كلوي اقتربت أولًا من ديوي كان وجهه شاحبًا، ويبدو أنه يتألم بشدة، إذ كان يئن ويتأوه بصوت خافت ومع ذلك، يبدو أن الجنود قد راعوا حالته كمريض وجعلوه يستلقي في أفضل مكان يبدو أن روح الزمالة ما زالت حية فيهم.
فتحت القارورة التي بجانبها، ثم وضعت الدواء عند شفتيه الزرقاوين وسكبت الماء ليتناوله.
“إذا شربته، سيخف الألم قليلًا.”
“…أجل.”
“إذا شعرت بأي انزعاج، أخبر أحدهم ليبحث عني اتفقنا؟”
لم يكن من النادر أن يفقد الجنود أطرافهم في ساحة المعركة، لكنها لم تستبعد أن يكنّ لها بعض الضغينة في داخله غير أن ديوي لم يكن يملك حتى القوة لفعل ذلك، إذ اكتفى بإيماءة صغيرة من رأسه فأشفقت عليه، وربّتت على كتفه، ثم ذهبت لتبحث عن ألفين.
كان ألفين يثبت جيدًا أنه جندي بحق حين اقتربت منه، توقف عن تدريباته وابتسم لها كان عنقه يلمع من العرق، لكنه بدا في صحة جيدة.
“هل نمتِ جيدًا؟”
“بفضلك.”
ناولته ملابس بحذر، فرمى بملابسه الملطخة بالدماء دون اكتراث راقبته وهو يمسح العرق عن جسده بعناية، ثم أدارت وجهها.
ضحك ألفين بخفة، ثم ارتدى الملابس النظيفة ، حينها عادت ونظرت إليه، بقيا يتبادلان النظرات في حيرة.
“ألفين، ماذا تفعل؟”
“ماذا هناك؟”
“ألن تبدّل سروالك أيضًا؟”
أشاحت بنظرها خجلًا وقالت بتذمر:
“لو أعطيتك كل شيء دفعة واحدة، لانتهيت من المهمة مرة واحدة.”
“لا بأس سأغسله حين أستحم.”
“أعرف، لكن خذه فحسب.”
فكر ألفين في نفسه: الآن بدأت تخلع لي السروال أيضًا كانت تأنف مني، فمالها اليوم متساهلة هكذا؟
السبب كان واضحًا، كانت ممتنّة لما فعله البارحة.
ارتدى ألفين ملابسه بهدوء، وأشار لها أن تقترب منه حملت كلوي ملابسه المتسخة وهمّت بالانصراف، لكنه أمسك بيدها وأجلسها إلى جانبه.
“إن لم تكوني مشغولة، ابقي لعشر دقائق فحسب.”
“رائحة العزّاب كريهة هنا.”
“…إذن نخرج معًا؟”
هزت رأسها، وسحبت الغطاء لتضعه على ساقيها.
ساد الصمت بينهما لبعض الوقت، وكانت كلوي ترمقه بنظرات خفية من حين لآخر.
كان يبدو سعيدًا جدًا، ظل يبتسم ولم يبعد نظره عنها وحين أدركت أن ما كان يحدّق فيه طوال الوقت هو شفتيها، شعرت بالحرج.
ما به هذا الرجل في وضح النهار؟ هل جنّ من شدة الرغبة؟ أحيانًا الوسيمون يكونون الأسوأ.
لكنها، بدورها، لم تستطع أن تمنع نفسها من تذكّر قبلة البارحة الساخنة وكفّيه الكبيرتين.
“ألفين، توقف عن التحديق.”
“هل يعني هذا أن ما يلي سيكون ممكنًا إن زرتك الليلة في غرفتك؟”
“…احلم فقط إن واصلت هذا الكلام، سأنقلك إلى غرفة بلا نوافذ.”
تظاهرت بتجاهل كلامه، لكنها أجابته ببرود، فضحك وحكّ جبينه.
لم أقصد السخرية…
وبينما هما جالسان تحت الغطاء، أمسك ألفين بيدها بلطف.
وفي تلك الأثناء، لم تهدأ رغبة الجنود في التمارين كان هذا بدوره ضربًا من الجنون فلم يكتفوا بتمارين المعدة، بل تجمعوا الآن في دائرة وبدأوا يتبارون في مصارعة الذراعين.
