كلوي أعادت كتابة الرسالة التي لم تستطع إيصالها إلى جوليا في السابق.
جوليا، إن كنت قد أحببت أحدًا في خضمّ الحرب… فهل يعني ذلك أنني قد جننت؟
كانت تفكر بأنها يجب أن تلزم الصمت، ومع ذلك، كانت ترغب في أن تفضي بذلك إلى صديقتها وبسبب الخوف من الرقابة، لم تكتب سوى جملتين أو ثلاث، ومع أنها كانت تعلم أن الرسالة ستصل مختومة، إلا أنها لم تكن متأكدة من قدرتها على كتابة كل شيء حتى لو لم تكن هناك رقابة.
وبعد وقت قصير، وصلت رسالة رد بنبرة مرحة للغاية.
يا إلهي ، يا إلهي كلوي .
ما هذا الكلام الريفي الذي تقولينه ؟ في الحرب ، عادةً ما يُرزق الناس بالأطفال !
بدت جوليا في غاية الحماسة من دون أن تطلب منها كلوي شيئًا، أرسلت معها مستلزمات نسائية، من بينها قطع داخلية بألوان زاهية.
نظرت كلوي إلى قطعة القماش الصغيرة بحجم كف اليد بنفور، وتمتمت:
“لقد أصبحت سخيفة أكثر مع التقدّم في العمر يا لها من فضولية… شكرًا لكِ، جوليا.”
كما وصلت رسالة من أندريا شعرت كلوي بالارتياح لأنها لم تكتب تفاصيل كثيرة، إذ بدا أن جوليا ربما قد نشرت الخبر بين بقية التوأم أيضًا، لأن رسالة أندريا كانت مليئة بالضجيج.
كلوي،
أنا أعارض هذه العلاقة! لن أسمح بها حتى أتأكد من هو هذا الشخص بنفسي!
أنتِ ما زلتِ متأثرة بجراحك من التجربة السابقة، وعقلك الآن غير صافٍ.
يُقال إن الجراح التي يسبّبها الحب تُشفى بالحب،
لكن لا ينبغي أن ترتبطي بأحد وأنت في حالة ضعف.
أصبح وجه كلوي جامدًا.
“إلى متى سيظلون يتحدثون عن تلك القصة القديمة؟”
ثم فتحت أخيرًا رسالة بنجامين.
كلوي، لقد فهمت مقصودك من عدم ردك على رسالتي السابقة.
أتمنى أن تُحدثيني متى ما تغيّر رأيك.
وسمعت ما قالته جوليا، لا تهتمي بما قاله أندريا.
متى سيفهم أن موافقته أو رفضه لا علاقة له إطلاقًا بإرادتك؟
الشاعر لا يزال، وبأسلوبه الرقيق، يطلق سهامه بلا رحمة وبينما كانت كلوي تضحك بصوت مكتوم، سمعت حركة قرب النافذة، فنهضت على عجل وفتحتها.
كان ألفين يتردد على غرفة نومها كما لو كان منزله كانت كلوي تدّعي البرود، لكن قلبها كان ينكمش في كل مرة، بينما هو كان يتصرف بثقة مفرطة لم تعد قادرة على منع الشك من التسلل إليها.
هل أمن القاعدة بخير فعلًا؟
لكن هذا ليس من اختصاصها، وكان المسؤول عنه ماثيو، لذا لم يكن من السهل أن تتحدث في الأمر.
ابتسم ألفين وقفز من النافذة إلى داخل الغرفة، لكن وجهه تغيّر تدريجيًا، إذ راح ينظر بطرف عينه إلى ما على المكتب.
“……”
كان بالغًا بما يكفي ليدرك أن تلك القطعة المصنوعة من قماش لا يُعرف إن كان حريرًا أو قطنًا، ليست مجرد قماش.
أدركت كلوي متأخرةً إلى أين يتجه نظره، فذعرت وأسرعت تخفي قطعة الملابس الداخلية التي تبرز فيها روح البخل من صانعها خلف ظهرها.
لكن ردّة فعلها كانت واضحة جدًا، حتى أن ألفين لم يستطع تجاهلها، بل قال بابتسامة عابثة:
“يا لها من لحظة تبعث على الترقب هل هذا هو النوع الذي يعجبكِ؟”
“ألفين، هذا سوء فهم.”
“لا أظن ذلك.”
“لا أعرف ما الذي يدور في بالك، لكن صدقني، إنه سوء فهم تمامًا.”
