5
“ادخلي.”
جاء صوت عميق ومنخفض من خلف الباب القرمزي الداكن.
دخلت فلورا إلى داخل المكتب بعد أن أومأ لها الخادم الذي فتح الباب بسلاسة. مرّت ثلاثة أيام منذ وصولها وتخصيص غرفة لها حتى تم استدعاؤها أخيرًا لمقابلة الدوق.
تقدمت فلورا حتى وقفت مباشرة أمام المكتب الذي يجلس خلفه الرجل. انعكست أشعة الشمس على شعره الفضي فكان براقًا لدرجة جعلتها تعقد حاجبيها قليلًا.
ورغم أنه بالتأكيد قد شعر بوجودها، فإن الدوق كان غارقًا تمامًا في المستندات، وكأنها شديدة الأهمية.
لم يكن يرتدي زيّه الرسمي المزخرف بالأوسمة، بل كان يرتدي قميصًا خفيفًا مفتوحًا حتى عظمة الترقوة، مما جعله يبدو مختلفًا تمامًا.
حين رأته سابقًا في المخيم المظلم، كان يبعث جوًا خطرًا، أما الآن فقد بدا أكثر استرخاءً.
وبينما كانت فلورا تؤكد هذا التناقض لنفسها، فتحت فمها أخيرًا:
“سمعت أنك طلبت رؤيتي.”
ارتفعت نظرات الدوق الباردة ببطء من فوق الأوراق. وعندما وقعت عيناه على فلورا، ضاقت ملامحه الحادة قليلًا.
الفرق الكبير بين تلك الجندية التي جلبها بنفسه، والتي كانت آنذاك مغطاة بالطين ومهملة، وبين هذه المرأة التي تقف أمامه الآن، كان واضحًا بشكل مزعج.
تفحص بشرتها السمراء قليلاً من الشمس وجسدها النحيف.
جسدها كان صغيرًا نسبيًا، وشعرها مربوط إلى الخلف، وكان جسمها ضعيفًا مقارنة بالفارسات، رغم أنها كانت مقبولة مقارنة بفتيات النبلاء.
وشعرها الأشقر المائل للبياض، الذي يصل إلى أسفل صدرها، لم يلاحظه من قبل. والآن وهو يراها بوضوح، كان عنقها الرفيع وملامحها الهادئة وخط جسدها المتناسق، كلها أمور تثير الانتباه.
بدأ يفهم سبب انبهار بعض النبلاء بجمالها. لعلها كانت تضاهي آنسة ستيرنبو الجميلة التي ذاع صيتها.
لكن سرعان ما عبس، فقد كانت ترتدي زي التدريب الرمادي عوضًا عن الفستان الذي أحضرته لها ماري.
“لقد أمرت بأن تُعطى لك ملابس مناسبة… ألم تصلك؟”
“رأيت أن هذه الملابس غير ملائمة لمقابلتك، وهذه هي زيّات الخدمة التي يرتديها كل من في الجيش الإمبراطوري.”
“صحيح… لكن الحرب قد انتهت. ارمي تلك الخرق البالية فور خروجك.”
عندما تحدث بنبرة فيها اشمئزاز وكأنه قد سئم من مجرد رؤيتها، رفعت فلورا عينيها الزرقاوين بهدوء.
“هل هذا أمر؟”
“أمر؟”
ضحك الدوق بصوت خافت وكأنه سمع شيئًا مضحكًا.
“اعتبريه أول تعليمات من سيدك الجديد.”
ورغم أنها لم تبدُ مرتاحة، إلا أنها أومأت برأسها.
كان كلود ينظر إليها باهتمام. لقد اعتاد على رؤية نبيلات ببشرة باهتة شاحبة، لذا كانت هذه المرأة ذات البشرة الملوّحة بالشمس تُثير فضوله.
ثم، حين أدرك أنه لا يستطيع أن يبعد عينيه عنها، سخر من نفسه داخليًا بأنه مجرد رجل، ثم فتح علبة على طرف المكتب وأخرج منها سيجارًا.
غرس طرف السيجار بين أسنانه وامتلأت الغرفة برائحة فاخرة. أخذ نفسًا عميقًا واستمتع بالرائحة وهي تتخلل صدره، ثم نفخ الدخان ليتلاشى في الهواء.
أعاد نفس العملية وهو يراقب المرأة الواقفة بصمت أمامه.
