الكونت بارغون، الذي بدا أن الغضب لم يهدأ في صدره بعد، واصل كلامه متذمرًا:
“أتظن أنني أسأل لأنني لا أعرف اسم ذلك الرجل؟ ما أردت قوله هو كيف لعائلة نبيلة مثل عائلة ستيرنبو، المشهورة بمهارتها في المبارزة، أن تُسلّم قيادة بيتها لذلك الغِرّ السخيف؟ يا للأسف! كان الأجدر أن يرث اللقب رجلٌ مخلص، لا ذلك الأحمق الذي صار ماركيزًا… حقًا، حتى السماء لا عدل فيها!”
فقال له أحد الجالسين بهدوء:
“لكن لم يكن هناك غيره آنذاك، أليس كذلك؟ لم يوجد أحد يَصلح لوراثة اللقب سواه.”
هزّ الكونت رأسه متنهّدًا وقال:
“ما أقوله بدافع الأسف، صدقني. حتى الإمبراطور نفسه غارق في سذاجته، إذ يصدق أمثال ذلك الرجل. كيف لرجل مثله أن يكون ابنًا للإمبراطورية العظيمة ريجنترا؟”
لم يكن تدهور سمعة الإمبراطور بلا سبب.
فقد كان واضحًا أن حال الإمبراطورية المشرقة التي ازدهرت من قبل، وصل إلى هذا الحد البائس بسبب الإمبراطور الحالي نفسه.
تلك الحرب العقيمة التي انتهت قبل أن تبدأ، بسبب مجرد افتراض سخيف أن قوات التحالف قد تزحف حتى العاصمة — حرب لم تُجرّب فيها حتى فرصة واحدة للقتال.
ربما ظنّ الإمبراطور أنه اتخذ قرارًا حكيمًا،
لكن بالنسبة للكونت بارغون، الذي خاطر بحياته مدافعًا عن حدود البلاد، كان من العبث أن تنتهي الحرب في أروقة القيادة دون استشارة أحد.
قال الكونت وهو يزفر أنفاسه الثقيلة:
“من البداية، كان جيش بيرسيوم ينوي احتلال الشرق فقط ثم الانسحاب. بلادهم على وشك الانفجار بسبب حرب أهلية، فبأي عقلٍ يواصلون القتال؟”
ابتسم كلود بخفة وقال:
“مولانا رجل ضعيف القلب، أليس كذلك؟”
كانت نبرته توحي باللامبالاة،
لكن في قرارة نفسه، لم يكن يطيق طريقة الإمبراطور في الحكم.
إذ كيف لرجل لم يُرسّخ حتى أسس حكمه، ولم يملك من الكفاءة سوى أنه الوريث الوحيد، أن يعتلي العرش بسهولة ثم يجر البلاد إلى حرب حمقاء؟
كان ذلك مؤلمًا لكلود، أن يكون مثل هذا الرجل سيده وملكه.
لقد كان الإمبراطور سولار — الذي يُقال إنه أعظم حكام تاريخ إمبراطورية ريجنترا — قد ثبّت عرش الإمبراطورية بيديه،
غير أن حفيده هو من دمّره بنفسه.
بل إن الحرب كلها بدأت بسبب غضبٍ سخيفٍ من عبارةٍ ألقاها أحد المبعوثين أثناء حفل تتويجه.
فقد تمنّى أن يصبح الإمبراطور الجديد حاكمًا صالحًا “مثل سولار العظيم”، لا “مثل ماكس”،
وهذا وحده كان كافيًا لإشعال حربٍ عبثية.
كانت حربًا لا جدوى منها أبدًا،
حربًا ولِدت من رعونة شخصٍ واحد فقط.
ومع ذلك، كان الإمبراطور شديد الحرص على صورته.
فنشر عمداً الشائعات بين الشعراء والمنشدين،
ليغنّوا له أناشيد تمجّده باعتباره “الإمبراطور الذي جلب السلام”.
سخر كلود في نفسه.
يا للمفارقة — يشكرون من أشعل الحرب لأنه أطفأها بيده!
كان من الطبيعي أن يشعر الأدميرال بالغضب،
لكن ما دام لا يمكنه تبديل الإمبراطور، فما بوسعه أن يفعل؟
لعق الأدميرال شفتَيه في ضيق، وكأنه يود قول المزيد، ثم صمت.
وبينما كانا يقتربان من قاعة الاجتماعات، قال:
“على أية حال، سمعت أن الدوق يسيطر جيدًا على ذلك الحصان الجامح.”
