وضعت كلوي يدها على جبهتها التي بدأت تؤلمها من شدة الذهول حتى وإن طلبت منه أن يتركها، فإنها لا تستطيع تلبية ذلك الطلب فهي أيضاً تتحمل مسؤولية هذه القاعدة وزملائها.
لكنها لم تتوقع أن تسمع منه جملة: “هل تنوين طردي؟” ما كان أكثر غرابة هو أنها هي من اضطرّت للتنبيه إلى هذه النقطة.
قالت وهي تنهض مجددًا:
“هذا لا ينفع سأذهب حقًا هذه المرة ليلة هانئة.”
وما إن نهضت، حتى جذبها ألفين وأسقطها مجددًا على الفراش وهو يضحك، وكأنه يظن الأمر مجرد مزاح.
“إلى أين تظنين نفسك ذاهبة، في هذا الوقت من الليل؟”
“اتركني.”
“كلوي، أفعل هذا من أجل سلامتك.”
عندها شعرت كلوي بأن قوتها تنهار تمامًا لأنها أدركت أنه يمسك بها بدافع القلق الحقيقي، لا لأي سبب آخر غطّت وجهها بيديها وتمتمت كأنها تحدث نفسها:
“أليس من الأجدر بك أن تقلق من أنك لن تُسمح لك بالخروج، بدلًا من أن تُطرد؟”
ضحك ألفين بخفة، ثم أزال يدها التي كانت تحجب بها وجهها.
“كلوي، هذه القاعدة ليست محكمة التأمين كما تظنين.”
وحتى مجرد كونه من ينبّهها إلى هذا الأمر كان مزعجًا بحد ذاته بل والأدهى، أن ما قصده بقوله، هو تلميح خفي إلى أنه قادر على مغادرة هذه القاعدة في أي وقت يشاء.
ضحكت كلوي ضحكة خفيفة كالمصابة بالهذيان، ثم ما لبثت أن اعتدلت في حديثها بجدية:
“أنت، هل تنوي مراقبتي حتى لا أهرب؟”
فأجاب مبتسمًا:
“لا حاجة لذلك، لكن إذا أردتِ الهروب، فكيف ستتمكنين من مراقبتي؟”
“……”
“هل ستبقين إلى جانبي طوال الوقت؟”
كانت هي من قالت إنها ستراقبه، لكن ألفين هو من بدأ في إحكام قبضته عليها كأنما يقيّدها فقالت بنبرة حادة:
“سأبلغ القيادة العليا بوجود جاسوس هنا!”
حاولت كلوي أن تتخلص من بين ذراعيه، لكن لم يكن ذلك بالأمر السهل وكلما زاد صراعها، ازداد اضطراب ثيابها.
نظر ألفين من دون وعي إلى خصرها النحيل وبطنها المسطح، ثم سحب طرف ثوبها المنزلق وخفّضه قليلًا وهو يضحك بصوت منخفض ولو دقّق المرء في كلامها، لفهم أنها لا تنوي إحداث مشاكل ولا الإبلاغ عنه، مادامت الأمور تسير كما هي وإن أُخبر الشخص بالأمر سلفًا، فلا يُعد ذلك “وشاية”.
اضطجع ألفين على جانبه وسند ذقنه بيده، وبدأ يتأملها كما لو أنه يشمّ عطرًا غريبًا وفريدًا من نوعه ينبعث منها لكن عندما رأت كلوي الابتسامة المرتسمة في عينيه، قالت بامتعاض:
“تبدو مرتاحًا جدًا الآن بينما رأسي يكاد ينفجر من الألم.”
توقّف ألفين للحظة، ثم سألها:
“… بسببي؟”
“……”
“همم؟”
ولما لم تجبه، قال بصوت خافت:
“أنا آسف.”
كانت كلوي تشعر حقًا بالصداع، لكنها لم تجد راحة في الاعتذار.
فلا يمكنها أن تطلب من جندي أن يضع سلاحه جانبًا، فهذا كأنما تطلب منه الموت ولا يمكنها أن تطلب من أمير ملكي أن يقف في صف إيدلين، فهذا سيكون ضربًا من الإجبار.
وبعد تفكير طويل، تكلّمت كلوي ببطء:
“ألفين، أنت تعلم كما أعلم، أن هذه القاعدة ليست مجرد مركز علاج بسيط.”
فمن الطبيعي أن يكون لها هدف استراتيجي هذا أمر يستطيع الجميع استنتاجه لكن كلوي كانت تملك ظنًّا آخر أيضًا.
فماركيز ويلنغتون كان يُعد من القلائل في إيدلين الذين تمكنوا من جمع ثروة تضاهي ثروة العائلة المالكة مشاريعه ومناجم الذهب التي امتلكها لم تكن مقتصرة على إيدلين وحدها وإن كانت عروضها المسرحية قد نُظّمت في قاعدة فيتسمارك وهي لا تزال في بداياتها، فذلك لم يكن إلا بفضل ذلك الماركيز.