وفي الحقيقة، كان يتمنى ألا يكون سوء فهم، فسألها ضاحكًا وعلى استحياء:
“كلوي، هل أخرج وأعود لاحقًا؟”
“لماذا؟”
“أفكر أن أُعطيكِ وقتًا لتبدّلي ملابسك.”
أمسكت كلوي بياقة قميصه وهزّته.
لماذا لا يتظاهر بأنه لم يرَ شيئًا؟
فتحت الدرج محاولةً إخفاء تلك القطعة التي تخجل حتى من تسميتها ملابس داخلية، لكن ألفين أوقفها فجأة وأمسك معصمها.
“ما بك؟”
ظنّت أنه يريد إحراجها، لكنه كان ينظر داخل الدرج.
وما إن تذكّرت ما يحتويه الدرج، حتى احمرّ وجهها خجلًا.
إذ كانت الحلوى الملونة لا تزال هناك كما هي.
سألها باستغراب:
“لماذا لم تأكليها بعد؟”
“……”
“هل ما زلتِ غاضبة من ذلك اليوم؟”
“إنها طعام للطوارئ.”
لكن بعدما فكر قليلًا، ضحك ألفين ضحكة خافتة وكأن الهواء قد خرج منه.
“لا زالت الطفولة حاضرة، أحلام وآمال أطفال قارتنا.”
نظرة ألفين التي توحي بأنه يعرف كل شيء جعلت كلوي تشعر بالخجل، فأرادت إخفاء شعورها فقالت بحدة مصطنعة:
“إن واصلت السخرية، سأطردك خارج القاعدة.”
ضحك ألفين وهو يحك صدغَه بإحراج وقال:
“لكنني لم أسخر منك اليوم.”
في تلك الأثناء، ألقت كلوي بالقطعة القماشية إلى داخل الدرج وأغلقته بعنف ألفين، وقد ثبت نظره على ذلك المكان، سأل مرة أخرى:
“هل كنتِ تنوين طردي فعلًا؟”
“لا، ليس كذلك، لكن…”
“هذا سيكون محرجًا قليلًا الآن هناك الكثير ممن يتمنون موتي بشدة.”
كلوي، التي كانت تحاول عبثًا التظاهر بعدم وجود شيء، توقفت عند سماع كلماته وحدقت فيه في المرة الماضية لم تتوقف كثيرًا عند قوله ذلك، لكون الوضع في وقت حرب، لكنه الآن بدا وكأن الأمر حقيقي فسألته بتردد:
“من الذي يتمنى موتك بهذا القدر؟”
“الكثيرون، لكن أظن أن الأمير الأول هو أبرزهم.”
في الحقيقة، لم يكن ألفين يثق تمامًا بالأمير الثاني أيضًا، فهو وإن نجح في القضاء على جميع القتلة، إلا أنه لم يتمكن من كشف جميع الجهات التي تقف خلفهم بعضهم انتحر قبل أن يُستجوب، والبعض الآخر اضطر إلى قتله أثناء تنفيذ المهمات.
ساد الصمت لوهلة، وفكّرت كلوي أن كل العائلات المالكة تمر بصراعات على السلطة، لكن أن تسمع الأمر من المعني مباشرة… بدا وكأن الأمر يفتقر إلى أدنى درجات الرحمة.
رغم ذلك، استمر ألفين بمراقبة ردّ فعلها، حتى قالت بصوت خافت، بعد تردد:
“حتى في تلك البلاد، يوجد من جنّ بسبب الغيرة.”
ضحك ألفين وكأن الأمر يثير اهتمامه فالأمير الأول كان معروفًا بحساسيته المفرطة تجاه من يظن أنهم يشكلون تهديدًا لمكانته.
نظرت إليه كلوي نظرة استغراب فكرة أن يحاول أحد أفراد العائلة قتله ويضحك عند ذكر ذلك لم تكن شيئًا طبيعيًا.
“هل أنت بخير؟”
“…”
“إذا تولّى الأمير الأول العرش…”
لم تستطع أن تكمل العبارة، لكنها بدأت تشعر بالقلق من فكرة أن يتم التخلص من ألفين بطريقة أو بأخرى.
ألفين جلس على طرف السرير، وحين لحقت به كلوي وجلست إلى جانبه، وضع ساقًا فوق الأخرى وأسند ذقنه إلى يده، ثم قال بعد تفكير:
“في فيتسمارك، هناك صراع بين جناحي الأمير الأول والثاني. الأول يريد استمرار الحرب، والثاني يدعو للهدنة ومن سيفوز في هذا الصراع سيكون الأقرب إلى العرش.”
