقم الوضع قد يتيح لهم فرصة أفضل للتفاوض بشروط مريحة.
من جهة أخرى، قرر الأمير الأول أن يتخلص من ألفين هذه المرة بشكل نهائي.
لم يكن يحتمل أن يرى ألفين يمنح الأمير الثاني جناحين يطير بهما.
“حينما يقف الساحر على قدميه، سيعبر الجبال ويهاجم المستشفى.”
“سموّ الأمير، هذا سيجعل من الصعب تحريك عدد كبير من الجنود دفعة واحدة.”
“لا يهم المهم أن يُقتل ألفين، وأن يعود ساحري سالمًا.”
فانحنى المساعد احترامًا وهو يتلقى الأمر.
بقي السؤال: متى سيتمكن الساحر من الوقوف مجددًا؟
***
لم تكن قاعدة ويلنغتون، في الجهة المعادية، تعلم شيئًا عن الخطط التي تُحاك ضدها.
كانت الأجواء فيها هادئة.
يبدو أن المعارك دخلت مرحلة من الجمود مجددًا، لكن هذا أتاح لأفراد القاعدة أن يتنفسوا قليلًا.
عدد الجرحى بدأ في الانخفاض تدريجيًا.
لكن أفراد القاعدة لم يعودوا يخرجون إلى ساحة المعركة كما كانوا من قبل لإنقاذ المصابين.
فقد كانوا منهكين للغاية.
أمام خطر الموت من الإرهاق، حتى أعظم مشاعر الإنسانية تتراجع أمام أول فكرة تخطر في البال:
“عليّ أن أعيش أولًا.”
كانت كلوي وماثيو جالسين أمام قفص الدجاج، يتحدثان بهدوء عن شؤون القاعدة.
“هل نعيد جنود فيتسمارك إلى داخل المبنى؟”
“بعد عدة أيام لا طاقة لي للتعامل مع ذلك الآن.”
“معك حق.”
هز ماثيو رأسه بشدة، متفقًا معه بشدة.
“لكن، ماثيو…”
“نعم، ما الأمر؟”
“هل هذه القاعدة آمنة حقاً؟”
كان هذا السؤال بسبب معرفة ألفين الدقيقة بتحركات الحراس فمجرد معرفته بهذه التفاصيل أمر مقلق بحد ذاته، وإذا كان هناك جنود آخرون من فيتسمارك على ذات القدر من الاطلاع، فقد يكون ذلك مزعجاً جداً شعر ماثيو بالإهانة من التشكيك في كفاءته، فبدت على وجهه ملامح التبرم بسرعة.
“كلوي، هذا القدر من الحراسة على مستشفى يُعد مبالغة في الواقع.”
“لكن هذا ليس مستشفى عادياً.”
“هناك قوات متمركزة في الخطوط الأمامية، ما دام جيش إيدلين صامداً فنحن بأمان أيضاً.”
لكن هذا ليس ما كنت أقصده.
كانت كلوي تلتقط بعض الحشائش من الأرض عندما فتحت باب قن الدجاج وكالعادة، لم تكن الدجاجات صبورات أبداً فقد اقتربن منها قبل أن تملأ لهن المعلف وبدأن ينقرن يدها صرخت كلوي من الألم ثم رمقت إحداهن بنظرة حادة.
“أنتِ! لقد هاجمتني مجدداً.”
“هل أنتِ بخير؟ دعيني أرى.”
اقترب ماثيو ليتفقد يدها بقلق، بينما تحدثت كلوي ببرود إلى الدجاجة:
“لا تقتربي مني، نحن مقاطعتان حتى بعد غد.”
أخرجت كلوي بيضتين من القن ثم نظفتهما بعناية أعطت إحداهما لماثيو ووضعت الأخرى في جيبها، فما كان من ماثيو إلا أن نظر إليها بشكّ.
“لمن ستعطينها؟”
“لا أحد… فقط.”
“…ألفين؟”
توقفت كلوي فجأة عن الكلام بعدما أصابت كلمات ماثيو كبد الحقيقة لم يكن ماثيو حاد الملاحظة، لكن من الواضح أن كلوي وألفين أصبحا يقضيان وقتاً أطول معاً كانا يتناولان الطعام معاً، ويتنزهان، وغالباً ما يُرى ألفين وهو يساعدها في الأعمال المختلفة في هذا الوضع، من لا يلاحظ الأمر يكون أحمقاً.
وكانت ردود فعل الناس في القاعدة، وكذلك جنود فيتسمارك، أكثر تقبلاً مما كانت تتوقعه كلوي فقد بدت العلاقة بين شابين وسيمين تحت جدران حصن كأمر طبيعي تماماً.
والأهم من ذلك، أن الجميع كانوا بحاجة إلى بعض القصص المثيرة للنميمة لم يعودوا يهتمون بتطورات الحرب بقدر اهتمامهم بأحاديث الحب والعلاقات كانوا جميعاً صادقين في رغبتهم تلك.