لا شك أن ملك إيدلين كان بحاجة إلى أموال الماركيز كتمويل حربي وكذلك الماركيز كان بحاجة إلى ذريعة مناسبة لاستئناف نشاطه التجاري في فيتسمارك، في حال تم التوصل إلى اتفاق سلام بين البلدين قناع “الخير”.
كانت هذه القاعدة ثمرة تقاطع مصالح كثير من الأطراف وحسابات دقيقة ومفاوضات سرية كم من الأموال والصفقات الخفية جرت في الخفاء يا ترى؟
ولهذا، لم يكن في نيتها يومًا أن تُلبس هذا المكان ثوب النقاء أو الطهر، ولا تنوي فعل ذلك الآن.
ومع ذلك، لم تجد بُدًّا من أن تطلب من ألفين هذا الطلب:
“لن أقول إنني أتصرف دائمًا بدافع الخير فأنا بطبعي كثيرة الشك، وأميل إلى الشك في كل شيء.”
“……”
“لكن صدقًا، هناك أشخاص هنا أحضروكم وعالجوكم بدافع الرغبة في إنقاذكم فقط لقد رأيتهم بنفسك، أليس كذلك؟”
“……”
“لذا، مهما حدث لاحقًا، أرجوك لا تؤذِ أحدًا من أهل القاعدة أيمكنني أن أطلب منك هذا فقط؟”
كانت تعابير ألفين وهو ينظر إليها توحي بابتسامة حزينة.
فهي، التي كانت البارحة ترجوه أن يضع حدًّا لهذه الحرب، قد أصبحت أكثر بساطة وواقعية يبدو أن عقلها قد عاد إلى صوابه، وحسّها بالواقع قد استعاد عافيته في يوم واحد.
لم يكن يستطيع أن يقول لها إنه يحب رؤيتها تبكي، ولكن—
“كلوي… يعجبني حين تُظهرين نفسك على حقيقتك هكذا.”
“حسنًا.”
أومأ ألفين برأسه وأجاب بإيجاز، ثم ساد الصمت بينهما لبعض الوقت.
لكن، وبعد مرور فترة، استأنفت كلوي حديثها بنبرة أكثر هدوءًا وثباتًا:
“ثم إنني لا أريد منك أن تعتذر لمجرد أنك وُلدت كأمير أو كجندي من فيتسمارك.”
“……”
“فلا شيء من ذلك كان خطأك.”
كانت كلوي قادرة على أن تسرد أكثر من عشرة أسباب خارجية تجعل من غير المناسب أن تحبّه فهي بطبعها شخص يبحث عن الأسباب، وشخص يجمع أصوات الآخرين ولو أنصتت قليلًا، لأمكنها أن تسمعها: “سأتلقى اللوم من بعض الناس، أعلم ذلك.”
ومع ذلك، لم تستطع أن تزعم أن حياته كانت خاطئة بالمطلق.
ما وُلدت به دون اختيار، وما اخترته بإرادتك ضمن ذلك،
لا داعي لأن تعتذر لي عن أيٍّ منها.
قد يبدو حديثًا تافهًا وسخيفًا لتقديمه كمقارنة، لكنها لم تخفض رأسها يومًا بسبب كونها ابنة غجرية حتى عندما تجرأت على دخول مجال العروض المسرحية في العاصمة، وتعرضت للسخرية بسبب ذلك.
وبينما كانت تتحدث وهي تحيد بنظرها عنه، لم تلحظ ابتسامته الناعمة التي تشكّلت على شفتيه الجميلتين وعندما أعادت النظر إليه، لم ترَ سوى عينيه المتوهجتين بحرارة.
طوّق ألفين عنقها وعضّ شفتيها وما إن ارتسمت على وجهه رغبة جسدية جامحة، حتى أشاحت كلوي بنظرها، شاعرة كأن مفترسًا واقف أمامها.
“هل تمانعين؟”
لم يكن الأمر أنها تمانع، بقدر ما أن الغرفة نفسها والموقف كانا غريبين عليها لكنها أيضًا لم ترغب في دفع رجل ينظر إليها بتلك النظرة المشتعلة ابتعد ألفين قليلًا بانتظار إجابتها، وبعد تردد، لفت ذراعيها حول عنقه وما إن فعلت، حتى صار أكثر شراسة.
لم يكن هذا كقبلة تبادلاها في المستودع فالآن كانت ساقاهما متشابكتين، ويداه الحارّتان تتسللان داخل ثيابها لتداعب بشرتها مباشرة كانت كلوي في البداية تعلو جسده، ثم ما لبث أن انقلبت الأدوار وتبدلت الوضعية.