ردّ كلود بهدوء:
“أنا لم أفعل سوى إبداء رأيي.”
كان كلود كثيرًا ما يصطدم مع الماركيز ستيرنبو أثناء اجتماعات مجلس الدولة.
ذاك الماركيز كان يجلب أخبارًا بلا مصدر،
ويطرح آراءً غريبة، غير منطقية البتة.
وكان الحاضرون كلهم مذهولين من هرائه،
لكن بما أنه أقرب الناس إلى الإمبراطور، لم يجرؤ أحد على معارضته علنًا.
أما كلود، فقد تجاهله في البداية احتقارًا،
لكن مع الوقت بدأ يُبدي اعتراضه مرارًا وتكرارًا، إذ لم يحتمل أكثر.
فالجهل والتبجّح كانا سِمتهما المشتركة، سواء في الماركيز أو في من يشبهه.
قال الأدميرال في ختام حديثه:
“استمرّ في عملك من أجل المصلحة العليا.”
فاكتفى كلود بابتسامة غامضة.
فما يُسمّى بـ«المصلحة العليا» لم يكن يومًا سوى كلمة بلا معنى.
وبينما كان الكونت على وشك دخول القاعة،
التفت فجأة وقال بنبرةٍ كأنها عابرة:
“سمعت أنك لم تنم لياليَ كثيرة مؤخرًا.”
ابتسم كلود ببرود وقال:
“يبدو أن الشيخوخة نالت منكَ يا أدميرال، حتى بدأتَ تصدّق الشائعات.”
ضحك الرجل بهدوء وأردف:
“احذر يا فتى. إن وصلتُ أنا بالخبر، فاعلم أنه انتشر بالفعل. أقولها بدافع المودة… لأجل صداقة قديمة مع والدك.”
تصلّب وجه كلود حين سمع اسم والده.
كانت عائلة هاينست معروفة ببطولتها في الإمبراطورية،
وكان والده والأدميرال صديقين حميمين منذ زمن.
لكن بالنسبة لكلود،
كان اسم والده آخر ما يودّ سماعه في حياته.
قال في نبرةٍ جافة:
“سأضع كلامك في الحسبان.”
أجاب هذه المرة أيضًا بإيجاز.
لقد كان متعبًا إلى درجة أنه لم يعد يملك طاقة حتى لمجاراة الحديث.
وما إن انحنى الخادم بتهذيب وفتح الباب، حتى تسلّل إلى أذني كلود محتوى الاجتماع المتعثر.
“بما أن جلالتكم بهذا الإصرار، فبصراحة نحن في غاية الحرج.”
“قلت لكم مرارًا، لماذا عليّ أن أتخذ أميرة بيرسيوم إمبراطورة؟!”
تبع صوت أحدهم نبرةٌ حادة مليئة بالضيق الصادق.
حتى في مجلسٍ رسميٍّ أمام مبعوثي الدول، لم يكلّف الإمبراطور نفسه عناء الحفاظ على اللباقة، بل راح يطلق كلماته بجرأة واندفاع.
“كم مرة عليّ أن أقول إني لا أفكر في الزواج؟! لماذا يجب أن أتزوج أميرة من بلادٍ لم أرها قط؟!”
ومع كل جملةٍ تخرج من فمه، ازدادت وجوه النبلاء الحاضرين كآبةً وارتباكًا.
كان سبب تعثّر الاجتماع واضحًا — اقتراحٌ قدّمه أحد المبعوثين أثناء تبادل التهاني.
ففي حفل ميلاد الإمبراطور، كانت قد جاءت وفود من مختلف الممالك، وكان أبرزها وفد مملكة بيرسيوم، وهي إحدى الدول الرئيسية في التحالف، التي عرضت على الإمبراطور الزواج من أميرة بلادهم.
ظاهريًا، بدا الاقتراح وكأنه دعوة إلى “السلام الدائم بعد الحرب”، لكن في باطنه كان محاولةً سياسية خبيثة — لجعل وريث الإمبراطورية القادمة من نسل أميرة بيرسيوم.
وقد أدرك الشيوخ والنبلاء هذا المغزى الخفي، فبدت عليهم الحيرة والحرج.
فرفضُ الاقتراح صراحةً كان سيجعل الجو متوترًا، لذلك آثر الجميع الصمت.
لكن الإمبراطور وحده كان مصرًّا على موقفه.