هل هذه المرأة التي تبدو ضعيفة وصغيرة حقًا هي من قتلت هذا العدد من الأعداء؟
فهو نفسه كان في ساحة المعركة، ويعرف جيدًا سمعة الفرقة الثانية عشرة التي انتشرت حتى في الجنوب.
لكنه وهو ينظر إليها الآن، لم يستطع تصديق أن الجندية المرعبة سيئة السمعة هي هذه المرأة الهادئة.
لم يتحرك لسانه إلا بعد أن تحول طرف السيجار إلى رماد.
“ما اسمك؟”
“فلورا.”
“سمعت أنك لا تملكين ذكريات من قبل أن تصبحي جندية… من أطلق عليك هذا الاسم؟”
“عشت طفولتي دون اسم، وأُطلق عليّ اسم فلورا بعد أن أصبحت جندية.”
أجابت فلورا دون تردد.
رغم أنه سمع أنها قليلة الكلام لدرجة مزعجة، فإنها بدت تجيب جيدًا الآن، فاستند كلود بذقنه على يده وغيّر جلسته إلى وضع أكثر راحة.
“ماذا كنتِ تفعلين حتى الآن؟”
“كنت أُبيد الأعداء في صفوف العدو.”
هل هي من النوع الذي يتقد ولاءً؟، تساءل كلود في نفسه وسحب شفتيه في ابتسامة ساخرة.
“هل هناك شيء تتقنينه غير قتل الناس؟”
“أتمتع بلياقة بدنية جيدة.”
وبما أن إجاباتها كلها قصيرة وجافة، بدأ كلود يفقد اهتمامه قليلًا، فعاد يسأل بعينين ناعستين:
“وهل هذا يعني أنك جيدة في التحمل في السرير أيضًا؟ أعني بجسد مثل هذا؟”
“هذا ليس ما أعنيه.”
أجابت فلورا بسرعة، وعيناها تنكمشان قليلاً، في إشارة إلى انزعاجها الطفيف.
رغم سنواتها في ساحات القتال، لم تكن بريئة لدرجة ألا تفهم مثل هذا الحديث. الجنود كانوا دائمًا يتحدثون بالبذاءة عندما يجتمعون.
كان بالإمكان أن تشعر بالحرج، لكنها ردت على الفور دون أن يتغير لون وجهها، مما جعل كلود يبتسم.
وللمرة الأولى منذ دخولها هذه الغرفة، ظهرت على وجهها الخالي من التعابير عادةً، لمحة خفيفة من التعبير. كان تغيّرًا طفيفًا للغاية لا يُلاحظ إلا إذا دقّقت النظر، لكنه كان يكفي ليجعله يشعر أنها على الأقل إنسانة حقيقية، وليست قطعة خشب صلبة لا تتفاعل.
وبينما كان يضغط على طرف السيجار بيده ويُطفئه، سألها:
“ولو أني، بصفتي سيدك، أردت التأكد من ذلك بنفسي… هل سترفضين؟”
واختفت النغمة الساخرة من صوته فجأة.
لكن رغم هذا، لم يكن في نبرته أي شهوة أو رغبة. بل بدا كأنه فقط يريد اختبار رد فعلها بدافع الفضول.
غير أن فلورا لم ترد. لم يكن صمتها ترددًا، بل أشبه بعصيان هادئ.
عندها اعتدل كلود من وضعه المتراخي، وأسند مرفقيه إلى المكتب. وفي هذه اللحظة تحديدًا، بدا كزعيم فعلي لأسرة هاينست، “درع الإمبراطورية”.
“لا بد أنك تتساءلين الآن… عن السبب الذي جعلني آتي بك إلى هنا.”
“هل لديك سبب فعلاً؟”
منذ البداية، بدا وكأن فلورا ظنت الأمر مجرد نزوة أخرى من نُزوات النبلاء، فسألت بنظرة حادة في عينيها.
ضحك كلود بخفة عندما قرأ طبعها الغامض من تلك النظرة الحادة. في الحقيقة، هو الآخر كان يعيد التفكير في الأسباب التي دفعته لما فعله.
من السهل تخمين نوايا الإمبراطور، الذي تمنى أن تتبنى أسر النبلاء الجنود الذين لُقّبوا بالشياطين، حتى لو كان ذلك على حساب تهدئة جمهورية بيرسيوم الغاضبة.
“من الطبيعي أن يراهم الإمبراطور كنوزًا لا يجب التفريط بها، فقد ساهموا بشكل كبير في الانتصارات على الجبهة الغربية.”
