كانت فلورا تسير في الممر بإرشاد أحد الخدم، تُخفي تنهيدةً خفيفة لا يُسمع لها صوت.
كل ذلك بسبب الدوق، الذي أرسلها دون أن يشرح لها شيئًا حتى النهاية.
«اذهبي.»
قالها ببرود وهو يسحب يده منها، وكأنه لم يعد يعنيه أمرها في شيء.
وهي تسير خلف الخادم، أدركت فلورا أنها لا بد قد ارتكبت خطأً جسيمًا هذا اليوم.
غارقة في أفكارها، تنبهت فجأة والتفتت إلى الخلف، لتجد أنها تبتعد أكثر فأكثر عن قاعة الحفل.
“هل ما زال الطريق بعيدًا؟”
“لقد شارفنا على الوصول يا سيدتي. قال جلالته إنه يرغب في حديث هادئ، لذا أمر بأن تُقادِيه إلى قاعة الاستقبال الخاصة في الجناح الإمبراطوري.”
لم تكن فلورا تعرف شيئًا عن طرق القصر، فاكتفت بهزّ رأسها وهي تفكر أن جناح الإمبراطور لا بد أنه بعيد عن قاعة الحفل.
بعد السير لوقتٍ بدا طويلاً، توقفت أمام بوابةٍ مشددة الحراسة.
“ستدخلين من هنا.”
“حسنًا.”
تنفست بعمق وهي تتبع التعليمات وتدخل. لم تشعر بالتوتر من قبل، لكن إدراكها بأنها ستقف أمام أعظم رجل في هذه البلاد جعل أطرافها ترتجف قليلًا.
تابعت السير عبر قاعةٍ فاخرة تزينت بلوحاتٍ فنيةٍ أنيقة وستائرٍ قرمزية، وهناك، خلف الستار الأحمر، كان يجلس رجل ذو شعرٍ أحمر بلون الشمس.
رأته من بعيد في قاعة الحفل، لكنه بدا أصغر سنًّا مما ظنت. ربما أصغر من سيدها بعامين أو ثلاثة.
انحنت فلورا بخفةٍ وهي تقول بتحفّظ:
“أُحيي جلالتكم، أنا فلورا.”
“اقتربي، لقد تغيّرتِ كثيرًا حتى كدتُ لا أتعرف عليك.”
رحّب بها الإمبراطور بابتسامة مشرقة، وعيناه تتفحصان ملامحها ببطء.
اقترب منها خطوة، فتراجعت فلورا بخفة. كان في نظره شيء غريب… نظرة تفحصٍ حادة جعلتها تشعر بعدم الراحة.
قالت بصوتٍ هادئ:
“لكن، جلالتكم… أود أن أعرف سبب استدعائكم لي.”
“سبب؟ وهل يحتاج الإمبراطور إلى سببٍ ليستدعي أحد خاصته؟”
(أحد خاصته؟)
نظرت فلورا إليه بدهشة.
منذ أن دخلت القاعة، لم يتوقف الإمبراطور عن الابتسام، ابتسامة واسعة لا تخلو من الغموض، حتى كأنها أرادت أن تسأله ما الذي يثير ضحكه بهذا الشكل.
الإمبراطور الشاب، ماكس لوزنت، لم يكن في مزاجٍ حسن قبل قليل. فقد أفسد مباحثاته مع المبعوثين مزاجه تمامًا.
حتى حين دخل الحفل وتلقى التهاني، لم يزُل الضيق عن وجهه. لكن بمجرد أن رأى فلورا، انفرجت أساريره كأن شيئًا لم يكن.
راح يتأملها بعينٍ راضية، فبريق جمالها لم يكن خفيًّا حتى على غيره من الرجال.
(يبدو أن دوق هاينست أعدّها خصيصًا من أجلي.)
هكذا فسر الأمر في ذهنه، مقتنعًا بأن الدوق تأنّى في تهيئتها وألبسها أجمل ما عنده ليقدّمها للإمبراطور.
“تفضلي، اجلسي.”
أشار بيده بلطف نحو المقعد المقابل له.
دخلت بعدها الخادمات ووضعن على الطاولة مجموعةً فاخرة من الحلويات، فواكه مجففة، ومعجنات تفوح منها رائحة العسل والزبدة.
رفعت فلورا نظرها إلى الإمبراطور بخجل، فأومأ لها وهو يقول:
“كلي براحتك.”
لم تكن تشعر بالجوع، لكنها لم تأكل منذ الصباح، فمدّت يدها بتردد والتقطت قطعة مادلين. ذابت الحلوى في فمها بطعمٍ ناعمٍ ودافئ.
لكن الإمبراطور لم يُبعد عينيه عنها لحظة واحدة، مما جعلها تشعر بتوترٍ متزايد.
“سمعت أنك تحبين الطعام.”
