فريكيزن، بخلاف المبعوثين الآخرين الذين لا يعرفون سوى الأوراق والتقارير، كان قائدًا ميدانيًا خاض المعارك بنفسه.
ولم يكن من النوع الذي يُخدع بالكلمات المزخرفة، لذا كان لا بد من مسايرته بعناية.
فأشار الماركيز تلميحًا إلى فضله في الماضي قائلاً:
“على كل حال، أليس بفضلي انتهت الحرب سريعًا وتمكّنتم من قمع التمرد؟”
لقد كان الماركيز منذ ثلاث سنوات يتآمر سرًّا مع دول التحالف، بل وكان يهرّب أسلحة الإمبراطورية إليهم دون تردد.
وما جعله يفلت من العقاب كل تلك المدة هو مكانته القريبة من الإمبراطور، فلا أحد كان يجرؤ على الشك به.
في نظر بيشوروم، إطالة أمد الحرب لم تكن أمرًا سيئًا.
فكلما سرّب بعض المعلومات وجنى مكسبًا، كان يكتفي بذلك.
ومادام الفرق العسكري بين الطرفين يبلغ خمسة أضعاف، فإن إطالة الحرب قليلًا لن تُضر بالإمبراطورية كثيرًا.
وحتى لو سقطت الإمبراطورية يومًا ما، كان بإمكانه دائمًا أن يفرّ إلى المملكة ويضمن لنفسه منصبًا هناك.
غير أن المملكة نفسها واجهت مشكلة في ذلك الوقت، فاستغل الفرصة بدهاء، ودبّر الأمور بحيث يُخيف الإمبراطور ويقنعه بإنهاء الحرب.
“وفي النهاية، جمعتَ أنت أرباحك السمينة، وما زلت تجمعها حتى الآن.”
“كحّم. هذا فقط… مقابل ما أبديتموه من كرم.”
“لا تقلق. لقد انتهى معظم القتال، وبمجرد الانتهاء من تطهير بقايا المتمردين فستعود الأمور إلى نصابها خلال أشهر قليلة.”
كان الماركيز لا يزال يزوّدهم بالأسلحة حتى بعد الهدنة، ويتبادلون المعلومات بين حين وآخر.
ولهذا شعر بالإهانة لأنهم لم يُخبروه بأمر بهذه الأهمية مسبقًا.
“مهما يكن، نحن في مركب واحد. ألم يكن يجدر بكم إخباري لأتهيأ على الأقل؟”
“يا ماركيز، أحقًا لا تفهم مقصود الملك؟ أم أنك تتغافل عمدًا؟”
“وماذا تعني بهذا الكلام؟”
“تظن أننا لم نسمع ما قلته عن رغبتك في إشعال حرب جديدة؟”
تجمّد الماركيز، محاولًا جاهدًا ضبط ملامحه التي كادت تفضحه.
فإن كان كلامه في القصر قد وصل إليهم، فهذا يعني أن في البلاط الإمبراطوري جواسيس تابعين لمملكة بيرسيوم.
فأرخى عينيه بتذلل مفتعل وقال:
“أوه، تلك مجرد كلمات قلتها حفاظًا على السلام، فالنبلاء لم يكفّوا عن القول إننا خسرنا الحرب.
كنت أريد فقط أن أبدو حازمًا لا أكثر، وهل أنا مجنون لأدعو إلى حرب جديدة؟”
“إن كنت تُضمر نية كهذه فعلًا، فاحذر. لا تستخفّ ببيرسيوم.”
“متى قللت من شأن مملكتكم، يا رجل؟!”
آه، ما أكثر ما يليق به وصف “الفارس الجلف”.
مدّ الماركيز يده وربّت على كتف ريكيزن محاولًا تهدئته.
“كفّ عن الضوضاء، إنها أوامر الملك. أقنع الإمبراطور كما ترى مناسبًا.”
“حسنًا… سأتصرف. جلالته يثق بي ثقة كبيرة على أية حال.”
ربت على كتفه بابتسامة ماكرة، محاولًا أن يبدو مطمئنًا.