نظرت كلوي إليهم بعين باردة، ثم سألت ألفين بتأفف:
“ألفين، ما خطبهم؟”
“من تقصدين؟”
“لماذا يفعلون ذلك في مكان ضيّق كهذا؟”
“لا يمكنهم لعب الكرة هنا، على الأقل لماذا، هل الغبار يزعجك؟”
واستنتجت من كلامه شيئًا واحدًا: أن تلك الحركات البهلوانية التي يؤديها ليست شيئًا تعلمه في المجتمع، بل اكتسبه في الجيش جعلها ذلك تتساءل عن ماهية هذا الجيش المسمى بـ”فيتسمارك”.
ثم حصل شيء مفاجئ، فقد أدرك الجنود أخيرًا وجود كلوي، واقتربوا منها بتردد وهم ينظرون إلى ألفين، ثم دعوها للمشاركة.
“كلوي، احكمي لنا المباراة.”
“مصارعة الذراعين لا تحتاج حكمًا من الفائز يظهر بوضوح.”
“آه، لا تكوني قاسية هكذا.”
“كلا، العبوا وحدكم.”
لوّحت كلوي بيدها رافضة، لكن أحد الجنود أمسك بذراعها وأجبرها على الوقوف في البداية، حاول ألفين منعهم، لكنه سرعان ما ترك الأمر على حاله، لأن ملامح وجهها لم تكن توحي بأي انزعاج حقيقي، بل كانت تبتسم بخفة وكأنها تقول “لا حيلة لي في الأمر”.
وما إن جُرّت كلوي إلى مكان اللعب حتى اجتمع الجنود يشاورون بعضهم بدا أن الاكتفاء بطلبها كحكم كان مملًا بعض الشيء كيف لهم أن يجعلوا هذه اللحظة ممتعة بما يكفي لتتردد أصداؤها في أرجاء القارة؟ بعد تفكير عميق، اقترح أحدهم:
“لم لا تشاركين كلاعبة بدلًا من الحكم؟”
ضحكت كلوي بدهشة أجل، لقد استدعوني فقط ليعبثوا بي.
لكن، حتى الجندي كان لديه الحد الأدنى من الأخلاق الرياضية:
“امسكي بمعصمي فقط لا بد أن أمنحك بعض الأفضلية.”
“أليس ذلك… بديهيًا جدًا؟”
ورغم تعبير الامتعاض على وجهها، أومأت برأسها موافقة، وحين قبلت، اشتعلت أجواء الخيمة بالحماسة.
“سأراهن على كلوي!”
“أراهن بقطعتين من الشوكولاتة!”
“ساعتي الذهبية التي تركتها في بلدتي…”
“مرفوض الرهان يجب أن يكون بما هو في متناول اليد الآن.”
قال مسؤول التدوين الحازم وهو يفرز ما على الأرض من ملاحظات، لكن الآخرين لم يستسلموا بسهولة.
“ما رأيك، من يربح، أُنسّق له موعدًا مع أكثر شخص تعجب به أختي…”
وهنا قاطعه المسؤول بنبرة أشد حدّة:
“ذلك ممكن هل هناك من يراهن على كلوي؟”
فبدأ الجنود فجأة في إخراج ما لديهم من حلويات وخبز جاف وشرعوا في المراهنة كما لو كانوا في ساحة قمار كان المشهد كله عبثيًا، لكن كلوي قررت التغاضي عنه شعرت أن الجنود بحاجة إلى بعض المتعة ليواصلوا تنفّس الحياة.
لكن نسب الرهان كانت منحازة بشدة فقط ثلاثة أشخاص راهنوا على فوز كلوي وإن ربحت، فسيغدو هؤلاء أثرياء الشوكولاتة في المعسكر.
غير أن اللحظة التي مدّت فيها كلوي يدها لتأخذ وضعيتها، شعر أولئك الثلاثة جميعًا بالندم في آن واحد.
لقد خسرنا.
كمُّ قماش كمّها الطويل انزلق حتى المرفق، فكشف عن ذراع نحيلة للغاية لم يكن أحد يتوقع عضلات، لكن حتى بنية العظام كانت دقيقة وصغيرة هذا ما يُسمّى في العرف العام بـ “الضعف الجسدي”.
أما الجندي الذي اقترح التحدي، فقد بدأ بالابتسام ساخرًا منذ اللحظة التي أمسك فيها بمعصمها، ثم ما لبث أن صار يمسح وجهه بيده الأخرى في حيرة بعد بدء التحدي بدا وكأنه يشك في أنها تستخدم قوتها فعلًا.
