كلوي كانت جالسة أمام المكتب تُدوّن أوضاع القاعدة وبين الحين والآخر، كانت تلقي نظرة خاطفة نحو النافذة في الحقيقة، كانت تعرف أيضًا أن كلام ألفين عن قدومه لزيارتها ليلًا لم يكن مزاحًا.
(«إن تم كشفه أثناء قدومه، فسيكون الأمر كارثة»).
كانت هي القلقة والمتوترة، بينما هو بدا مرتاحًا ومسترخيًا تنهدت كلوي، ثم فتحت القفل وفتحت النافذة على مصراعيها بعد ذلك، حاولت جاهدة إعادة تركيز ذهنها المشتت على الأوراق أمامها.
حينما اشتد ظلام الليل قليلًا، ظهر ألفين وعندما انعكست ظلاله الطويلة على سطح المكتب، رغم أنها كانت تتوقع مجيئه، إلا أنها انتفضت قليلًا ابتسم ألفين ولوّح بتحية مازحة.
“مرحبًا.”
قفز بخفة فوق الدرابزين وأغلق النافذة خلفه.
“يبدو أنك كنتِ تنتظرينني.”
“لم أكن كذلك.”
“إذًا، لماذا تركتِ النافذة مفتوحة؟ هذا يُوهم الناس.”
في الحقيقة، كانت قد تركتها مفتوحة خشية أن يُقبض عليه وهو يتسلل، فيُطلق عليه النار لكن قبل أن تشرح موقفها، بادرها بالنصيحة:
“دعي النافذة مغلقة في الليل إن احتجت، سأطرقها بنفسي الصعود إلى هنا ليس أمرًا صعبًا على الجنود.”
رأت كلوي أن هذا غير دقيق كانت تدرك أن الجنود يختلفون عنها وكأنهم من جنس آخر، ولكنها لم تكن تظن أن صعود الطابق الثالث أمرٌ عادي لأي أحد لم يكن الأمر متعلقًا فقط بالقدرة الجسدية، بل بجرأة لا يملكها الجميع.
ألفين نظر مجددًا حول الغرفة كما فعل الليلة الماضية لم يكن فيها شيء مميز، لكنه لاحظ أن هناك بعض زجاجات الدواء قد أُضيفت إلى الرف هذا جعله يبتسم قليلاً لكنه عبس حين لاحظ أن قفل الباب ليس على مستوى جيد من الأمان.
“لم يزرْكِ ذلك الشخص الليلة؟”
“هو لا يأتي إلى مساكن النساء بهذه الطريقة أبدًا.”
“لكنه أتى البارحة.”
علّق ألفين ببرود، ولم تكن كلوي قد ارتكبت أي ذنب، لكنها شعرت بالضيق لم تكن لديها الرغبة في علاقة مشبوهة، كما لم تكن راغبة في خوض علاقة مشغولة ومرهقة.
“تتكلم وكأنك حبيب غاضب يحقق مع محبوبته.”
“إذًا، تعترفين أنني حبيبك؟”
“…لماذا تُصر على سماع ذلك مني كل مرة؟”
الأمر كان بسيطًا: لأنها لم تفتح له قلبها بشكل كامل، وكان هو يتساءل إن كان عليه الاستمرار أم لا.
(في الحقيقة، أنتِ انجذبتِ إليّ من البداية).
ابتسم ألفين وهو ينظر حوله مجددًا كان هناك كرسي واحد فقط، وكانت كلوي تجلس عليه، لذا جلس على حافة السرير ثم أمسك بمسند الكرسي وجذبه نحوه.
صدر صوت احتكاك مزعج عندما انزلق الكرسي على الأرض، مما جعل كلوي تتأفف بانزعاج تفاجأ ألفين أن هذا أزعجها إلى هذه الدرجة، فتوقف للحظة ثم أدخل يديه من تحت ذراعيها وساقيها، ورفعها لتجلس فوقه.
“بهذا النوع من الإزعاج، كيف لكِ أن تتحملي صوت القذائف؟”
“ألفين، هذا ليس مشابهًا على الإطلاق.”
“لكن في النهاية، كلاهما صوت مزعج، أليس كذلك؟”
“…لماذا لا تستطيع أن تفهم الفرق؟”
عندما بدت ملامحها غاضبة ومستغربة، طبع قبلة على شحمة أذنها كما لو كان يعتذر ثم أصبحت القبلات أكثر حرارة أخذ يعض أطراف أذنها برقة، ثم أدخل لسانه عميقًا داخلها، كما لو كان يحاول لعق طبلة أذنها وسرقة صوتها.