فقد كان يعلم أنه إن أبدى اعتراضه على زواج الأميرة الآن، فسيثير حوله الشبهات أكثر.
“ملكنا لا يحب الانتظار، لذا نتوقع قرارًا سريعًا.”
وهكذا انتهى الاجتماع السري.
وبمجرد أن غادر ريكيزن الغرفة، عضّ الماركيز على أسنانه غيظًا.
“تِف، فارس جاهل متغطرس إلى هذا الحد!”
من دون أن يدرك حتى مَن الذي أبقاه حيًّا إلى الآن، تمتم الماركيز في غيظ، غارقًا في تأملاته بعد محادثة لم يجنِ منها شيئًا.
كان ذهنه يغلي. خطة واحدة فقط اختلت، فاضطرب كل شيء في رأسه.
✦✦✦
كانت فلورا متجهمة قليلًا.
لو أنهم أنهوا الأمر سريعًا بدل المماطلة، لما تعرّضت للتوبيخ.
وهي تتبع الدوق إلى قاعة الحفل، لم تستطع إلا أن تفكر بذلك.
رمقها هاريت بنظرة جانبية، ثم نقر لسانه وقال في نفسه “كما توقعت” وأدار وجهه بعيدًا عنها.
لم يكن هناك شكّ في أن الدوق غاضب.
فلورا باتت قادرة الآن على تمييز مزاجه من مجرد نظرة واحدة إلى وجهه.
هل هو غاضب لأنها سببت ضوضاء؟
أم لأنه رأى السيف معها؟
أم لأن الرجل الذي قابلته بدا وكأنه يعرفها؟
كانت التساؤلات تدور في ذهنها بلا توقف، لكنها لم تستطع أن تعرف أيّها الصحيح.
وإن لم يكن ذلك، فربما لم يرضَ من الأساس بإحضارها إلى هذا المكان؟
كانت شاردة حين اصطدمت جبهتها فجأة بشيء صلب فتوقفت.
التفت الدوق نحوها، ونظرة وجهه كانت تقول بوضوح إنه يملك الكثير من الكلمات ليقولها، لكنه بدلاً من ذلك أشار بعينيه نحو ركن القاعة.
“اجلسي هناك بهدوء، وعندما يستدعيك جلالته، سننتقل إلى قاعة المقابلة.”
“…معي أنا أيضًا؟”
سألت فلورا بعينين واسعتين، فأومأ الدوق برأسه.
لكنّه لم يُضف شيئًا بعدها، بل جلس متقاطع الساقين، واستدعى أحد الخدم ليأتيه بكأس نبيذ.
وبينما كان يحتسي النبيذ في صمت، جلست فلورا إلى جواره مطوية اليدين في حجرها.
ومن جانبه، تمتم هاريت وكأنه ينتظر تلك اللحظة ليبدأ باللوم:
“كنت أعلم أن الأمر سينتهي هكذا. لولا أن سيادته وصل في الوقت المناسب، لكانت الحرس الملكي قد سحبك من هنا منذ زمن.”
ازدادت كتفا فلورا انحناءً نحو الأسفل، ولم تفهم بعد سبب إحضار سيدها لها إلى هذا المكان.
رمقها كلود بنظرة سريعة، ثم ارتشف رشفة صغيرة من النبيذ وقال بهدوء أنيق:
“جئتِ إلى هنا لأن الإمبراطور هو من طلبك.”
“جلالته… طلبني؟ لماذا؟”
أمالت رأسها في دهشة، وكأنها لم تفهم المعنى.
“هذا ما أودّ أن أعرفه أنا أيضًا… لماذا لم تقولي إنك التقيتِ بالإمبراطور من قبل؟”
انكمشت فلورا تحت نبرته التي اتسمت بالتحقيق. لم يكن في ذاكرتها أي لقاء مع شخصٍ رفيع المقام كهذا.
كادت تفتح فمها لتشرح، لولا أن صوت المذيع الجهوري دوّى في القاعة.
“يدخل الآن جلالة الإمبراطور ماكس ريجينترا!”
