حين فتحت كلوي عينيها مجددًا، كانت مستلقية وحدها على السرير رمشت بعينيها عدة مرات، ثم تساءلت في نفسها: “لماذا أشعر بهذا الفراغ الآن؟” وبينما كانت تغوص في هذا الشعور، انتفضت فجأة ونهضت من مكانها وما إن وقع بصرها على ألفين الجالس أمام المكتب، حتى قطبت حاجبيها باندهاش ويا للدهشة، فقد كان يقلب صفحات دفترها واحدة تلو الأخرى.
شعر ألفين بحركتها، فألقى عليها نظرة جانبية، ثم أعاد نظره إلى ما أمامه بهدوء رؤية هدوئه ذاك جعلت كلوي لا تشعر برغبة حقيقية في مواجهته.
رتبت ملابسها ثم اقتربت من خلف الكرسي، وغطّت عينيه بكفيها فأمال ألفين رأسه إلى الخلف وأسند مؤخرة رأسه إلى صدرها وبدت شفتاه المرسومتان وكأنهما ترتسمان بابتسامة.
قالت مازحة:
– “صاحب السمو، لماذا تفتش في غرفة غيرك دون إذن؟”
وما إن قالت ذلك، حتى اتسعت ابتسامته أكثر.
في الحقيقة، لم يكن ألفين يفتش في شيء لكنه لطالما راوده الفضول حول غرفتها.
ألم يقولوا إن من ينظر إلى مكتبة أحدهم يعرف كيف يفكر؟
ورغم أن كلوي لم تكن شخصًا قليل الكلام، إلا أن هذا بالذات ما جعل من الصعب أحيانًا فهم ما يدور في داخلها فليس كل ما تقوله يعكس نواياها أو مشاعرها الحقيقية أحيانًا كانت كلماتها لا تعدو كونها مجموعة من العبارات التي تحفظها وتلقيها كيفما اتفق، عبارات تناسب الموقف، أو نكات خفيفة لتجاوز اللحظة، أو كلمات مألوفة يتقبلها الناس بسهولة.
فور أن تزيح تلك القشرة الأولى، تراها كما هي، لكنها نادرًا ما تسمح لأحد برؤية ذلك وكان ألفين يتوق لمعرفة أفكارها الحقيقية، تلك التي لا تخرج إلى العلن.
لكن الغرفة بدت شبه خالية، ولم يكن فيها سوى دفتر مفتوح وبينما كان ينظر إليه وهو واقف بانحناءة خفيفة، وجد نفسه دون وعي يقلب صفحاته.
قال مدافعًا عن نفسه:
– “لم أفتشه، بل أنتِ من تركه مفتوحًا وكأنك تريدينني أن أراه.”
فردت وهي لا تزال تغطي عينيه:
– “لأنها غرفتي، طبيعي أن أترك أشيائي فيها لكن كيف تجرؤ على قراءة يوميات غيرك؟”
ألفين، رغم أن عينيه كانتا لا تزالان مغطاتين، مال برأسه قليلًا شعرت كلوي بتجعد جبينه من تحت كفيها.
تمتم قائلًا:
– “…أهذا ما تسمينه يوميات؟ يبدو لي كتاب تاريخ.”
نظر إلى الدفتر بانبهار صادق كانت أغلب صفحاته تتناول أوضاع القاعدة، لكنه أدرك فورًا أن ما بين يديه ليس إلا جزءًا من تأريخ الحرب لم يكن هناك يوم واحد يكاد يخلو من تدوين، سواء كان اليوم مليئًا بالأحداث أو بسيطًا، خطيرًا أو عاديًا شعر أن أي مؤرخ مجنون ومهووس بالحقيقة لو زار ميدان المعركة بنفسه لما كتب شيئًا بمثل هذا الإتقان وقد أدرك ألفين على الفور القيمة التوثيقية الكبيرة لما في هذا الدفتر.
أنزل كفي كلوي عن عينيه، وعقدهما حول عنقه كما لو كان يلف وشاحًا.
قال بهدوء:
– “كلوي.”
– “همم؟”
– “أأنتِ تكتبين القصص الخيالية فقط؟”
أرادت أن تسحب يدها، وقد بدا عليها الارتباك، لكنه لم يتركها، بل واصل سؤاله بنظرته.
فأجابت بتردد:
– “ليس دائمًا…”
كانت حقيقة يعرفها عدد قليل من أصدقائها المقربين، وهي أن لها عدة أسماء مستعارة وأحيانًا كانت تكتب روايات شعبية جريئة لا تخلو من الرموز الحمراء.
كانت دوافعها للكتابة في مجالات متعددة رغبةً شخصية منها في ألا تُقيد ضمن نوع أدبي واحد لكنها، في الواقع، كانت تحقق دخلًا أكبر بكثير من تلك الروايات مقارنة بمسرحيات الأطفال لم تعتقد يومًا أن ذلك يعود إلى موهبة خارقة، بل لأن هذا النوع من الأدب يلامس رغبات البشر بشكل صريح ومباشر.
