حتى في قاعة الاحتفال المزدحمة بالحضور، لم تتجه أنظارها أولًا إلى العرش الإمبراطوري، بل إلى الجمع الحاضر.
وحين تأكدت من غياب الآنسة ابنة الكونت بارين عن المكان، ارتسمت على شفتيها ابتسامة راضية ارتفعت حتى أقصى حدّها.
(ظننتها غبية، لكن يبدو أنها تفهم التلميح على الأقل.)
كانت قد نوت اليوم أن تدوس كرامتها إن ظهرت، لتردّ لها الصاع صاعين بعد ما حدث في المرة السابقة، لكن بما أنّ خصمتها لم تأتِ، بدا الرضا واضحًا على وجه روزالين.
وفي تلك اللحظة، بدأت سيدات المجتمع الراقي يتجمعن حولها واحدة تلو الأخرى.
“الآنسة روزالين ستيرنبوو، تبدين في غاية الجمال الليلة.”
“حقًا، بشرتك تلمع كأنها من الحرير. يبدو أن الحفل لم يكتمل جماله إلا بقدومك.”
تدفقت عبارات المديح من كل جانب، من سيداتٍ يسعين لنيل رضاها، وهي ابنة الماركيز المقرب من الإمبراطور، والوجه اللامع في عالم الطبقة الراقية.
“أنتن تبالغن، أنا كما أنا دومًا.”
قالت ذلك وهي تلوّح بمروحتها بخفة، وتجيب بأدبٍ متصنع.
لتتجه أنظار السيدات تلقائيًا نحو فستانها الفخم.
فبشعرها الأشقر الذهبي المتدلي في خصلاتٍ متموجة، كانت روزالين لافتةً للنظر حتى لو ارتدت ثوبًا بسيطًا، فكيف بها اليوم بثوبٍ بنفسجيٍّ ملكيٍّ يزيدها إشراقًا ويغمر من حولها بهيبته.
“الآنسة ستيرنبوو، لون فستانك رائع بحق.”
“لم أرَ لونًا كهذا من قبل، أيمكن أن تخبرينا من أي مشغل خيط لكِ هذا الفستان؟”
ارتفعت أصوات الإعجاب من هنا وهناك، وهي تنظرن بغيرةٍ إلى القماش الفاخر الذي لم يرين له مثيل.
كان قماشًا نادرًا، استقدمته روزالين خصيصًا لهذا اليوم من سوقٍ غير قانوني، دفعت فيه مالًا وفيرًا، ويبدو أن جهدها لم يذهب سدى، إذ لم تستطع أيٌّ منهن صرف بصرها عنها.
“إنه هدية من إحدى شركات التجارة التي يتعامل معها والدي، لذا لست متأكدة تمامًا من مصدره. لكن سأستفسر لهم في فرصةٍ لاحقة.”
“رجاءً افعلي، فهو حقًا مذهل.”
تتابعت كلمات الإعجاب، مقتنعة كل واحدة منهن أن هذا اللون سيكون موضة الموسم القادم.
وكانت روزالين تزداد زهوًا مع كل كلمة، مرفوعة الرأس، متلذذة بتلك النظرات التي تتغنى بجمالها.
وبينما تحافظ على ابتسامتها الرقيقة، أطلقت بصرها تبحث عن دوق هاينست.
وما لبثت أن وجدته أخيرًا، وسط دائرة من الناس تحيط به من كل جانب.
غير أنّه لم يكن وحده.
ضاقت عينا روزالين بحِدّة وهي تتفحص المرأة الجالسة بجانبه.
(من تكون هذه؟ هل هناك آنسة من طبقة النبلاء لم أتعرف إليها بعد؟)
كانت روزالين تعرف تقريبًا جميع سيدات الطبقة الأرستقراطية، لكنها لم ترَ هذه المرأة من قبل.
أما لباسها الفاخر ومجوهراتها اللامعة، فكانت تدلّ على أن أصلها ليس عاديًا أبدًا.
وبينما بدأ العازفون بالاستعداد لعزف موسيقى الحفل، تحركت روزالين بخفةٍ نحو الدوق ومرافقته.
✦✦✦
بعد أن انتهت تهاني النبلاء، أشار الإمبراطور بيده إيذانًا ببداية الحفل الفعلي.
وانطلقت الألحان الناعمة في أرجاء القاعة، تنساب برقةٍ على وقع الكمان والبيانو.
في تلك الأجواء، جلست فلورا بهدوءٍ تام.
نظرت خلسةً إلى الدوق الذي كان واقفًا قرب الشرفة يتحدث مع هارييت.
(عن ماذا يتحدثان يا ترى؟)
كانت في حيرة، لا تفهم ما الذي أراد الدوق منها حين جلبها إلى هذا الحفل.
ولم تفهم أيضًا سبب رغبة الإمبراطور في لقائها على انفراد.