ثقل جسده كان يضغطها، وطريقته في احتكاك جسده بها، وعضه لعنقها بدلًا من التقبيل، كلّها كانت تحمل دلالة واضحة لم يكن يكتفي بالقبل، بل كان يلامسها بشغف، ويريد ما بعد ذلك.
نظر ألفين إليها وسأل وهو يلهث:
“هاه… كلوي، هل يمكنني أن أُكمل حتى النهاية؟”
“…….”
“همم؟”
عيناه المتوسلتان كانتا تتقاطعان مع شهوانيته الظاهرة عينا كلوي اضطربتا وتردّدتا لكنها ما لبثت أن هزّت رأسها وقالت:
“…لا أظن أن اليوم مناسب.”
توسله الواضح جعل أطراف أصابعها ترتجف كانت تريد أن تُزيد من اشتياقه لكن لم يكن ذلك هو السبب الحقيقي بل لأنها لم تكن مستعدة نفسيًا، وتذكرت للتو أن اليوم ليس من الأيام الآمنة أيضًا.
أمال ألفين رأسه قليلًا وسأل:
“لماذا؟”
هل لأنها لم ترغب به؟
لكن كلوي ما زالت معلّقة بذراعيها على عنقه لم ترد أن تفصح عن السبب الحقيقي فورًا، فتذرّعت بنبرة عابسة:
“الملابس الداخلية التي أرتديها اليوم لا تعجبني.”
تفاجأ ألفين قليلًا، ثم انفجر ضاحكًا:
“الآن زاد فضولي لأعرف ما الذي ترتدينه.”
“…….”
“يعني، ليس أنا من لا يعجبك، أليس كذلك؟”
هزّت كلوي رأسها نفيًا كانت تعرف أن هناك حالات تصبح فيها المسافة النفسية أقرب بعد اقتراب الأجساد لكنها لم تكن تملك من التجرؤ أو قوة التحمل ما يجعلها تقبّل رجلًا لا يعجبها حقًا.
اعتدل ألفين مبتعدًا عنها قليلًا، واستلقى بجانبها مطلقًا زفيرًا عميقًا هذه المرة، كانت كلوي هي من استغربت، إذ كانت تستعد لتقديم المزيد من التوضيح فكلاهما يعلم أن هذا الموقف لا ينتهي ببضع كلمات فقط.
“تستسلم بسرعة، أليس كذلك؟”
ضحك ألفين ومسح وجهه بيده وفكر للحظة إن كان ينبغي قول مثل هذا الكلام الفج والبسيط لكن كلوي لم تكن من النوع الذي يتأثر بكلمات الجنود الفجّة، مهما كانت غريبة.
“بصراحة، ما ترتدينه لا يهمني أبدًا على أية حال، سأخلعه كله، وبنهاية الأمر، سيفقد عقلي تركيزه ولن أتذكر حتى ما كنت ترتدينه.”
“…….”
“لكن يبدو أنه أمر مهم بالنسبة لك.”
“…….”
“يمكننا تأجيل الأمر للمرّة القادمة… فقط أريد أن أعرف أنك لا ترفضينني.”
نظرت كلوي إليه بنظرة غريبة فقد راودها شعور: “لماذا يقول دائمًا كلامًا يعجبني من الألف إلى الياء؟”
وبصراحة، كانت تحب طريقته في الحديث حتى عندما كان يوجه تهديدًا لا يقل حدة عن بنجامين.
إن لم يكن هذا من عبث الأقدار، فليس من المنطقي أن تلتقي بشخص يثيرها بهذا الشكل، في زمن حرب، وفي هذا الموقف تحديدًا.
ولما لزمت الصمت، ضحك ألفين باستخفاف.
حتى عندما كانا يتقلبان في المستودع المغبر، كان يشعر بالضيق من ذلك لأنه كان يشعر بالذنب تجاهها.
فهو لا يستطيع أن يقدم لها شيئًا جيدًا في هذا المكان، وإن كان هناك ما يزعجها ولو بقدر ضئيل، فهو لا يريد فعله أبدًا.
“هل سيكون من المقبول… أن أكتفي باحتضانك فقط؟”
“…ألن تذهب للنوم؟”
“على أية حال، لا يمكنني الخروج الآن.”
“لماذا؟”
“لأن تحركاتي الآن ستتداخل مع تحركات أفراد القاعدة.”
مرة أخرى، لم تجد كلوي ما تقوله لم يكن كلامًا عبثيًا، بل بدا أن ألفين يعرف تمامًا تحركات الحراس وتوزيعهم.
ضحك ألفين بخفة ومدّ ذراعيه نحوها قائلاً: “تعالي هنا.”
كانت تكتفي بالنظر إليه، لكنه، ولأول مرة، تصرف دون أن ينتظر ردًا، فاحتضن جسدها النحيل وضمه إلى صدره.
وفي أحضانه الواسعة، ومع دفء جسده، غرقت كلوي في النوم.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 13"