فكرت كلوي قليلًا: “هل الجيش الفيتسمارك بخير مع كل هذه الانقسامات الداخلية أثناء الحرب؟” لكنها أدركت بسرعة أن هذا ليس من شأنها كمواطنة إديلينية، فاكتفت بهز رأسها.
ترددت قليلًا قبل أن تطرح سؤلها:
“وأنت؟ إلى جانب من تقف؟”
“لا أدري.”
ابتسم ألفين وهو يتهرب من الجواب، لكنه في الحقيقة كان مهتمًا بسؤالها فهي لا تزال تميل إلى تقسيم الأمور إلى “جانبك” و”جانبي”، رغم أنها في الأساس شخص لا ينتمي لأي طرف بل حتى هذه القاعدة التي يعيشون فيها غامضة الانتماء.
عندما لم تحصل كلوي على إجابة واضحة، عقدت حاجبيها وتنهّدت بأسف:
“ألفين، في وقت الأزمات، قد يكون من الضروري اتخاذ موقف واضح.”
“…”
“الحياد ممكن في أوقات السلم فقط أما وقت الحرب، فالصمت أو التردد يجعلانك هدفًا من كلا الطرفين.”
فالناس خلال الحرب يرفعون أصواتهم بوضوح، ليؤكدوا أنهم لا غموض في موقفهم، ويؤمنوا بذلك مكانهم داخل الجماعة، حتى وإن لم تكن مشاعرهم صادقة.
لكنها، في قرارة نفسها، كانت تعرف أن وضعها يختلف عن وضع ألفين، فالأخير أمير، وكلامه له ثقل سياسي.
ضحك ألفين بصوت خافت وهو يستمع لها، ثم هز رأسه وأجاب:
“أتمنى فقط أن يتمكن الأمير الثاني من السيطرة.”
“لماذا؟ هل هو من أمك؟”
بدت الدهشة على وجه ألفين.
“يا لك من خيال واسع.”
“آسفة، هل ذهبت بعيدًا؟”
اعتذرت كلوي سريعًا، لكن ألفين هز رأسه نافيًا فكان من المنطقي أن تظن ذلك.
“كلا الأميرين من نسل الملكة ذاتها أنا أميل إلى جانب الأمير الثاني فقط لأنني أراه الأنسب لمصلحة فيتسمارك.”
لكن هذا التوجه لم يكن خاليًا من العراقيل.
كانت قوة الأمير الأول أكبر بحكم أقدميته، وهذا ليس حتى أكبر المشاكل.
ألفين كان يشك إن كانت الأسرة المالكة في إديلين ستقبل بهدنة يقودها الأمير الثاني من فيتسمارك.
ومضى يشرح وجهة نظره، ثم سألها فجأة:
“كلوي، في رأيي، الحرب بدأتها إديلين.”
كلوي، التي كانت تشك بالأمر أصلًا، لم تستطع الجزم.
“لكن فيتسمارك هي من قتلت مبعوثينا أولًا.”
“إن كنتِ تفضلين تصديق ذلك فلا بأس لكنني كأمير وجندي، لا تنقصني المعلومات على الأقل، لم يكن للقصر في فيتسمارك يد في ذلك ولو كانت هناك استعدادات للحرب، لعلمت بها.”
“…إذًا من قتلهم؟”
هز ألفين كتفيه.
“لا أعلم أنتم رأيتم سلاحنا وافترضتم أننا خططنا للهجوم ونحن رأينا سحر نيرانكم وقلنا أنكم من بدأ وربما كان كل ذلك من فعل قطاع طرق.”
“…”
“لكن لا يمكن إنكار أن الوضع كان مناسبًا لكلا الأميرين كلٌ منهما كان بحاجة إلى ورقة قوية في صراع العرش.”
عبست كلوي بوجهها شعرت أنها اقتربت من حقيقة الحرب، لكنها لم تشعر بأي ارتياح.
فمعرفتها بذلك لن تغير شيئًا، بل جعلتها تحمل أسرارًا خطيرة لا يجب أن يعرفها المدنيون.
“ألفين.”
“نعم؟”
“أريد التوقف عن الاستماع أشعر أنني لن أتمكن من الموت بسلام إن استمريت هكذا.”
“لن أدعك تموتين، فلا تتحدثي عن ذلك مجددًا.”
لكن كلوي كانت تنظر بوجه يائس، المضحك أنها بالرغم من ذلك فتحت دفتر ملاحظاتها وبدأت تدون ما سمعته.
ألفين لم يملك سوى أن يبتسم ساخرًا كيف تستطيع الكتابة بذلك الوجه؟ يبدو أن الكُتاب لا يعرفون الرحمة.
