بعد مسافة قصيرة، بدت في البعيد ساحة مضاءة بنورٍ ساطع.
التفتت فلورا إلى الخلف، لتدرك أنها كانت تائهة على مقربة من الطريق الصحيح طوال الوقت.
“سيدي، أنت بارع في إيجاد الطريق.”
نظر إليها الدوق للحظة بوجهٍ خالٍ من التعبير، وكأنه لم يجد ردًّا على إعجابها البسيط هذا.
كانت تتبع خطواته ببراءة تامة، تتلفت من حولها بدهشة كطفلة، مما جعله يراها للحظة كفتاة لا تعرف شيئًا عن العالم.
قال بابتسامة خفيفة:
“من الطبيعي أن أعرف طرق القصر. على الأقل أكثر منك.”
أدركت فلورا سخف سؤالها فاحمرّت أذناها خجلًا.
فهو تقريبًا يدخل القصر الإمبراطوري كل يوم، كيف تظن غير ذلك؟
في تلك اللحظة، دوّى من بعيد صوت غامض، خليط بين نحيب رقيق وأنين كأنفاس حيوان.
“سيدي… سمعت صوتًا هناك.”
قال ببرود:
“تجاهليه.”
“لكن…”
وما إن حاولت أن تلتفت نحو مصدر الصوت، حتى امتدت يده وأمسكت بمعصمها بحركة حازمة، لتتوقف في مكانها.
“إنها أصوات أولئك الذين تقابلت عيونهم في الوليمة… والآن يتسلّون.”
احتاجت فلورا إلى لحظة لتفهم معنى “يتسلّون”، وحين أدركته، اتسعت عيناها دهشة.
أما هو، فتابع سيره كأن شيئًا لم يحدث، وظلت هي تتبعه بصمتٍ حرج.
حدّقت بظهره الطويل المهيب، ثم أنزلت بصرها إلى يده التي تمسك بيدها.
كم كانت يدها صغيرة بين أصابعه الدافئة.
تذكرت كيف شعرت بالحرارة ذاتها عندما رقصت معه في القاعة.
(لكن… لماذا كان سيدي هناك أصلًا؟)
كان المكان الذي التقت فيه به نائيًا جدًا، بعيدًا عن الطرق العامة، حتى يصعب تصديق أنه تصادف وجوده هناك.
لكنّ هذا السؤال تلاشى سريعًا من ذهنها، حين خطرت ببالها عادته في التدخين بين الحين والآخر.
وسرعان ما خرج الاثنان من الحديقة الخلفية المظلمة.
بدت أمامهما ساحة فسيحة مضاءة بمصابيح قوية، مصطفّة فيها العربات بانتظام.
وعند إحدى العربات المألوفة، وقف هيريوت ينتظر.
وحين لمحهم، تهلل وجهه للحظة ثم قطّب حاجبيه وهو يتوجه بحديثه إلى فلورا:
“أين كنتِ بحق السماء؟ أتدرين كم عانيت لأجدك؟!”
رمشت فلورا في دهشة أمام غضبه المباغت، ثم التفتت بخفة نحو الدوق.
(إذن لم يكن لقاءنا صدفة…)
لكنّه لم يُظهر أي تعبير على وجهه، وتابع سيره نحو العربة ببرود.
“سيدي، من أين وجدتها؟” سأل هيريوت، وعيناه تتنقلان بينهما بقلقٍ لم يستطع إخفاءه.
“كانت تعرف طريقها جيدًا على ما يبدو.”
“عفوًا؟ لكن… لقد ذهبتَ حتى إلى قصر الإمبراطور—”
“سنعود.”
قطع كلود كلام مساعده ببرود، ثم صعد إلى العربة دون أن يلتفت.
أمال هيريوت رأسه مستغربًا، ثم ركب حصانه بعد أن رأى سيده يعتلي المقعد الداخلي، ولحقت به فلورا بخطوات مترددة، تصعد العربة في صمت.