“آه، توقف، لا تفعل ذلك.”
“لماذا؟ لا يعجبك؟”
“أوه… إنه مؤلم…”
عندها، همس في أذنها:
“هذا يؤلمك؟”
لكن ألفين، بعد أن راقب تعابيرها، أدرك أن ما قالته لم يكن بسبب الألم حقًا ابتسم ابتسامة كسولة، فضغطت كلوي على صدره وذقنه لتدفعه بعيدًا.
لكنه هذه المرة قبّل شعرها اعتذارًا، ومسح على ظهرها بلطف رمقته بنظرة جانبية، لكنها لم تتململ أكثر من ذلك عينا ألفين الزرقاوان كانتا تملؤهما المشاعر، والكلمات التي أراد قولها، والأشياء التي كان يرجو سماعها منها، كلها تدفقت في نظرته.
“كلوي.”
“ماذا؟”
“هناك حديث بدأناه سابقًا ولم نُكمله.”
صمتت للحظة عرفت بالضبط ما الذي يقصده تنهدت وهي تفكر أن لحظة الحقيقة قد حانت ظل ألفين صامتًا ينتظر، وأخيرًا قالت بتردد:
“كونك من العائلة المالكة… هل يعني أنك ابن عم الملك، مثلًا؟”
كانت تحاول تخفيف وقع الحقيقة بهذه الطريقة، ولكن العالم لم يكن بتلك البساطة الحيل الصغيرة لا تُغير الحقيقة فأجاب ألفين بهدوء:
“أنا ابنه.”
“……”
“بالتحديد، الابن الثالث.”
فغطّت كلوي وجهها بكفيها فورًا.
ابنه؟ ليس مجرد قريب بعيد بل ابنه؟ إذًا هو أمير.
(حسنًا، أعتقد أنني سمعت ما يكفي).
“سأرحل.”
رغم أن الغرفة كانت غرفتها، أعلنت كلوي مغادرتها وكأنها ضيفة تودع صاحب البيت كانت تعلم أن الوقت قد تأخر كثيرًا على التراجع، لكن عقلها لم يعد يحتمل المزيد من المعلومات وحين حاولت النزول من فوقه، أمسك ألفين بخصرها ولم يدعها تذهب.
“لا، لا تذهبي.”
“دعني.”
“لا ترحلي.”
ومع ذلك، استمرت كلوي في المقاومة ضحك قليلًا، ثم احتضنها وألقاها معه على السرير في النهاية، تخلّت عن المقاومة وتنهدت.
“هل ترى هذا الموقف مضحكًا؟ كيف يمكن أن يكون في ذلك البلد أحد لا يعرف شكل الأمير؟”
ضحك ألفين باستخفاف وقال:
“هل تعلمين كم عدد أفراد العائلة المالكة في فيتسمارك؟ وحدها البذور التي نثرها الملك تكاد لا تُعد.”
استشعرت كلوي في نبرته حينما ذكر “الملك” شيئًا من السخرية، بل وربما شيئًا من البعد لم تعرف كيف ترد، فتمتمت مترددة:
“همم، يبدو أنه… كان رجلاً شديد الفحولة.”
لم تكن تملك الكثير من المعلومات عن نسب العائلات الملكية في الدول المعادية، لكنها كانت تعرف أن ملك فيتسمارك رجل مُسن في الواقع، كان ملكًا حتى قبل أن تولد كلوي.
ورغم أن ألفين ما زال يحتفظ بابتسامة ساخرة، إلا أنه لم يُنكر قولها شعر بمحاولتها لتلطيف الجو وتخفيف وطأة الموقف، فتركها تمر.
“حتى النبلاء بالكاد يعرفون وجهي فقد نشأت خارج القصر منذ كنت صغيرًا جدًا وعندما كبرت، خضعت لتدريب خاص في أحد المراكز المتخصصة.”
نظرت إليه كلوي باستفهام.
“كان هناك الكثير من الناس يريدون إبعادي عن الأنظار.”
“……”
“الملكة الراحلة كانت تقشعر كلما رأتني أنا وأمي كانت هناك فرص للعودة إلى القصر، لكن بعد أن خضعت للتدريب، أدركت أنني أنتمي أكثر إلى الجيش.”
لم يكن ينوي الخوض في التفاصيل، لكن كلوي أومأت برأسها لقد بدأت تفهم على الأقل جزءًا من تلك الهالة الغريبة التي تحيط به.