قالت بعد لحظة:
– “لكن، لماذا تسأل؟”
رفع ألفين الدفتر مجددًا ونظر إليها بجدية:
– “كلوي، لننشر هذا.”
لكنها هزت رأسها بارتباك وضحك خافت:
– “ألفين، إن خرج هذا إلى العلن، فسوف يُلقى القبض علي.”
كانت قد حاولت أن تكتب من منظور جاف ومحايد، تقتصر فيه على نقل المعلومات، لكنها في النهاية إنسانة وأيام العيش في القاعدة كانت مليئة باللحظات القاسية والمحبطة لذا لم تخلُ ملاحظاتها من انتقادات حادة للعائلة المالكة، وحتى سب الملك لم يكن نادرًا وإن نُشر هذا على حاله، فلن تقع هي في ورطة وحدها، بل حتى عائلتها، بما في ذلك الماركيز، سيكونون في خطر.
نظر إليها ألفين باستغراب، وكأن الأمر لا يعقل.
– “فما الفائدة من كتابته إن لم تنوي نشره؟”
نقرت كلوي لسانها باستنكا يا له من رجل غريب التفكير هناك من لا يقول كلمة رغم امتلاء رأسه بمئات الأفكار، وهناك من يحتاج إلى مئة جملة ليكتب جملة واحدة فقط.
قالت:
– “وهل تكتب اليوميات لكي يراها أحد؟”
– “لذلك أنا لا أكتبها أصلًا.”
ضحكت كلوي بخفة وقالت:
– “آه، هكذا إذن؟”
لكن ألفين ما زال يتحدث وكأن المشكلة بسيطة:
– “إذا كان فيها ما يُشكل خطرًا، فاحذفيه قبل النشر.”
– “حينها ستفقد قيمتها ثم إن الكاتب الحقيقي لا يتخلص من جمله بهذه السهولة.”
إذاً ما الحل؟ فكر ألفين قليلًا، ثم قدم اقتراحًا مباشرًا لم يشأ أن تُدفن تلك السجلات القيمة.
– “إذن ننشرها في فيتسمارك.”
لكن كلوي هزت رأسها مجددًا:
– “يبدو أنك لم تقرأ بتركيز هناك انتقادات في الدفتر موجهة إلى العائلة الملكية في فيتسمارك، وربما أكثر مما قيل عن إيدلين نفسها.”
قال بجدية:
– “…سأحميك أتظنين أنني سأدعهم يقبضون عليك؟”
فقالت ساخرة وهي تضحك:
– “يا للثقة!”
ضحكت ليس تأثرًا بل لأن ردة فعله أضحكتها رغم أنها كتبت ما يُسيء إلى وطنها وعائلتها، إلا أنه بدا مهتمًا بشيء آخر تمامًا كان يريد حقًا أن يُظهر هذه الأوراق للعالم يا له من رجل قد يوقع نفسه في كارثة من فرط نيته الطيبة في هذا العالم، يُطلقون على الداعمين أمثاله لقب “الفرائس السهلة”، ويحاول الفنانون استغلالهم بكل الطرق.
لكن بينما كانت تشكو من كل ذلك، لمحت كلوي دفترًا آخر موضوعًا أمام ألفين.
ذلك الدفتر كان من هواياتها الخاصة، وقد جمعت فيه أفظع الشتائم وأكثرها طرافة كان بمثابة قاموس للسباب الغريب والطريف لم يكن أحد، لا الثلاثي الملكي ولا حتى الماركيز، يعلم بوجوده.
سألت متوجسة:
– “هل يُعقل أن يكون هذا…”
– “هل من الممكن أنك قرأتَ ذلك أيضًا؟”
– “مررت عليه مرورًا سريعًا فقط.”
أنكرت كلوي بهدوء، محافظة على تعبير وجهها الثابت.
– “ألفين، هذا مجرد سوء فهم.”
– “ما الذي تقصدينه؟”
– “كل شيء، كل ما تفكر فيه الآن هو مجرد سوء فهم.”
ضحك ألفين وأعاد سؤاله:
– “إذًا، ما الذي تقصدينه تحديدًا؟”
– “هذا الدفتر عملٌ مهني.”
– “كلوي، حتى لو كنتُ غريبًا عن هذا المجال، أستطيع أن أرى أنك استمتعتِ بذلك.”
كانت بعض الكلمات في الدفتر قد بدأت تتلاشى، وكان من السهل على ألفين أن يخمّن أنها كتبتها بسرعة حتى لا تنساها، وربما لأنها سمعتها للتو بل إن بعض الصفحات كانت تحتوي على رسومات، وفي إحدى المرات رسمت وجهًا يضحك مكشّرًا عن أنيابه، يشبه إلى حد كبير ملامح كلوي نفسها.
وبينما كانت تنظر إلى تعبير الدهشة والفضول في عينيه، أدركت كلوي أن الأمور قد خرجت عن السيطرة، ولم يعد هناك ما يمكن إنكاره نظرت إليه ببرود وقالت:
– “ماذا أفعل الآن؟”
– “ماذا هناك أيضًا؟”
– “لقد عرفت عني الكثير، أكثر مما ينبغي.”