الإمبراطور الشاب، رغم حماقته، كان يملك طموحًا هائلًا، ولن ينسى أبدًا عار الهزيمة. لذا أراد إبقاء هؤلاء الجنود كأوراق بيده ليستخدمهم مجددًا يومًا ما، لكنه لا يستطيع إبقاءهم قريبين منه، فبدأ هذه المسرحية بإرسالهم إلى منازل النبلاء تحت حجة “إعادة التأهيل”.
أما كلود، فلم يكن ينوي أن يطيع الأمر سوى ظاهريًا، ولم يكن ينوي حقًا أن يأخذ أحدًا منهم.
ومع ذلك، ومن بين جميع الجنود، اختار أكثرهم سمعة سوءًا، فلورا، والتي وُصفت بأنها أقل من بشر، وذلك كان بدافع فضول لحظي ليس إلا.
في اللحظة التي رآها فيها، جذبه شيء ما.
عيناها الزرقاوان المتوهجتان في الظلام، وجهها الصافي الذي لا يتناسب مع ما يُقال عنها من شائعات وحشية.
رغم أنه سمع الكثير عنها، إلا أنه لم يرَ شيئًا بعينيه، وهذا جعله يتساءل: هل هي حقًا كما يقولون؟
وربما، كان أيضًا يشعر بالاشمئزاز من البلاط الإمبراطوري، الذي يستخدم الأشخاص كما يشاء ثم يرميهم بتصنع راقٍ. ربما أراد أن يُري الإمبراطور المتعجرف كيف يمكن لإنسان أن “يصبح شخصًا حقيقيًا”.
“أود أن أرى ذلك الوجه المتعجرف للإمبراطور عندما يرى هذه الفتاة البسيطة، التي نُسيت على الجبهة، وهي تتحول إلى إنسانة يفتخر بها الجميع.”
عند تخيّله لتلك اللحظة، ارتسمت على وجه كلود ملامح اهتمام واضح.
“أنا أُقدّر الأشخاص بناءً على قدراتهم. إذا أثبتّ نفعك، أعدك بأن أعاملك بما تستحقين.”
“كإنسانة… تقصد؟”
رغم برود إجابة فلورا، راح كلود يمعن النظر في وجهها بينما تابع كلامه الجدي:
“لا حاجة لأن أخبرك بما يقال عن الفرقة الثانية عشرة على الجبهة الغربية، أليس كذلك؟”
“…أعرف ذلك جيدًا.”
رغم أنهم قاتلوا في الصفوف الأمامية دفاعًا عن الإمبراطورية، فإن سمعة الفرقة الثانية عشرة كانت سيئة للغاية.
فبسبب تصرفات بعض الجنود الوحشية، انتشرت قصص مروعة عنهم بين صفوف الجيش.
بينما كان الفرسان الرسميون يحاولون التزام الحدود، لم يكن لجنود الفرقة الثانية عشرة أي خطوط حمراء. كانوا يقتلون بلا تردد، لا يفرقون بين عدو أو حليف إن وقف أحد في طريقهم.
ولو أنهم فقط استخدموا سيوفهم، لربما لم تتسرّب هذه القصص، لكن بعضهم كان يقطع آذان الأعداء على سبيل الغنيمة، ويرتكب فظائع لا تُغتفر.
حتى الجنود الحلفاء كانوا يرفضون الاقتراب منهم.
فقد كانت هذه الفرقة مكوّنة من مجرمين أساسًا، فكيف يُنتظر منهم الالتزام بأخلاقيات الفرسان أو قوانين الحرب؟
أما فلورا، فقد كانت تفضل أن تنهي حياة العدو بسرعة، دون تعذيب أو استعراض.
لكن، لأنها كانت الأبرز بين الجميع، فقد أصبحت تلقائيًا محور الشائعات الوحشية والأسوأ سمعة.
وفلورا كانت تفهم جيدًا ما يعنيه الدوق بكلامه.
“أنا أمنحك فرصة جديدة. لتولدي من جديد كأحد أتباعي وتعيشي كإنسانة.”
“…”
لكن فلورا، على غير عادتها، ترددت في الرد.
رغم أن ملامحها بقيت جامدة، إلا أن شفتاها تحركتا قليلًا وكأن لديها سؤالًا عالقًا في ذهنها.
“إذا كان هناك شيء ترغبين في سؤالي عنه، فاسألي.”
“… إن رفضت أوامرك، هل ستقتلني؟”
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"