شعرت كلوي بنظرته، فقالت وهي تكتب:
“لن أكتب اسمك، فلا تقلق حتى لو خرج هذا الدفتر للعامة، سأتحمل السجن وحدي.”
“كلوي، لو تم سجنك، سأزورك وأعتني بك.”
كان يتذكر كلامها السابق حين وعدته أنها ستنتظره حتى لو سُجن لكنه لم يقل لها إنه في الحقيقة سيهدم السجن لإنقاذها.
ضحكت بخفة.
“كلام مؤثر.”
اتكأ ألفين بجانبه على السرير وأخذ يراقبها بصمت، مستمتعًا بصوت القلم وهو يخط على الورق.
شعر بالهدوء يملأ الغرفة، وأغمض عينيه ليستريح، لكن صوتًا غريبًا جعله يفتح عينيه فجأة.
كلوي كانت نائمة على مكتبها، لكن عندما اقترب منها، رأى قطرات عرق باردة على وجهها الشاحب.
“كلوي.”
قلقًا من احتمال كابوس، هز كتفها برفق استيقظت بسرعة، لكن سلوكها بعد الاستيقاظ كان أكثر غرابة.
ما إن وقعت عيناها على دفتر الملاحظات أمامها، حتى بدأت تحدّق فيه باضطراب.
ألفين أيضًا نظر في الدفتر، لكنه لم يجد سوى سطرين مكتوبين.
“كلوي؟”
أمسك بخديها بين يديه، فشعر ببرودة جسدها وارتجافه.
بدأت تتنفس بصعوبة.
“ما بك؟”
“…”
“تنفسي… هيا.”
لكنها لم تستطع، وبدأت عيناها تدمعان.
أدرك ألفين أن ما تعانيه هو نوبة فرط تنفس، وهي حالة رآها كثيرًا لدى الجنود في الحرب.
مسح على ظهرها محاولًا تهدئتها، ثم بدأ يبحث عن كيس ورقي يساعدها على التنفس، لكنه لم يجد شيئًا مناسبًا.
“سأذهب لأحضر طبيبًا.”
لكنها هزت رأسها.
“أريد فقط الخروج.”
لم يكن بوسعه استخدام الممرات، لكن إن أمسكت به جيدًا، فبوسعه القفز من النافذة معها.
لكن بحالتها تلك، لم يستطع طلب شيء كهذا منها.
“اخرجي من الباب سأنتظرك في الأسفل، حسنًا؟”
لم تجبه، بل هرعت إلى الخارج.
قفز ألفين من النافذة وانتظرها حول المبنى، كان القلق ينهشه، رغم أن الوقت لم يكن طويلًا.
كاد يصعد للبحث عنها، حين ظهرت بوجه مبلل، يبدو أنها غسلت وجهها، وكتفين منحنين وكأنها جندية مهزومة.
لكن على الأقل، تنفسها عاد طبيعيًا.
لم يقل شيئًا، فقط نظر إليها، ثم أمسك بمعصمها وسحبها إلى خلف المبنى.
في طريقه إلى المخزن، توقف فجأة عند قفص الدجاج، متذكرًا أنها كانت هنا ذات ليلة أيضًا.
حينها، وبوجه شاحب، اعتذرت له كلوي.
“آسفة… لا أريك سوى أسوأ حالاتي.”
“لا بأس… هل يحدث هذا كثيرًا؟”
أخفضت عينيها، ثم أومأت بعد تردد طويل.
إيماءة بالكاد تُلاحظ.
“أحيانًا.”
رغم أنه أراد أن يسأل “لماذا”، إلا أنه قرأ رغبتها في التهرب، فلم يُلحّ.
“لا بأس إن لم ترغبي بالكلام.”
لكنه لم يستطع تركها وحدها في غرفتها، ولا يمكنه أيضًا قضاء الليل معها هناك.
فكّر قليلًا، ثم جلس على الأرض وسحبها لتجلس بقربه.
“كلوي، لنمكث هنا معًا.”
“…نعم.”
“نتأمل النجوم.”
“…شكرًا.”
مر وقت، ومر بهم جنود الحراسة، توقفوا لحظة، لكن لم يتدخلوا حين رأوا وجه كلوي.
ألفين وكلوي لم يهتما بأحد، فقد ظلا ممسكين بأيدي بعض بصمت.
حتى مطلع الفجر، ظلا مستندين إلى الجدار، يتأملان السماء،
وفي لحظة ما، بدا العشب سريرًا، والنجوم شموعًا، ونسيم الفجر غطاءً دافئًا.
تلك الليلة، كانت الطبيعة هي غرفة نومهما.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 15"