– “……”
– “يبدو أنني مضطرة إلى التخلص منك.”
قالتها ببرود قاتل، كما لو كانت قنّاصة محترفة، ثم أمسكت بياقة قميصه وبدأت تهزّه بخفة أمسك ألفين وجهه بيده وضحك بشدة، وكأن الأمر يؤلمه من كثرة الضحك وبعد أن هدأ قليلًا، سأل بفضول:
– “لكن هل يجوز كتابة مثل هذه الكلمات في قصص الأطفال؟”
– “قلت لك، أنا لا أكتب قصص الأطفال فقط.”
تململت كلوي وأشاحت بنظرها في حرج واضح أما ألفين، فقد بدأ يفهم أخيرًا لماذا لم تكن كلمات الجنود النابية تؤثر فيها قط.
كانت تعرف من الشتائم والألفاظ أكثر مما يعرفه أغلب الجنود الفظّين بعضها كان في منتهى الابتكار والبلاغة، لدرجة أن بإمكانك اعتباره فنًا بحد ذاته ولهذا السبب، لم تكن تنفعل أو تتأثر حين يتهكم بها الجنود، بل كانت تراهم كأطفال مزعجين ليس أكثر.
ولو أن هناك مسابقة لمن يُجيد الشتم أكثر، فالأرجح أن تسعة أعشار رجال القاعدة سيخسرون أمامها ولو كانت تريد حقًا أن تنتصر في شجار اليوم، لكان عليها أن تختار الشتم بدلًا من شد الحبل أو اللعب بالتراب وكان من المذهل أنها تحفظ هذا الكم من الألفاظ، ومع ذلك لا تستخدمها في حديثها اليومي.
قال ألفين فجأة:
– “كلوي، لدي سؤال.”
– “ما هو؟”
جلب ألفين قاموس الألفاظ النابية المتنوعة من عدة دول، وفتح الصفحة الأخيرة كانت تحتوي على تعبيرات دارجة تُستخدم غالبًا في الثكنات العسكرية بفيتسمارك، وقد كُتبت بجوارها علامات استفهام في الحقيقة، كانت هذه ألفاظًا معتادة على ألسنة زملائه في الوحدة فسألها مترددًا:
– “من أين سمعتِ هذا اللفظ؟”
وما إن سأل، حتى بدا على كلوي الفرح، بعد أن كانت قبل قليل تتجنب الموضوع بحرج في الحقيقة، كانت هي أيضًا تتمنى أن تسأله منذ وقت طويل.
– “سمعتك تقوله.”
– “…أنا؟ متى؟”
– “أظن أثناء الهجوم على القرية في المخزن… حتى قبل أن نقبّل، قلتها على ما أظن صحيح؟ هي شتيمة، أليس كذلك؟”
كان ألفين قد سألها في البداية بدافع الفضول فقط، لكنه لم يتوقع أن يكون الجواب بهذا الشكل، فأطلق ضحكة من شدة الدهشة هل يعقل أن هذا ما بقي في ذاكرتها من كل ذلك الموقف؟ لكنه خشي أن تسيء فهمه، فسارع بالاعتذار:
– “أنا آسف لم أكن أقصدك أبدًا أظن أنني كنت متوترًا فقط.”
– “……”
– “أعدك بأني لن أتفوه بكلام مبتذل أمامك مرة أخرى.”
غير أن ملامح وجهها كانت تحمل تعبيرًا غريبًا فصحيح أن التحدث بأدب أمر محمود، لكن بالنسبة لها، لم يكن هذا مجرد هواية، بل عمل حقيقي.
فالألفاظ النابية لا تكون طبيعية إلا إذا قيلت على لسان من اعتاد استخدامها يمكنها أن تقلد ما يقوله الآخرون، لكن لا يمكنها أن تنقل كلمة إلى الورق ما لم تفهمها تمامًا.
وكان هذا واضحًا حتى في التمثيل فعندما يؤدي الممثلون مشاهد مكتوبة بكلمات لا يفهمونها أو لا تنسجم مع لغتهم اليومية، يظهر التصنع في الأداء وفي تلك الحالات، كانت تضطر إلى تعديل النص.
ترددت كلوي قليلًا ثم قالت:
– “لا بأس في الامتناع عن الألفاظ، لكن كل شخص حر في ضبط سلوكه على أي حال، هل يمكنني أن أسألك شيئًا واحدًا فقط؟”
– “طبعًا، ما هو؟”
– “هل لهذا اللفظ معنى أو أصل معين؟”
كانت عيناها الزرقاوان لامعتين بالفضول، لكن عندما قال ألفين: “لا أعلم، ربما لا”، ظهر عليها خيبة أمل واضحة.
صمت لثوانٍ، ثم انفجر ضاحكًا مجددًا لم يستطع أن يفهم لماذا تهتم بهذا النوع من الألفاظ إلى هذا الحد لقد كان هذا خارج نطاق إدراكه تمامًا.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 14"