إن كان للذاكرة بداية، فبالنسبة لها، فستكون الغابة الكئيبة، تلك التي تشبه هاويةً حالكة السواد، لا يضيئها حتى ضوء قمر واحد.
كان الظلام يغمر كل شيء. دون أي إحساس بالاتجاه، كانت تخطو حافية القدمين على الأرض، تشق طريقها بصعوبة عبر الغابة السوداء. كان جسدها كله يؤلمها ويوجعها، لكن فكرةً واحدة فقط كانت تملأ ذهنها:
‘يجب أن أعيش. عليّ أن أنجو.’
لكن هذا التفكير المتواصل توقف فجأة، لأنها لم تستطع تذكّر السبب الذي يجعلها بحاجة للعيش.
ومع ذلك، واصلت السير مرةً بعد مرة.
بعد أن تاهت في الغابة المظلمة لوقت طويل، متبعةً بصيص نور بالكاد استطاعت العثور عليه، رأت أخيرًا مجموعة من الناس منهمكين في نصب خيام خضراء داكنة في ساحة فسيحة. رجال يرتدون الملابس ذاتها كانوا يتحركون بانسجام تام.
‘بشر…’
رغم أنها لم تكن تعرف من هم، إلا أنها، وبعد أن لم ترَ شيئًا سوى الأشجار الميتة لأيام، اقتربت منهم كما لو كانت مسحورة.
خشخشة.
في اللحظة التي خطت فيها خطوة واحدة، سُمِع صوت العشب يُدعس. رجل كان جالسًا على عربة محمّلة بالقش المخصص لخيول الحرب وكان يعبث بسيفه، التفت برأسه، والتقت نظراته بعينيها.
‘آه! من هناك!’
ظنًا منه أن من خرجت مترنحة من الغابة هي عدو، صرخ الجندي وسقط على مؤخرته بصوت مدوٍ، وفي الوقت نفسه، أصدرت العربة التي كان جالسًا فوقها صوت تحطّم.
‘ما الذي يجري!؟ ما الأمر!؟’
بسبب الضجة، اعتقد الجنود القريبون أيضًا أن هناك هجومًا مباغتًا من العدو، فذُعِروا وسحبوا سيوفهم من أغمادها في آنٍ واحد.
لكن الذي واجهوه لم يكن عدوًا يحمل سيفًا حادًا، ولا وحشًا مرعبًا من الوحوش التي تظهر من حين لآخر. بل كانت فتاة صغيرة لا يصل طولها حتى إلى صدورهم.
تجولت النظرات الحائرة بين الجندي الذي سقط أرضًا من شدة الخوف، والفتاة. أحد الجنود الذين استعادوا وعيهم بسرعة صاح قائلًا:
‘توقفوا!’
الفتاة التي كانت قد تجمّدت في مكانها من قبل حتى بسبب الصوت القارس لاحتكاك السيوف، كانت ترتجف بشدة عند هذا الصوت الذي بدا مألوفًا لها بشكل ما.
بجسد متيبّس تمامًا، كانت تنظر نحو الرجال الذين كانوا يحدقون بها بعيون يشوبها التوتر والارتياب.
كانوا يراقبونها بشك، يتساءلون فيما بينهم إن كانت جاسوسة أرسلها العدو، لكنهم عبسوا فجأة عندما لاحظوا فستانها الممزق حتى عظمة الترقوة، وشعرها المتشابك والفوضوي.
‘ما الذي تفعله هذه الطفلة هنا؟ هل يوجد منزل مدني قريب؟’
‘استخدم عقلك قليلًا، حتى لو كانت هناك منازل مدنية، فقد تم إخلاؤها من زمن بعيد. ولو بقي شيء منها، لكنا قد وجدناه منذ فترة.’
‘ما هذا المخطط السخيف؟ تبًا لأولئك الأوغاد من فيرسيوم. هل بدؤوا الآن باستخدام الأطفال؟’
فقد كانت هذه هي الجبهة الأمامية ذاتها، حيث لا يفصلهم عن العدو سوى عبور الغابة، لذا فهي مكان لا يليق بالمدنيين، وخصوصًا ليس بفتاة صغيرة غضة كالزهرة.