هذا الرجل النبيل، الذي بدا كوحش بري أحيانًا، كان من سلالة ملكية، لكنه نشأ في بيئة خطيرة وخشنة لم يكن شخصًا نشأ مدللًا كما يُتوقع من أمير، بل كما قال ذات مرة بنفسه، لم يكن كذلك أبدًا.
“لهذا كنت تبدو… كأنك هجين.”
فضغط ألفين على جسدها ممازحًا وضحك.
“هل يجوز وصف ماضٍ مؤلم بهذه الطريقة؟”
لكنه لم يكن منزعجًا حقًا ولم تكن كلوي تنوي جرحه على العكس، كانت تجد فيه سحرًا خاصًا، أحيانًا حتى شعورًا بالقرب رغم أنها لم تكن تملك أي مكانة تُذكر، إلا أنها شعرت بأنها تفهمه.
ذلك الشعور بعدم الانتماء الكامل لأي جهة، والوقوف دائمًا على الحدود… لم يكن شخصًا يُمكن وصفه بكلمة واحدة واضحة وكانت تجد صعوبة في صرف نظرها عنه أحيانًا.
ظل ألفين يراقب ردود أفعالها بدا هادئًا، لكنه في داخله كان قلقًا وفجأة، طرحت كلوي سؤالًا بصوت منخفض:
“أنت… دخلت هذه القاعدة بخطة مسبقة، أليس كذلك؟”
“……”
توقف لوهلة، وتلك اللحظة من التردد كانت إجابة كافية رمقته كلوي بنظرة باردة وقالت:
“ما هذا؟ إنه محتال حقيقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. أيُعقل أن يخدع امرأة مدنية بسيطة لا تفقه شيئًا عن العالم؟!”
رغم أنها لم تعد تلك المدنية الساذجة فعلًا، إلا أن ألفين اعتذر بصراحة:
“أنا آسف كان عليّ أن أتحقق مما إذا كانت هذه القاعدة أُنشئت فعلًا لأغراض إغاثية بحتة.”
لكن نظرات اللوم لم تتلاشى بسهولة فتابع كلامه بصدق:
“أحيانًا أفكر أنه كان سيكون أفضل لو التقينا في وقت غير الحرب… أو لو لم تكوني من إديلين.”
“……”
“لكني لا أجد إجابة تقول إن ذلك كان سيجعل الأمر أفضل لأنك لن تكوني أنتِ.”
أنصتت كلوي بصمت لكلماته.
“وإن كنا التقينا بطريقة مختلفة، فربما لم أكن لأملك فرصة لأتعرف إليك بهذا الشكل… هل يبدو هذا وكأنه مجرد تبرير سخيف؟”
لم تُجبه، لكنها بدت غارقة في التفكير.
كلامه لم يكن خطأ كليًا، ولا صحيحًا تمامًا كان من المؤكد أنهما ما كانا ليقتربا من بعض إلى هذا الحد، وربما لم يكونا سيلتقيان أصلًا لم يكن ثمة نقطة تقاطع بين عالَميهما كانت هي لتحيا تحت الأرض في قبو لا يتعدى خمس خطوات، وهو ما كان ليكترث يومًا بأغانيها أو قصصها.
ثم عبست وهي تتذكر شيئًا ما في أول لقاء بينهما، كان ألفين ينزف.
“إذًا، ذلك الجرح بالرصاص…”
“……”
ابتسمت بسخرية، لكن ابتسامتها كانت أكثر برودة هذه المرة.
“أنت مجنون فعلًا ماذا لو مت؟ ما الذي كنت تفكر فيه؟”
سحبت قميصه دون تردد ورغم أن الندبة في خاصرته بهتت، إلا أنها ما زالت هناك عبست وهي تلامسها برفق.
تجمد ألفين للحظة، ثم ابتسم ابتسامة حائرة لم يكن يكفي أنها نزعت قميصه، بل كانت تتحسس جسده على السرير إذا استمرت على هذا النحو… فالأمر سيصعب عليّ أكثر، فكّر في نفسه وهو يمسك بيدها البيضاء.
“كلوي، حتى من دون هذه الأمور، هناك من يحاول قتلي دائمًا.”
“حقًا… يا له من فخر.”
رغم لهجتها الجافة، كان الحزن ظاهرًا في ملامحها لم تستطع إخفاء حقيقة أنها باتت تحبه كثيرًا تنهدت بعمق وسألته:
“إذًا، ماذا ستفعل الآن؟”
“…هل ستطردينني؟”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 12"