“هل من أخبرك بذلك هو… سيدي الدوق؟”
سألته بأدبٍ حذر.
“سيدك؟ أأنتِ تقصدين الدوق؟”
“… نعم.”
عندها، ارتسمت على وجه الإمبراطور ابتسامة خفيفة سرعان ما اختفت، وقطب حاجبيه ضيقًا.
“لا يعجبني سماع تلك الكلمة. لا تستخدميها أمامي بعد الآن.”
قالها بإشارةٍ من يده، ثم غيّر الموضوع وهو يتأملها بنظرةٍ مفعمة بالإعجاب.
“لكن ما يهمني الآن… أنكِ جئتِ إليّ بهذه الهيئة الجميلة. لا بد أنكِ كنتِ تشتاقين لرؤيتي.”
“… ماذا؟”
كادت فلورا تُسقط قطعة الحلوى من يدها. كانت كلماته غريبة لا تفهم معناها، وابتسامته لم تكن أقل غموضًا.
“أما زلتِ تذكرينني؟”
“أعتذر… لا أظن أنني—”
“صحيح، نسيتِ لأنني أخفيت هويتي آنذاك.”
لمع بريق الذكريات في عيني الإمبراطور، فيما بقيت فلورا تحدّق به حائرة لا تفهم ما يقول.
“قبل عامين، عندما زرتُ قلعة فلهيم دول، أنتِ من أنقذ حياتي يومها.”
اقترب الإمبراطور منها أكثر، مرددًا كلمات لم تجد لها صدى في ذاكرتها.
“في ذلك اليوم، ركضتِ نحو ساحة العدو من أجلي. لم يكن من أجلي أحد سواكِ، أنتِ وحدك فعلتِ ذلك لأجلي.”
كلما واصل كلامه، كانت فلورا تنبش ذاكرتها بيأس، محاولة أن تجد ما يشير إلى ما يقوله، لكن لم يخطر ببالها شيء. كانت على وشك أن تصحح له وتخبره بأنه لا بد يخلط بينها وبين أخرى، حين ومض في ذهنها شذرة ذكرى باهتة.
ذلك اليوم… نعم، تذكّرته الآن.
كان وقتها حديثٌ يتردّد في المعسكر بأن شخصية رفيعة للغاية من الإمبراطورية ستزور موقع فلهيم.
قيل إنه أحد شيوخ مجلس الشورى، وقال آخرون إنه من كبار نبلاء الشمال. وهناك من همس بأنه ربما يكون كونت القصر الإمبراطوري المقرّب من جلالته.
لكن القيادة العليا حرصت على إخفاء هوية الزائر تمامًا، فلم يعرف أحد الحقيقة.
ثم في ذلك اليوم بالذات، وصل تقريرٌ عاجل بأن العدو تسلل إلى عمق غابة فلهيم.
وفي خضم الارتباك، أمر القائد فلورا بأن تنضم إلى طاقم حراسة الزائر المهم.
كان الأمر غريبًا — ففي تلك الظروف الحرجة، حين تكون كل يدٍ في الميدان ضرورية، أن يُقتطع نصف القوة لحماية شخصٍ مجهول؟
“فلورا، ستنضمين إلى فرقة الحراسة الخاصة بذلك الشخص.”
“لكن سيدي، لدينا جنود كافون في الفرق الأخرى لتولّي الحراسة. لماذا أنا بالذات؟”
احتجّت فورًا. عادةً ما كانت مهام الحراسة توكل إلى الفرقة الثامنة، لا إلى الفرقة الثانية عشرة التي تقود الهجوم، ناهيك عن سحبها — وهي من أفراد الصف الأول — من الجبهة.
انتشرت همهمات الاعتراض بين الجنود، لكن القائد لم يتراجع عن أمره.
وما إن غادروا قلعة فلهيم دول حتى انقضّ عليهم كمين من الأعداء المختبئين.
كان عددهم قليلًا، ولذا تمكنت الفرقة من القضاء عليهم سريعًا.
والآن — حين سمعت كلمات الإمبراطور — أدركت أن “ذلك الشخص الرفيع” لم يكن سوى جلالته نفسه.
“لقد أُعجبتُ بكِ في ذلك اليوم، حين خاطرتِ بحياتك لحمايتي.”
كان في عينيه بريق ذكرى عميقة. لقد شاهدها تقاتل بسيفها في ذلك الوقت، ولم يُمحَ المشهد من ذهنه منذئذ.
لم تترك أي امرأةٍ في حياته مثل ذلك الأثر الذي تركته فلورا حينها — كانت جميلة، نعم، لكن قوتها تلك هي ما سحره حقًا.
أشاد بها الإمبراطور بنبرة إعجابٍ خالص، فيما كانت فلورا تشعر فقط بالحرج.
فهي لم تفعل ذلك لأجله، بل لأنها تصرفت بما يقتضيه الموقف وحسب.