بدأ الجنود يتهامسون حول الطفلة التي ظهرت فجأة، وفي النهاية، كان الفرسان الذين يرتدون زيًا مختلفًا هم من أنهوا الضجة.
ارتجفت الفتاة وتراجعت خطوة إلى الوراء حين وقعت عيناها على رجل يرتدي درعًا لامعًا كبيرًا بين أولئك القادمين.
‘ما كل هذه الفوضى!؟’
‘أوه، القائد باهيلو. هناك فتاة هنا.’
الفتاة التي كانت تلتزم الصمت طوال الوقت، التقت بعيني الرجل الذي كان يحدّق بها وكأنه يقيمها بعينيه.
رغم أن نظرته كانت باردة إلى حد لا يوصف، إلا أنه بدا كشخصٍ أعلى شأنًا بكثير من أولئك الرجال القساة الذين رأتهُم قبل قليل.
‘من أين أتيت؟’
ولأنه لم يكن هناك سبب يدعوه لأن يكون لطيفًا معها لمجرد كونها طفلة، فقد طرح باهيلو سؤاله بوجهٍ لا يفتقر للصرامة.
هزّت الفتاة رأسها. بما أنها لم تكن تتذكر شيئًا، كان من العدل القول بأنها لا تعرف شيئًا.
بعد أن طرح عليها باهيلو عدة أسئلة أخرى، نظر إلى حال لباسها، ثم أمر مساعده وهو يُبدي فهمًا طفيفًا للموقف:
‘خذها إلى القاعدة في الوقت الحالي.’
كانت قاعدة الجبهة الغربية تقع في قلعة “فيلهيم ستون”، على مسافة نصف يوم من غابة فيلهيم، وقد كانوا في مهمة استطلاع داخل عمق الغابة.
لذا قضت الفتاة ليلة في تلك الساحة المؤقتة حيث نُصبت الخيام، ثم نُقلت إلى القاعدة في اليوم التالي. وكان من المقرر إرسالها إلى منطقة المدنيين بعد بضعة أيام.
لكن… في تلك الليلة، حدث أمرٌ ما.
دينغ دونغ دينغ!
رنّ الجرس بشكل مرعب، وصاح الحارس في أعلى برج القلعة العتيقة، التي بُنيت بتكديس التراب بين الحجارة، بصوت عالٍ:
‘عدو!’
كان هجومًا مباغتًا من العدو.
لقد تسلل العدو عبر الغابة إلى قلعة فيلهيم، حيث تتمركز القاعدة.
اهتزت الأرض بأصوات انفجارات عنيفة، وتناثرت ألسنة اللهب الحمراء من السماء. ارتجفت الفتاة طيلة الليل، بينما كانت النيران تلتهم المكان من حولها، والجنود يسقطون واحدًا تلو الآخر بفعل السهام القادمة من كل اتجاه.
كانت خائفة. صرخات الرجال، وصوت الحديد المتصادم الحاد. الوقت الذي قضته منكمشة على نفسها، تغطي رأسها معتقدة أنها قد تموت بهذه الطريقة، كان طويلًا حد الرعب.
وعندما فتحت عينيها أخيرًا، كانت الضوضاء قد هدأت.
تحركت الفتاة بخمول. كان المسعفون يركضون في كل اتجاه، والجنود الجرحى يتلوّون على الأرض والدماء تنزف منهم بغزارة.
وعندما استعادت وعيها تمامًا، كانت تقف بجوار جندي مصاب، وكأن شيئًا ما قادها نحوه.
لاحظ باهيلو، الذي كان يتفقد الأوضاع برفقة فرسانه، الفتاة وهي تلفّ الضماد حول ذراع الجندي دون أن يطلب منها أحد ذلك.
