كانت غرفة الإقامة الرئيسية هادئة حين دخلت فلورا، متسائلة عمّا إذا كانت قد تأخرت في القدوم. ظنت أنها أمضت وقتًا طويلًا في خلع الفستان ومسح زينتها، لكن يبدو أن الدوق قد أمضى وقتًا أطول منها في الحمّام.
بعد أن رتبت الملاءات بعناية وأنهت تنظيم الفراش تمامًا، همّت بفكّ رباط الستائر حين فُتح باب الحمّام، وخرج منه الدوق كلود، لا يغطي جسده سوى منشفة بيضاء ملفوفة على خصره بإهمال.
“جئتِ؟”
تدفقت المياه على صدره الصلب، تنحدر في خيوط رفيعة فوق عضلاته المتينة، فاشتعل وجه فلورا خجلًا وأسرعت بخفض نظرها إلى الأرض.
“نعم، لقد حضرتُ الدواء هنا.”
تناولت علبة الدواء الموضوعة على الطاولة الصغيرة وقدمتها له بسرعة. تناول كلود الدواء دون اكتراث، ثم رمقها بنظرة جانبية وهو يلاحظ كيف تتجنب النظر إليه.
“لماذا لا تنظرين إليّ؟ هل اقترفتِ ذنبًا ما؟”
“… لا، لم أفعل.”
رفعت فلورا عينيها للحظة، لكن سرعان ما حادت بهما جانبًا عندما وقعت نظرتها على عضلات بطنه المحددة بإتقان. كانت قطرات الماء المتساقطة من أطراف شعره تنحدر على كتفيه العريضين، فمدّت إليه منشفة جافة بصمت.
ابتسم كلود ابتسامة خفيفة وقد أدرك أنها كانت شديدة الوعي بوجوده.
“امسحيها بنفسك.”
“… أأنا أيضًا يجب أن أفعل هذا؟”
“أليس هذا من مهامك؟ لم أطلب منك مرافقتي أثناء الاستحمام، فهذه على الأقل من مسؤولياتك.”
في الواقع، كان من المعتاد أن تقوم الخادمة بخدمة الدوق أثناء استحمامه، لكنها لم تفكر في ذلك لحظتها.
لم تجد بدًّا، فأمسكت المنشفة وبدأت تمسح بلطف قطرات الماء عن صدره وكتفيه. ومع كل حركة، كانت تشعر بخشونة جلده وحرارة جسده الصلب تتسللان إلى أصابعها عبر القماش.
بعدها ارتدى كلود رداء النوم على عجل وصعد إلى السرير، بينما أطفأت فلورا الأنوار وجلست في موضعها المعتاد بجانب الفراش.
ساد الصمت الغرفة، ولم يتبقَ سوى أنفاسهما المتناغمة.
كان كلود يحدق في السقف الخالي، يتساءل عمّا دار بينها وبين الإمبراطور وجعلها تكتم الأمر حتى عنه.
قادته أفكاره إلى تذكّر مشهدها في قاعة الحفل، وهي تمسك بيده وترقص معه بثقةٍ وكأنها وُلدت لتفعل ذلك. فتاة فقدت ذاكرتها، تعرف القراءة والكتابة، وتجيد المبارزة والرقص.
قطع الصمت صوته الهادئ:
“هل لا تلوح أي علامة على عودة ذاكرتك؟”
أخذت فلورا لحظة لتنتقي كلماتها، ثم أجابت:
“جربت الدواء الذي وصفه الطبيب العسكري، لكنه لم يُجدِ نفعًا.”
“هكذا إذن.”
خفض كلود بصره قليلًا وقال:
“ومَن علّمك فنّ السيف؟”
“في البداية كنت أراقب الفرسان من بعيد وأتعلم حركاتهم، ثم طلبت من أقوى زميل لدي أن يدرّبني.”
“مجرد تقليد لا يصنع مقاتلة بتلك المهارة. لم يسبق لك حمل السيف من قبل، فكيف بلغتِ هذا المستوى؟”
“قالوا إن لدي موهبة طبيعية…”
ردّت فلورا بنفس العبارة التي قالها لها يومًا إيان.
“موهبة فطرية، إذن…” تمتم كلود.
لم يكن هناك تفسير آخر. فتاة صغيرة، بلا خبرة سابقة، تنمو وسط لهيب الحرب، تتقن القتال لمجرد أنها تملك موهبة بالفطرة، ومع كل يومٍ يمرّ في ساحة المعركة، كان تطورها حتميًّا وسريعًا.
تشبهني…
تسللت الفكرة إلى عقله دون قصد.