ومن بعيد، كان هناك من يراقبهم بنظرات طويلة.
“ما الذي تنظر إليه هكذا، يا لورد ريكيجن؟”
سأله أحد أفراد الوفد الدبلوماسي وهو يلاحظ توقفه المفاجئ عند باب القاعة.
وحين تبع نظره، سرعان ما أدرك السبب.
“آه، إنه دوق هاينست. أما تلك الشابة بجانبه… هل هي محبوبته؟”
قهقه أحدهم ساخرًا:
“هاه… حتى ذلك الرجل الذي يقولون إنه بلا دمٍ ولا دموع، لا بد أنه لا يحدّث محبوبته عمّا ارتكبه من جرائم.”
هزّ بقية أعضاء الوفد رؤوسهم بأسف، مستذكرين كم الجنود الذين خسرهم الدوق في معارك الجنوب.
أما ريكيجن، الذي كان بدوره مطّلعًا على تلك الشائعات القادمة من الجنوب، فقد تذكّر صورة الدوق في قاعة المفاوضات — مهابًا، متجهمًا، ينبض بالهيبة — رجل يثير رغبةً دفينة في مواجهته وجهًا لوجه.
لكن السبب الحقيقي لتوقفه لم يكن الدوق نفسه، بل المرأة التي كانت تقف بجانبه.
كانت ملامحها مألوفة على نحوٍ غريب، كأنه رآها في مكانٍ ما من قبل.
(لكنني لم ألتقِ بأي امرأة من نبلاء روجنترا من قبل…)
عبث في ذاكرته طويلًا، لكنه لم يجد شيئًا. فزيارته هذه للعاصمة هي الأولى له في حياته، ولم تطأ قدماه أراضي الإمبراطورية قبل الحرب قط.
عندها تنهد أحد أعضاء الوفد بشيء من المرارة، وقال وهو ينظر إلى قصر الإمبراطور المتلألئ بالأضواء:
“هاه… لو كنت أعلم أنهم سيقيمون وليمةً بهذا البذخ بمناسبة عيد الميلاد، لطلبتُ تعويضًا أكبر.”
أجابه آخر:
“صدقت. ظننت أن تسليمهم حقوق التجارة البحرية الشرقية سيوجه لهم ضربة قاصمة… لكن أنظر إليهم الآن، يتفاخرون وكأنهم المنتصرون! لو كانت أميرة مملكتنا مكانهم، لشَكرت السماء ألف مرة!”
أدار ريكيجن وجهه عنهم بملامح ضجرة. كان قد أُجبر على مرافقة الوفد بأمرٍ من الملك، ولم يطق بعد سماع تذمر الشيوخ الذين لا ينقطع كلامهم.
“يا لورد ريكيجن، ألا تأتي؟”
“…قادِم.”
أجاب باقتضاب وهو يعاود السير بخطوات بطيئة.
(وكأنني سأعرف من تكون تلك النبيلة من روجنترا على أي حال…)
ومضى خلفهم، تاركًا أفكاره تتبدد في ليل القصر البارد.
✦✦✦
“لا يدخل أحد.”
قال كلود بصرامة وهو يمرّ بين الخدم الواقفين لتحيته عند مدخل القصر.
وما إن دخل غرفته، حتى خلع بزّته العسكرية الثقيلة وألقى بها جانبًا، ثم غاص بجسده في حوضٍ عميق مملوء بالماء الساخن.
انحدرت قطرات الماء على كتفيه العريضين المبتلّين، وراحت تتساقط على سطح الحوض برتابة.
بدأ جسده المتوتر يرتخي شيئًا فشيئًا، لكن جفونه المتورّمة من قلة النوم ما زالت تؤلمه بشدة.
(يا لها من مهزلة حقًا.)
كانت تلك خلاصة شعوره لما جرى قبل ساعات.
أغمض عينيه، متذكرًا نفسه وهو يغلي غضبًا في تلك اللحظة التي اكتشف فيها غياب شخصين من قاعة الاستقبال.