‘ما الأمر، القائد باهيلو؟’
‘ألم تقل إن هذه الفتاة لا تملك أي ذكريات؟’
‘بلى، قال الطبيب الذي فحصها إنها لا تتذكر لماذا كانت في الغابة، ولا حتى اسمها.’
‘هاه… لا يبدو عليها الذعر أبدًا.’
تنهد بعمق.
لقد كان فجرًا جحيميًا بحق. والدليل على ذلك كان الخسائر الثقيلة في صفوفهم. من حسن الحظ أن عدد العدو كان قليلًا، ربما كانت نيتهم فقط إحداث الفوضى، وإلا لكانت الوحدة قد أُبيدت بالكامل.
‘الطبيب الذي شخّص حالتها بفقدان الذاكرة قال إنها لم تُبدِ أي ردة فعل على الإطلاق.’
فغير رأيه. فالدليل الذي كان من المفترض أن يصطحب الفتاة إلى إحدى المنازل المدنية قد فقد حياته وسط الفوضى، ومع قلة عدد الأفراد، قرروا التكفّل برعايتها مؤقتًا.
وهكذا بقيت فلورا في قاعدة الجبهة الغربية. في ذلك الحين، لم يكن أحدٌ ليتنبأ بأنها ستصبح لاحقًا من أبرز المواهب على الإطلاق.
“غابة فيلهيم…”
ثبّتت فلورا بصرها على اللوحة المرسومة على سقف الغرفة، وكأنها تسترجع ذلك اليوم.
ثماني سنوات قد مضت، لكن فلورا كانت كثيرًا ما تستعيد ذكرى اللحظة التي وطئت فيها القاعدة لأول مرة. والغريب، أن عدد هذه الاستعادات قد ازداد منذ أن جاءت إلى هنا.
كانت الحياة في قصر الدوق مريحة للغاية، لكنها لم تكن تنام بسهولة.
غياب الصرخات اللامتناهية، وصوت القصف المحمّل بالدخان الخانق، جعل هذا الهدوء… مقلقًا إلى حدٍ ما.
النوم لا يأتي.
✦✦✦
عمل الخادمات كان رتيبًا جدًا. فمهمتهن الأساسية هي تنظيف القصر ومساعدة السيد في سير حياته اليومية بسلاسة.
والعمل المخصص لهذا اليوم لم يكن مختلفًا، إلا في حالة فلورا. كانت مشغولة بمسح درج القصر بقطعة قماش جافة.
رغم قوتها الجسدية، إلا أنها لم تكن بارعة في مثل هذه الأعمال. كانت تمسك قطعة القماش الجافة بيديها وتحركها للأمام والخلف كما تفعل بقية الخادمات، لكن بطريقة ما، كان الدرج يزداد خشونة بدلًا من أن يصبح أكثر نظافة.
ولأنها لم تكن تعلم أن السبب في ذلك هو استخدامها لقوة مفرطة، فقد كان من الطبيعي أن لا تجد ما تقوله عندما ظهرت السيدة ميلادي وبدأت تنهال عليها بتوبيخ قاسٍ.
وبمجرد أن اختفت السيدة ميلادي بعد صبّ جام غضبها، التفّت بقية الخادمات حول فلورا كما هو معتاد.
“ألم تقولي إنك عملتِ خادمة من قبل؟ إذًا كيف لا تعرفين حتى كيف تمسحين الأرضية بشكل صحيح؟”
كانت فلورا قد لاحظت منذ بضعة أيام أن نظرات باقي الخادمات تجاهها قد تغيّرت قليلًا. وكانت سيلين أكثرهن وضوحًا في ذلك.
ورغم أن كلماتها كانت تحمل سخرية لا تخفى على أحد، إلا أن فلورا، التي قضت وقتها بين أناس اعتادوا على لهجة أشد قسوة بكثير، لم تسمع في حديثها سوى تحية عابرة.
“……”
“أوه، انظروا إليها. حتى الرد لم تعد تفعله عندما تُسأل.”
أمام استفزازهنّ الصريح، فكّرت فلورا للحظة فيما يجب أن تقوله. كانت قد كذبت بشأن عملها كخادمة، لكنها لم تكن تجيد المسح فعلًا.