فهو، كلود، الذي لُقّب بعبقري السيف، كان قد أمسك بشفرة حقيقية لأول مرة وهو في الخامسة من عمره، تنفيذًا لأوامر والده، الدوق السابق. طفولته كانت حبيسة تدريبات قاسية لا ترحم، فلم تكن له ذكريات جميلة تذكر.
كانت عائلة الدوق تُفاخر دوماً بأنها “درع الإمبراطورية”، وكان عليه أن يبرهن أنه أهل لتلك المكانة، حتى بات صدى تلك المطالب يطارده كالكابوس.
والده، الرجل الذي يكنّ له الجميع الاحترام باعتباره مخلصًا للإمبراطور، كان في الواقع صارمًا وقاسيًا بلا رحمة.
كان يعتبر البشر من حوله مجرد أدوات، لا أكثر. يرسل فرسانه للموت دون تردد باسم الولاء للإمبراطورية، دون أن يرفّ له جفن.
ولم يكن ابنه استثناءً من قسوته. فبصفته الوريث، اضطر كلود لتحمّل تدريبٍ صارمٍ لا يُطاق.
“اهزمهم، لا يهمّ الوسيلة، المهم أن تنتصر.”
كان يعيش يوميًّا شعورًا وكأنه يُختبر على أهليته لأن يكون الوريث.
إن خسر في نزال ضد فارسٍ أكبر منه، نال توبيخًا لاذعًا، ثم أُجبر على تدريبٍ أشد قسوة، دون راحةٍ أو نوم. ومع ذلك، لم يكن يرغب حقًا في الفوز.
لأن الفوز يعني شيئًا واحدًا… أن يضطر إلى قطع عنق خصمه أمام والده.
“تخلّ عن الشفقة. وحده الفارس الأقوى، الذي لا يُقهر، يستحق أن يكون سيد هذا البيت.”
كان تعليمًا وحشيًّا يزرع في قلب الطفل قسوة الحديد، ويقتل ما تبقّى فيه من إنسانية.
وفي أحد الأيام، حين حاول التظاهر بالخسارة مرة أخرى، اكتشف والده خدعته. فكانت عقوبته الأولى من نوعها…
حبسه والده في خزانة العلية المظلمة.
‘بما أنكم لم تحموا سيدي الصغير كما يجب، اقطعوا أطراف الفرسان الموجودين في ساحة التدريب واجعلوهم جميعًا معاقين.’
كانت أوامره كالصاعقة من السماء. توسّل الصغير واستعطفه، لكن الدوق السابق لم يُبدِ أدنى اكتراث. كانت تلك طريقته في التهديد، لإفهامه أن لا جدوى من الحيلة أو المقاومة.
مضت أيام وليالٍ دون أن يُسمح له بجرعة ماء واحدة، حتى شارف على الموت. وعندها فقط، فُتح الباب، وسمع صوت والده يقول ببرود قاسٍ:
«لقد ماتوا بسببك. بينما كنتَ عاجزًا ومحتجزًا هنا، أولئك الذين تبعوك ماتوا سدى.»
غيّر الأب أسلوبه. لم يعد العقاب جسديًا، بل نفسيًا. غرس في قلب كلود شعورًا قاتلًا بالذنب، مفاده أن موت أي أحد من حوله هو خطأه هو.
«إن كنت لا ترغب في رؤية أتباعك يتألمون، فتصرف كوارث حقيقي.»
كانت المبررات تتبدل كل مرة، لكن النتيجة لا تتغير أبدًا — كان كل شيء خطأه.
كان الدوق السابق رجلًا متسلطًا أنانيًا، لا يقبل معارضة سلطته أبدًا، ومن يعارضه لا يعود سالمًا. كان ولاؤه المطلق للإمبراطورية والعائلة المالكة يجعل منه وحشًا حين يتعلق الأمر بأي شيء خارج ذلك.
أما والدته، فلم تكن أفضل حالًا. أدّت واجبها بولادة وريثٍ للبيت، ثم تركت ابنها وشأنه. كانت تظن أن ما يفعله والده مجرد “تربية صارمة” مثل تلك التي يتلقاها أبناء النبلاء الآخرين، وانشغلت برفع مكانتها في المجتمع المخملي، غير آبهة بآلام ابنها.
ولأن لا أحد كان إلى جانبه، قرر كلود أن الحل الوحيد لتقليل عدد الضحايا هو أن يصبح الأقوى، في أقصر وقت ممكن.
حين تذكر طفولته البائسة، اجتاحه الاشمئزاز، فأغلق عينيه بإحكام. شعر بحرارة في طرف عينيه، تلتها وخزة لاذعة. ومعها، بدأ صدى صرخاته القديمة يعود إلى أذنيه، كأن الماضي يُعاد من جديد.
حاول النوم بالقوة، لكنه لم يستطع. كان الدواء الذي تناوله بلا فائدة، وكأن تأثيره انعكس عليه. ازداد وعيه بدلًا من أن يخفت.