وفجأة، نهض الإمبراطور من مقعده، وتوجّه إلى الحائط حيث عُلّقت تحت رأسٍ ضخم محنّط لسهمٍ صيدٍ قديم مجموعة من الأسلحة.
مدّ يده وسحب سيفًا طويلًا من مكان عرضه، ثم استدار نحوها.
“هناك أمرٌ أريدكِ أن تفعليه لأجلي.”
✦✦✦
بمجرد أن غادر الإمبراطور القاعة، كانت أجواء الحفل في الأسفل قد ازدادت صخبًا وبهجة.
توالى النبلاء في تقديم تحياتهم إلى الدوق كلود.
لكن هاريوت، الذي كان يقف قربه، كان ينظر بين الحين والآخر بقلقٍ إلى الشرفة الداخلية في الطابق الثاني، حيث تقع قاعة استقبال الإمبراطور.
لم يكن ممكنًا رؤية ما يجري هناك، إذ غطّت النوافذ ستائر كثيفة.
“يا سيدي… هل سنغادر فعلًا من دونهم؟”
“هكذا أمر الإمبراطور نفسه — قال أن نعود.”
أجاب كلود ببرودٍ وهو يرفع كأس النبيذ إلى شفتيه.
“صحيح، لكنه… آه، لا أشعر بالارتياح حيال هذا.”
تمتم هاريوت بصوتٍ متوتر، غير قادر على كبح قلقه.
“فلورا… لا يمكن أنها سترفع سيفها في وجه الإمبراطور، أليس كذلك؟ لا، لا يمكن… حتى وإن كانت تفتقر للحذر أحيانًا، فهي ليست مجنونة لتفعل ذلك… نعم، مستحيل… من يفعل شيئًا كهذا أمام جلالته؟”
كان يحاول إقناع نفسه بالكلام، لا يود أن يتورط في مصيبةٍ بسببه.
لكن الخوف ظل يزحف إلى صدره، فواصل التمتمة بقلقٍ ظاهر.
“لا، لا… ماذا لو… ماذا لو أهدى لها الإمبراطور منديلًا؟!”
كان قلقه المفرط يثير السخرية، فالتفت إليه كلود قائلاً بجفاف:
“إذن، لماذا لا تذهب وتتفقد الأمر بنفسك؟”
“… ربما عليّ أن أفعل ذلك فعلًا.”
قالها وهو ينهض بسرعة، ثم نظر إلى سيده بنظرةٍ مشككة. بدا له أن مزاج الدوق ليس بخير.
“بصراحة يا سيدي، أنت أيضًا قلق، أليس كذلك؟”
“أنا؟ ولماذا أقلق؟”
في الواقع، لم يتحدث كلود طوال الوقت إلا نادرًا، وكان صامتًا أغلب الحفل.
فهم هاريوت حينها أن سيده منشغل التفكير، فتابع قائلاً بنبرةٍ أكثر جدّية:
“إن هي لوّحت بسيفها أمام الإمبراطور، فالعقاب سيصيبنا نحن أيضًا، أليس كذلك؟”
كان قلقه في غير محله، إذ لم يخطر ببال كلود أن فلورا قد تجرؤ على ذلك أصلًا.
لكن رغم ما أظهره من هدوءٍ ظاهري، لم يستطع هو الآخر كبح اضطرابه الداخلي.
ظل مشهد نظرات الإمبراطور — التي كانت تتلمّس فلورا بشراهةٍ خفية — يلحّ على ذاكرته ويثير في نفسه ضيقًا غامضًا.
“إذن، لن تذهب؟”
“سأذهب، سأذهب حالًا!”
قالها هاريوت وهو ينحني بسرعة قبل أن يصعد الدرج المؤدي إلى الطابق الثاني.
تابعه كلود بنظرةٍ باردة، ثم ارتشف جرعةً من النبيذ، يحاول أن يبتلع مرارةً لم يعرف سببها.
كانت مجرد امرأة كان ينوي إرسالها إلى الإمبراطور منذ البداية، فلا داعي لأي اهتمام.
ومع ذلك… كان شعور الكدر ينهش صدره دون مبررٍ واضح.
ربما لأنهما تشاركا ليلةً واحدة لا يذكرها، أو لأن نظرة فلورا الصافية عادت تطارده في ذهنه.
وفي تلك اللحظة، اندفع هاريوت بين الحضور عائدًا بسرعة، وهو يقول بصوتٍ متوتر:
“سيدي الدوق! لقد اختفوا!”
“اختفوا؟ وضّح كلامك.”
“قاعة الاستقبال خالية تمامًا! لا أثر لجلالته ولا لفلورا… كلاهما غير موجود!”
عندها فقط، بدا الشرخ واضحًا على وجه كلود — كأن الجمود الذي كان يلفّه بدأ يتصدّع أخيرًا.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 37"