ظن الجميع أنهما لا يزالان هناك، لكن مساعده لم يتردد في إبداء أسوأ الاحتمالات:
“سيدي، هل يمكن أن تكون فلورا قد أقدمت على فعلٍ متهور… وتم القبض عليها؟”
أصدر أوامره على الفور بالبحث عنهما في أنحاء القصر.
لكن حين جاءه تقرير يؤكد أن لا الإمبراطور ولا فلورا موجودان داخل المبنى، لم يتردد لحظة في مغادرة المكان بنفسه.
“سأعود قريبًا. استعدوا للرحيل.”
أوقف رجاله الذين حاولوا مرافقته، ثم اتجه بخطواتٍ سريعة إلى جناح الإمبراطور الخاص.
كان في ذهنه حدسٌ واحد.
الإمبراطور… كان يحب الظهور أمام الجميع، لكنه أيضًا يميل إلى إخفاء ما يهوى، كطفل مدلل يخفي لعبته المفضلة عن الآخرين.
رجلٌ يعشق القوة، لكنه لا يقل شغفًا بالنساء.
لذلك لم يكن من الصعب تخمين نوع الأفكار الدنيئة التي قد تراوده إن وجد امرأة مثل فلورا أمامه.
صعد كلود الدرجات المؤدية إلى الطابق الذي يستخدمه الإمبراطور شخصيًا بخطواتٍ حازمة.
لكن فجأة، توقف.
(هل حقًا يستحق الأمر هذا؟)
تساءل في نفسه وهو ينظر إلى الممر الطويل أمامه.
(كل هذا لأجل خادمة؟ بل خادمة أرسلها الإمبراطور نفسه؟ لماذا أتدخل؟)
رفع بصره، فرأى أمامه باب قاعة الاستقبال الخاصة بالإمبراطور، وعن جانبيه وقفا الحرس الملكيون يحملون رماحهم الطويلة.
(وحتى لو وصلت إلى الباب… ماذا سأفعل؟)
هل سيجرؤ على اقتحام غرفة الإمبراطور؟
هل سيقول له: “أعد لي خادمتي”؟
ضحك بمرارة. شدّ قبضته واستدار مبتعدًا.
حتى لو كان الإمبراطور أحمقًا، يظل رغم ذلك سيده، ولا يجوز له أن يتجاوز حدوده.
خرج من المبنى، لكنه لم يعد إلى قاعة الوليمة.
ضاق صدره فجأة، لم يعد يحتمل صخب الحشود.
وقف في الحديقة الخلفية، وأسند ظهره إلى أحد الأعمدة الخشبية الضخمة، ثم فكّ ربطة عنقه بعصبية.
لكن الهواء لم يُشعره بالراحة. بالعكس، ازداد صداعه حدة، وصورة الإمبراطور وهو يرمق فلورا بتلك النظرة الغريبة لم تفارق ذهنه.
ظلّ يحدق طويلاً في المبنى الذي خرجت منه، كأن عينيه لا تستطيعان الابتعاد عنه.
ومضت دقائق ثقيلة كدهرٍ كامل، حتى رآها أخيرًا — فلورا، تخرج وحدها من بين الظلال.
عندها فقط، شعر بأن أنفاسه تعود إليه.
‘هل كنتَ تنتظرني؟’
ارتد صدى صوتها الرقيق في أذنيه كهمسٍ حميمٍ لا يغادر.
فتح عينيه ببطء، ليجد نفسه ما يزال في الحوض.
سمع عندها صوت الباب يُفتح بخفة خلفه.
عندها فقط أدرك أنه كان جالسًا في الماء البارد منذ مدة.
قبض على حافة الحوض ونهض، فانهمرت المياه على جسده العاري القوي، تسيل على الأرض كخيوطٍ شفافة.
وخلف ذلك الباب… كانت تنتظره خادمته، تلك التي تحفظ له لياليه من الوحدة والظلال.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 38"