أما الدوق، فلم يُبدِ أي نيةٍ لشرح شيءٍ مما يجري، بل بدا أن ملامحه تغيرت فجأة منذ لحظة تحدثه مع الخادم الذي جاء قبل قليل.
وحين غادر الاثنان المكان، وجدت فلورا نفسها وحيدة، تائهة بين وجوهٍ غريبةٍ وأجواءٍ خانقة.
كل شيءٍ بدا غريبًا وصعبًا.
تذكّرت فجأة ماري وزملاءها في القصر، وتمنت لو كانت الآن في دفء بيتها الهادئ.
لكن فجأة، جلست امرأة أمامها دون سابق إنذار.
رفعت فلورا رأسها، فرأت سيدةً متأنقة تبتسم لها برقةٍ متعمدة.
“مساء الخير.”
قالت روزالين وهي تبتسم ابتسامةً كالزهور، فيما ردّت فلورا التحية بانحناءةٍ خجولة.
“يبدو أن جلالته بذل جهدًا كبيرًا في هذا الحفل، إنه فخم بحق.”
قالت روزالين بصوتٍ لطيفٍ مملوءٍ بالعذوبة المصطنعة، تشبه زهرةً تعرف تمامًا كيف تُخفي أشواكها.
“أنا روزالين ستيرنبوو. لم أركِ من قبل، أيمكنني أن أسألك من تكونين؟ ومن أي عائلة نبيلة جئتِ؟”
ترددت فلورا في الإجابة، متوترة لا تعرف إن كان عليها البوح أو الصمت.
رمقت الدوق سريعًا لعله ينتبه إليها، لكنه لم يكن قد لاحظ الموقف بعد.
فاضطرت أخيرًا إلى الكلام بصوتٍ خافت.
“أنا… فلورا.”
حين لم يتبع اسم “فلورا” أي لقبٍ نبيل، غطّت روزالين فمها بيدها بتصنّعٍ وبدت على وجهها ملامح الدهشة.
“لا يمكن… أأنتِ من العامة؟ كيف يُسمح لامرأةٍ من العامة بدخول هذا الحفل؟”
صوتها المندهش وصل بوضوح إلى آذان من كانوا يُصغون خفيةً إلى حديثهما.
شعرت فلورا بأنها قد ارتكبت خطأً دون قصد، لكنها قررت أن تفعل كما أوصاها الدوق مسبقًا.
“أنا… فقط جئت برفقة الدوق هاينست.”
“برفقة… الدوق؟”
تبدلت ملامح روزالين، وتحول انحناء عينيها إلى خطٍّ مستقيمٍ بارد، ثم ظهر في بريق عينيها ظلّ من الازدراء.
(هل يمكن أن يكون للدوق عشيقة؟)
هكذا ظنت فورًا، بعد لحظةٍ واحدةٍ من الحديث.
فملابس فلورا الفاخرة، التي تُعادل ثمن قصرٍ في العاصمة، لم تكن أبدًا ما ترتديه امرأةٌ من عامة الشعب.
“يا إلهي، يبدو أني تجاوزت حدودي.”
حاولت روزالين تصحيح تعابير وجهها، لكن نبرة الاستياء كانت قد تسربت بالفعل من صوتها ونظراتها.
وفي تلك اللحظة، عاد كلود إلى القاعة، وما إن لمح روزالين حتى توقف في مكانه.
“إن كنتِ تبحثين عن المركيز ستيرنبوو، فلعلكِ أخطأتِ الاتجاه، فهو ليس هنا.”
“دوق هاينست، لم أرك منذ زمن. لكنني في الحقيقة لم آتِ لأرى والدي… بل جئت لرؤيتك أنت.”
رغم بروده الواضح، جلست روزالين بثقةٍ في المقعد الفارغ إلى جواره، مقابل فلورا مباشرة.
وبينما جلست هناك، لم تستطع إلا أن تتمعن في ملامحه.
وجهٌ لا تشوبه شائبة، بارد كالجليد، لكنه وسيم إلى حدٍّ مؤلم.
عريض الكتفين، وجسده القويّ بدا كما لو أنه صيغ من الفولاذ.
ذلك الكبرياء الصارم في عينيه جعله، في نظرها، أكثر رجولةً من الإمبراطور نفسه الذي لم يكن سوى متظاهرٍ بالهيبة.
“بالمناسبة… هذه السيدة هي التي رافقتك الليلة؟”
“لا حاجة لكِ بأن تهتمي بذلك يا آنسة.”
كان ذلك ردّه البارد، مختصرًا، وكأنه يقطع الطريق على أي سؤالٍ لاحق.
“أه… فهمت.”
ابتسمت روزالين بتكلّف، وشعرت بالارتياح لأنها لم تحصل على إجابةٍ واضحة، ثم اقتربت أكثر من كلود، متجاهلةً وجود فلورا تمامًا.