وفي اللحظة التي دخل فيها الإمبراطور متوَّجًا بتاجٍ لامع، انحنى جميع النبلاء في القاعة احترامًا.
لم يجرؤ أحد على الاعتراض، رغم تأخره عن وقت الحفل المعلن بمدة طويلة.
(إذن، كان قد غادر ليبدّل ثيابه في القصر الإمبراطوري…)
هكذا فكّر كلود وهو ينظر إلى الحاكم الذي بدا مختلفًا تمامًا عن قبل قليل.
فحتى في الاجتماع السابق، كان يرتدي أبهى الثياب ليُظهر هيبته، أما الآن فبدت عليه رغبة جامحة في استعراض سلطانه؛ إذ ارتدى زينةً من الذهب الخالص حتى خُيّل للناظر أنه جلب بريق العالم كله فوق جسده.
انحنى كلود قليلًا احترامًا، فتبعته فلورا في الحال، تنحني كما يفعل سيدها.
“أشكر الجميع على قدومهم لتهنئة ميلادي.”
قال الإمبراطور بصوت رزين وهو يجلس على العرش.
كانت تلك بداية الكلمات الافتتاحية، يتبعها دور النبلاء لتقديم تهانيهم واحدًا تلو الآخر.
تقدّم كلود أولًا، بصفته رئيس إحدى أعرق الأسر النبيلة وصاحب أكبر الألقاب في الإمبراطورية.
“أوه، دوق هاينست! يسعدني أنك أتيت خصيصًا من أجل يوم مولدي. أرجو أن تستمتع بالحفل.”
تتابعت بعده التهاني من بقية النبلاء، وكان الإمبراطور يتظاهر بالجدّ والوقار، لكنه أحيانًا لم يتمالك نفسه عن الابتسام بسذاجة واضحة.
ومع ذلك، بدا ذهنه شاردًا؛ لم يكن يصغي فعلًا لمن حوله، إذ كانت عيناه تتجولان في أرجاء القاعة على نحو مريب.
وفجأة، توقفت نظراته عند كلود الذي عاد إلى مقعده.
لكن سرعان ما تحرك بصره إلى الجهة الأخرى — إلى المرأة الواقفة بجانبه.
رأى فلورا، متأنقة على نحو غير مألوف، بزيٍّ أشبه بملابس سيدات الطبقة العليا.
ظهرت الدهشة على وجه الإمبراطور أولاً، ثم ما لبثت أن تحولت إلى نظرة مبهورة، مشوبة بوميض غريب في عينيه.
استمر في التحديق بها طويلًا، بنظرة جعلت كلود يضيق عينيه.
لم تكن نظرة فضول أو اهتمامٍ عابر، بل نظرة رجلٍ انغمس في شهوةٍ مقيتة.
وقد أدرك كلود ذلك على الفور.
ابتسم الإمبراطور ابتسامة جانبية، ثم همس شيئًا في أذن أحد خدمه.
انحنى الخادم احترامًا، ثم اتجه بخطوات واثقة نحو كلود، وانحنى مجددًا ليهمس له.
“يأمر جلالته بأن تُحضر إلى قاعة المقابلة بعد نصف ساعة.”
(هل يريد أن يوبّخني لأنه جعلت فلورا ترتدي هذا الفستان؟)
قال كلود ببرود: “سأكون هناك في الوقت المحدد.”
لكن الخادم هز رأسه معتذرًا.
“معذرة يا سيدي، لكن من أمر جلالته باستدعائها ليست أنت، بل الليدي فلورا.”
ارتفعت حاجبا كلود بدهشة حادة.
“أتقصد أن جلالته طلب أن يقابلها وحدها؟”
“نعم يا سيدي، هذا ما أمر به بالضبط. وقد قال أيضًا إنك تستطيع البقاء للاستمتاع بالحفل، أو المغادرة متى شئت.”
في تلك اللحظة، خيّم الصمت على ملامح الدوق، وتحولت برودة وجهه إلى جليدٍ حقيقي.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 35"