وفي أحد الأيام، اقتربت آنا من كلوي وسألتها بهدوء:
“كلوي، هل أنتما على علاقة؟”
“لا، أعني… ليس تماماً.”
“في الحقيقة، كنت أشك في ذلك منذ مدة فغريزة المرأة المتزوجة لا تخطئ.”
“هل لهذا أي أساس علمي حقيقي؟”
“طبعاً! …لكن هل يعاملكِ ذلك الشاب بلطف؟”
في تلك اللحظة، لم تكن آنا تُظهر ملامح مديرة صارمة للقاعدة، بل كانت تشبه كلوي عندما كانت تنتظر إصداراً جديداً من روايات لوسيان بشغف، أو مثل جوليا التي تترقب الجزء التالي بفارغ الصبر.
أما الشخص الوحيد الذي لم يتقبل الوضع بسهولة، فكان ماثيو سألها بوجه عابس مليء بالقلق:
“ألا ترين أن الوضع لا يسمح بعلاقة كهذه؟”
“ماثيو، يُقال إنه حتى في زمن الحرب يولد الأطفال.”
قالت كلوي ذلك بصوت آلي وجاف، ناقلةً نكتة كانت جوليا قد قالتها يوماً ما أما ماثيو فقد شحب وجهه وقفز من مكانه كمن أصيب بصدمة.
“لا تقولي إنكِ….”
“ليس كذلك! إنها مجرد نكتة، فلا تُسيء الفهم.”
لم تعد كلوي تنوي إخفاء علاقتها بألفين، فقد كان ذلك مستحيلاً من الأساس لكنها أيضاً لم تكن تنوي البوح بكل التفاصيل الصغيرة أمسكت بالبيضة الموجودة في جيبها ونهضت من مكانها.
كان ألفين يأتي إلى غرفة نوم كلوي كل ليلة تقريباً منذ تلك الليلة الماضية ورغم أنها طلبت منه أن يخفف من ذلك حتى لا يُقتل فعلاً، إلا أنه لم يكن يصغي لها كانت تشعر أن السبب لم يكن فقط رغبته في البقاء معها، بل أيضاً قلقه عليها.
وهكذا، كان ألفين حبيباً أفضل بكثير مما توقعت كلوي صحيح أنه أحياناً كان يتصرف وكأنه في مهمة دعم مدني بسبب خلفيته العسكرية، لكنها رأت في ذلك جانباً إيجابياً فقد كان يحاول حمايتها بكل ما يستطيع.
كان يظهر في اللحظة التي تمسك فيها شيئاً ثقيلاً ليساعدها في حمله، ويتنازل عن طعامه في الليل ليعطيه لها لتأكله.
وفي أحد الأيام، خرجا معاً للمساعدة في أعمال الترميم بأحد المنازل المدنية.
“ألفين، لماذا تخلع كل هذه الأشياء؟”
سألت كلوي بدهشة بينما كان يزيل أقفال الباب.
“أليس هذا المنزل بلا مالك؟”
“هو كذلك… هل تنوي بيعه كخردة؟”
“أفكارك دائماً مبتكرة.”
“هل تعرف كيف يعيش العامة من الناس؟”
ضحك طويلاً دون إجابة، وفي تلك الليلة بحث عن مطرقة فكرت كلوي للحظة إن كان من الحكمة إعطاء أداة خطيرة كهذه لرجل يحمل ملامح شرسة بطبعه، لكنها لم ترَ في ألفين إنساناً عنيفاً بلا سبب.
أضاف قفلين آخرين إلى باب غرفتها، ورغم ذلك بدا غير راضٍ وقال:
“أغلقي كل الأقفال ليلاً فوجودها على الأقل أفضل من لا شيء.”
وأحياناً، لم يكن يكتفي بزيارتها ليلاً، بل كان يدعوها إلى نزهة ليلية كانا يجلسان بجوار سور القاعدة يتأملان النجوم ويتحدثان طوال الليل.
تساءلت كلوي أحياناً إن كان لدى ألفين هوس بإرضاء من يواعده والاهتمام بها باستمرار لكنها كانت متأكدة تماماً من أنه لا يرغب في جسدها فقط هذا الشعور بحد ذاته كان مريحاً، ويمثل عزاءً ثميناً في وسط هذا الجحيم الحربي.
في تلك الليلة، كانت تراقب دخوله من النافذة، وأسندت ذقنها إلى يدها قائلة:
“علي أن أطلب من ماثيو تغيير مسار الدوريات.”
كان الوضع يزداد سوءاً فإذا كان من السهل على ألفين التسلل، فمن الممكن أيضاً لبقية الجنود الفرار، ولا أحد يضمن ألا يحدث ذلك.
لكن ألفين، وهو يغلق النافذة، ابتسم ساخراً وقال:
“أياً كان التغيير، فالنتيجة لن تختلف.”
كانت ثقته بنفسه مفرطة، لكنها لم تبدُ كاذبة، فلم تستطع كلوي سوى أن تعبس قليلاً ثم مدت إليه البيضة التي وضعتها على المكتب.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 16"