“صحيح.”
أجابت بإيجاز وأخفضت رأسها لتتابع المسح، حينها داست قدمٌ منتعلة بثبات على قطعة القماش التي كانت تمسك بها.
فاضطرت فلورا لرفع عينيها والنظر إليهن. كانت ماري تبتسم بلُطف مفتعل، بينما ابتسامة سيلين كانت غريبة بشكل مقلق.
“عليك أن تفركي بقوة أكثر. ألا تعلمين كم هو مهم تنظيف السلالم؟”
“هل يمكنك أن تُريني كيف أفعل ذلك إذن؟”
“ماذا؟”
“إن أريتِني مباشرة، أعتقد أنني سأفهم.”
فمن الصعب الفهم بمجرد الاستماع إلى الكلام. لقد تعلّمت فلورا فنون السيف من خلال مشاهدة عروض إيان.
وكما كانت تفهم أسرع كثيرًا حين ترى خصمها يلوّح بسيفه، فقد قصدت من طلبها هذا أن تتعلّم بطريقتها الخاصة.
لكن، من وجهة نظرهن، بدا وكأنها تقول: “بما أنكنّ تثرثرن كثيرًا، لم لا تقمن أنتن بالأمر؟” فانكمش وجه سيلين بغضب.
“هل تقولين لنا أن نمسح الأرض؟”
“ألستِ أنتِ من قالت إن تنظيف الأرض مهم؟”
“……”
كان من الصعب فهم ما تقصدنه. لقد بالغنَ قبل قليل في التأكيد على أهمية هذا العمل، وها هنّ الآن يقللن من شأنه وكأنه تافه.
حتى هذا التساؤل كان بريئًا، لكن الخادمة التي نطقت به احمرّ وجهها من شدة الإحراج.
“هاه… يقولون إنك اعتدتِ النوم في أسِرّة دافئة، ويبدو أنك بدأتِ تُظهِرين وجهك الحقيقي الآن.”
“لم يُطلب مني أداء مثل هذا العمل بعد. هل هذا ما تفعلنه أنتنّ الثلاث؟”
أمالت فلورا رأسها قليلًا، وبدت حيرتها حقيقية.
لكن نبرة فلورا، التي ربما بدت حادة، أغضبت سيلين أكثر. فتاة كانت مستلقية في الفراش للتو، وتجرؤ على أن تتساءل إن كنّ في نفس المستوى؟ لقد أهين كبرياؤها بشدة.
وبينما كانت تعضّ على أسنانها بغضب، أشارت سيلين بإصبعها نحو السقف.
“أنتِ! توقفي عن هذا واذهبي ونظّفي نافذة العلية في أعلى طابق من السلم المركزي!”
“لكن رئيسة الخدم طلبت مني أن…”
“فقط افعلي ما يُطلب منكِ. لمَ كل هذا الكلام؟ رئيسة الخدم أعطتني التعليمات مباشرة.”
كانت تكذب، لكنها لم تكترث حتى لو اكتشفت السيدة ميلادي ذلك لاحقًا. يمكنها ببساطة أن تُدللها بكلمة معسولة أو قطعة حُلي وتنتهي المسألة.
“نظّفيها جيدًا، ليس فقط الأجزاء السفلية، بل العلوية أيضًا، حتى لا تبقى ذرة غبار واحدة. تعلمين ما سيحدث إن اكتفَيْتِ بمسح السطح فقط، أليس كذلك؟ هذه المرة، رئيسة الخدم لن تتساهل أبدًا.”
“إذًا…”
تذكّرت فلورا أن النافذة الزجاجية في أعلى منتصف هذا المبنى الرئيسي كانت نافذة بطول جسد إنسان، بل أطول.
وقبل أن تتمكن من السؤال عن كيفية تنظيفها، سبقتها سيلين قائلةً بسرعة:
“الأمر بسيط. بما أنك قصيرة، اصعدي إلى السطح ونظّفيها من هناك بجدية.”
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 9"