والنتيجة كانت محسومة كما هو متوقع خسرت كلوي، وبدت ملامحها جافة وخالية من أي انفعال، بينما شعر الجندي ببعض الذنب، فعرض عليها تحديًا جديدًا مع أفضلية أكبر.
“آه… ماذا لو استخدمتِ إصبعيّ فقط؟ وسنلغي الرهان السابق.”
مدّ لها إصبعه السبابة والوسطى فقط، وظنّت كلوي أن هذا التحدي قد يكون ممكنًا، فأومأت وأمسكت بأصابعه.
لكن الجندي اضطر مرة أخرى لأن يمسح وجهه بيده الأخرى وقد ارتسمت على وجهه الحيرة ذاتها بدا على كلوي هذه المرة ضيق أكبر، وشعروا كلهم بوضوح الفارق في القوة، فتوقّفوا عن اللعب دون حاجة لكلام.
وجهت كلوي له نقدًا مقتضبًا لكنه حاد:
“هل يسعدك الفوز على مدنية؟”
“لا، فقط… لم نتوقّع أنك بهذا الضعف.”
“…….”
“هل أنتِ مريضة؟ هل تودّين الاستلقاء قليلًا؟”
حكّ رأسه بحرج وشعر أنه أصبح شخصًا تافهًا لا أخلاق له، فحاول أن يُظهر بعض الاهتمام بها لكن كلوي رفضت رفضًا قاطعًا:
“وأين تريدني أن أستلقي؟”
“أهو أمر مقزز إلى هذه الدرجة؟ نحن نظّفنا المكان على الأقل.”
“هل تعتقد أن هذا هو سبب تردّدي فعلًا؟”
حينها، تدخّل أحد الجنود الذين كانوا يراقبون، وضرب الجندي الآخر على رأسه:
“أيها الأحمق الجاهل، لو كنتَ فتاة، هل كنتَ ستستلقي وأعين الجميع تنظر إليك هكذا؟”
لكن كلوي خذلت الجندي الذي دافع عنها، وردّت بجفاف:
“في الحقيقة، نعم هو مقزز ولهذا لا أستلقي.”
كان ألفين قد اقترب دون أن ينتبه إليه أحد، ووقف وهو يدسّ يديه في جيبيه، يميل بجسده إلى الجانب قليلًا راقب كلوي وهي تندمج مع الجنود ببساطة، وفكّر:
هؤلاء يمرحون جيدًا.
كانت كلوي بالفعل تشعر بخفة في قلبها مقارنة بالبارحة، وكان لديها من الفراغ الذهني ما يكفي لتقبل مزاح الجنود فقد وصلت الإمدادات، وتعهّد الماركيز بدعم سخي، مما خفّف الكثير من عبئها يبدو أن السعادة تنبع حقًا من الثراء المادي.
في هذا العالم، هناك من يزعم أن الرفاه المادي بعد حدّ معين لا يزيد من السعادة النفسية كلوي كانت تسخر من هذه الفكرة دومًا، وتقول في نفسها: فهمت، الآن أعطني المال لأثبت لك أن نظريتك خاطئة سأنذر حياتي لأبرهن لك أن السعادة تتضاعف مع كل زيادة في المال.
أما الجنود، فقد بدوا في حيرة من أمرهم، لا يعرفون كيف يستمرون في اللعب معها لم يخالطوا فتيات من سنّهم منذ زمن، وحتى الإبداع في الترفيه غاب عنهم.
“ماذا لو جرّبنا إصبعًا واحدًا هذه المرة…”
“كفى.”
سكت الجنود بامتعاض، وبعد تفكير قصير، اقترحت كلوي لعبة جديدة:
“لِمَ لا نلعب شيئًا آخر غير مصارعة الذراعين؟”
“مثل ماذا؟”
انشدّ الجميع لسماعها، بينما ضحك ألفين بخفة، ظنًا منه أنها ستقترح لعبة بسيطة مثل حجر-ورقة-مقص.
لكن ما نسيه هو أن كلوي كانت كاتبة قصص للأطفال وكانت قادرة على أن تعدّد أكثر من عشر ألعاب لا تحتاج لا إلى قوة ولا إلى أدوات.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 10"