فتح عينيه ببطء، ثم التفت ليرى فلورا تجلس على الأرض، تمرر غمد السيف فوق السجادة، تزيل عنه ما علق من الغبار. عندها داهمه طيف الذاكرة — دفء جسدها بين ذراعيه تلك الليلة.
ربما ذلك الهدوء الذي شعر به، وذلك الإحساس الغامر بالسكينة… كان سببه أنها بين ذراعيه.
ربما لو ضمّها الآن، سينام قليلًا…
توقف فجأة عند هذه الفكرة، لكنه سرعان ما استسلم لها. كان الألم في رأسه خانقًا، والماضي ينهش روحه، فخرجت الكلمات من فمه دون وعي.
“فلورا، ادخلي إلى السرير.”
كانت الكلمات اندفاعًا لحظيًا. لم يفكر بها، لكنها انطلقت كما لو كانت غريزة.
كل ما أراده في تلك اللحظة هو أن يمحو ما يعتصر صدره من وجع. وكان الشيء الوحيد أمامه… هي.
امرأة فتحته له من قبل، فلا داعي للشعور بالذنب تجاهها. مجرد خادمة، لا أكثر.
وسواء كان ما شعر به سابقًا حقيقيًا أم لا، فبضمة واحدة أخرى سيتأكد.
منطقه كان بسيطًا حدّ القسوة.
“… هل تتحدث بجد، يا سيدي؟”
رفعت فلورا رأسها وسألته بصوت خافت، بينما كانت عيناه الرماديتان، العميقتان حتى في الظلام، تتأملانها بتأنٍ.
“إنها أوامر.”
ترددت فلورا قليلًا. قبل أسبوع فقط، كانت قد استيقظت في سريره، وتعرضت لغضبه الشديد.
والآن، هو يدعوها بنفس الطريقة… فهل أخطأ في الدواء مرة أخرى؟
وبينما كانت تحاول أن تختار ردّها، سألها فجأة:
“لماذا؟ تخافين أن أهاجمك مجددًا؟”
اتسعت عيناها دهشة.
هل… تذكّر كل شيء؟
حتى لو فعل، فالتبدل الذي طرأ عليه لم يكن مفهومًا لها. قبل أيام فقط، كان يشيح عنها بانزعاج، فكيف تغيّر هكذا فجأة؟
“ألَم تكن منزعجًا مما حدث؟”
نهضت فلورا بخطوات مترددة واقتربت من السرير. مدّ كلود يده فجأة وأمسك بيدها، ثم جذبها نحوه بقوة.
تأرجح جسدها وسقط في أحضانه. كانت محصورة بين ذراعيه، كأنها فريسة صغيرة حوصرت تحت جسده.
حين حاولت التملص، شدها أكثر، يضمها بإصرار. تسللت رائحتها الهادئة إلى أنفه، نفس العطر الذي كان يهدئه بلا وعي.
“ما لا أفهمه هو شيء آخر… حتى وأنا بلا وعي حينها، لم تبتعدي عني. لماذا؟”
أطبقت فلورا شفتيها بصمت.
حتى هي لم تكن تفهم.
كانت تعرف أنها ترتكب خطأ لا يُغتفر، ومع ذلك لم تستطع أن ترفضه.
لأنها، للمرة الأولى، رأت فيه إنسانًا يشبهها.
ولأنه وحده من لمس أعماقها المظلمة، واستطاع أن يرى رغبتها في ألا تقتل بعد اليوم.
ربما، في تلك اللحظة، شعرت أنه الشخص الوحيد الذي فهمها حقًا.
تذكرت كل ما فعله من أجلها — كيف لم يستغلها في مكائد النبلاء، وكيف أراحها من خوض المعارك، وكيف وقف في صفّها حتى ضد أقرب الناس إليه.
كل تلك المواقف اجتمعت في قلبها، وخلقت في داخلها إحساسًا لم تستطع مقاومته. إحساس بأن هذا الرجل… يفهم ألمها كما لا يفهمه أحد.
وربما لهذا السبب، لم تستطع أن ترفضه في تلك الليلة. لأن حضنه كان… دافئًا جدًا.
نظرت إليه بعينين هادئتين وسألته بصوتٍ خفيض:
“هل… ما زلت ترغب بي؟”
“… وإن كنتُ كذلك؟”
كان في عينيه بريق غريب، ليس كالنظرات الباردة السابقة، بل نظرة رجل يعرف ما يريد تمامًا.
اقتربت أنفاسهما، وتورّد وجهها بحرارةٍ مفاجئة.
ترددت، ثم همست بعد صمتٍ قصير، تنظر إليه مباشرة:
“إذن… يا سيدي، هل تحبّنني؟”
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 39"