“هل تنوي البقاء في العاصمة طويلًا يا دوق هاينست؟”
انعكس في نظراته الضجرة شيءٌ من التبرم.
“لم أكن أعلم أن آنسة ستيرنبوو تهتم إلى هذا الحد بخططي الشخصية.”
“بالطبع، فأسرتانا، آل هاينست وآل ستيرنبوو، من المفترض أن تكونا على وفاقٍ وثيق.”
“غريب… فحتى أنا، ربّ العائلة، لم أسمع بهذا من قبل.”
رفع عينيه إليها بفتور، وجاوب بنبرةٍ هادئةٍ خاليةٍ من أي دفء.
“يبدو أن الدوق يسيء الفهم، والدي فقط يرغب في توثيق العلاقة بين العائلتين، وليس لديه أي… مشاعرٍ شخصية تجاهكم.”
لم يردّ كلود، وكأن كلماتها لا تستحق جوابًا.
وفي تلك الأثناء، تغيّر لحن الموسيقى، وبدأت نغمةٌ راقصة تملأ القاعة.
انحرفت زاوية فم كلود بابتسامةٍ ساخرةٍ بالكاد تُرى، ثم نهض من مكانه دون أن يلمس يدها.
وبحركةٍ هادئةٍ وحاسمة، أمسك بيد فلورا، وأقامها من مقعدها.
“كما ترين، لدي شريكة بالفعل. أنصحكِ أن تبحثي عن شريكٍ آخر، آنستي.”
“ماذا…؟”
تجمدت ملامح روزالين في لحظة، وكأنها تلقت صفعةً غير مرئية، حين نطق بكلمة “شريكة”.
أما هو، فقد أخذ فلورا من مقعدها وسار بها إلى وسط القاعة، تاركًا الجميع في ذهولٍ مكتوم.
بدت فلورا مرتبكة على غير عادتها، تتلعثم بصوتٍ خافت:
“سيدي… أنا لا أعرف كيف أرقص.”
“فقط تظاهري بأنكِ ترقصين، واتركي الباقي عليّ.”
قالها ببرودٍ مطمئنٍ، ثم لفّ ذراعه حول خصرها بقوةٍ وسحبها إليه.
اقترب وجهه منها إلى درجة أن ذقنه الحادّ كاد يلامس شعرها.
لم يسبق أن فكرت يومًا أنها سترقص وسط قاعةٍ تمتلئ بالعيون المتطفلة.
عضّت شفتيها توترًا، إذ أحست بكل الأنظار تتسلط عليها.
“لكن… أليس هذا مبالغًا فيه قليلًا؟”
“جئتِ إلى الحفل بهذا المظهر الفخم، فلا أقلّ من رقصةٍ واحدة.”
ابتسم بخفةٍ تهكمية، ثم رفع يدها المترددة، وتشابكت أصابعهما داخل قفازه الأبيض.
شعرت فلورا بيدها تُحكم داخل قبضته، فاستسلمت لتحركاته، وبدأت تخطو بخطى مترددة على إيقاع الموسيقى.
كان اللحن ينساب برقةٍ في القاعة، لكنها لم تسمع شيئًا منه.
كل ما في أذنيها هو أنفاسها السريعة، وكل ما في بصرها هو وجهه القريب منها.
وبينما كانت تتبع خطواته دون وعي، بدأت قدماها تتذكر شيئًا ما.
شيئًا مألوفًا.
حركاتها أصبحت أكثر سلاسة، وكأن جسدها يتذكر رقصةً تعلمها منذ زمنٍ بعيد.
نظر إليها كلود بدهشةٍ خافتةٍ ارتسمت على وجهه.
“ألديكِ خبرةٌ في الرقص؟”
“أنا… لا أعلم.”
رفّت جفونها بخفوتٍ، ونطقت بصوتٍ صادقٍ حائر.
“لا تعلمين؟”
رفع حاجبيه قليلاً، ثم عاد إلى هدوئه.
لم تكن تتحرك كمن يُقاد، بل كمن يعرف تمامًا ما يفعل.
في تلك اللحظة، أدرك أنه لا يعرف شيئًا عنها حقًا.
تبدل اللحن مرة أخرى، وآن أوان تبديل الشركاء.
وما إن حانت اللحظة، حتى أحاطت به سيداتٌ أخريات كن ينتظرن هذه الفرصة منذ البداية.
وفي تلك اللحظة، اقترب الخادم الذي أرسلته الإمبراطورية قبل قليل، وانحنى عند أذن فلورا ليخبرها بهدوءٍ أن الوقت قد حان.
نظرت فلورا إلى كلود بعينين متسائلتين، تنتظر إشارته.
تأملها للحظةٍ طويلة، ثم أفلت يدها من قبضته بهدوءٍ حاسم.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 36"