“ألم يتجاوز جلالتكم سن الزواج منذ زمن؟ أما عن أميرة مملكتنا، فهي من الجمال والكمال ما لا يُجارى. من المؤسف أن يحملنا ملك بيرسيوم رسالة بيده، ثم يُقابل وفدُه بهذا الإهمال.”
عندها اسودّت وجوه الحاضرين تمامًا.
فـ بيرسيوم كانت، في النهاية، المنتصرة في الحرب الأخيرة،
أما ريجنترا، التي كانت الخاسرة، فلا يليق بها أن تُهين مبعوثي المنتصرين على هذا النحو.
غير أن الإمبراطور البسيط الطبع، وكأنه نسي الحرب التي خسرها قبل عام، تصرّف بغطرسةٍ مقيتة.
“قلت لكم مرارًا، دعونا نؤجل الحديث إلى ما بعد أن تنتهي حربكم الأهلية.”
كان هذا كل ما استطاع أن يتذرع به،
فهو لم يملك حجةً مقنعة.
ولم يكن يرغب، بطبيعته المتهوّرة، أن تظل الإمبراطورية خاضعة لتأثير التحالف.
وإن لزم الأمر، فلتكن حرب أخرى — هكذا كان يفكر.
لم يرد أن يتزوج امرأة غريبة لا يعرفها،
ولذا ظلّ يومئ إلى الماركيز فيشوروم بعينيه، يأمره بإغلاق الموضوع.
لكن الماركيز بدوره كان في مأزق.
فلو عارض الإمبراطور بدا وكأنه يخالف إرادته،
ولو أيده، لانقلبت خططه رأسًا على عقب.
حينها، فتح كلود فمه وتكلم:
“هذا ليس موضوعًا مناسبًا لمناقشته اليوم. نحتاج بدورنا إلى وقتٍ للتفكير. فلنستمتع بالاحتفال أولًا — اليوم عيد جلالتكم.”
رفع المبعوثون رؤوسهم عند سماع صوته العميق الرزين،
ثم ما لبثوا أن خفضوا أنظارهم حين تعرفوا عليه.
فمن من الحاضرين لا يعرف دوق هاينست؟
ولاسيما أولئك الذين هُزموا مرارًا في الجبهة الجنوبية أمام قواته — كانوا يهابونه بشدة.
“إذًا… سننتظر جوابكم.”
قال أحد المبعوثين وهو يسعل بخفة ليكسر التوتر، ثم انحنى مجددًا نحو الإمبراطور.
عندها أشرق وجه الإمبراطور، وقد سُرّ لأن زمام الحديث لم يعد في يد الآخرين.
“حسنًا! فلنذهب إذن إلى الحفل. لقد أمرت بأن يكون فخمًا. استمتعوا جميعًا.”
قالها بلهجةٍ مبتهجة، وكأن الاجتماع لم يكن موجودًا أصلًا.
ثم نهض من مقعده مغتبطًا، متوجهًا إلى الخارج، والتفت إلى كلود بابتسامةٍ يصعب وصفها.
“هل وصلت فلورا بالفعل؟”
قالها بنبرةٍ طفوليةٍ حالمة، كأنه نسي المبعوثين والحرب وكل شيء آخر.
تغيّر وجه كلود قليلاً، ثم أومأ على مضض.
✦✦✦
بإرشاد أحد الخدم، وصلت فلورا إلى قاعة الانتظار، لكنها لم تستطع الدخول.
كان الباب مقفلًا.
وحين بحثت عن الخادم الذي كان معها، لم تجده في أي مكان.
قررت الانتظار بهدوء قرب الباب.
وقفت هناك ساكنةً، حين مرّت بجوارها مجموعة من السيدات النبيلات، يمسكن مراوحهن المطرّزة بريش الطاووس، وألقين نظراتٍ سريعة نحوها.
خشيت فلورا أن تكون تسدّ الممر بثوبها الفخم،
فتراجعت قليلًا نحو ركنٍ أكثر هدوءًا من الممر،
ثم اتخذت لنفسها موضعًا في أقصى الزاوية لتنتظر.
ومضى بعض الوقت.
حتى خطوات الخدم التي كانت تتردد بين حينٍ وآخر، اختفت تمامًا، وغرق المكان في سكونٍ مريب.
عندها، ظهر شخصٌ ما في الجهة المقابلة.
رجلٌ أنيقُ الهندام، واضح الملامح النبيلة، كان يسير نحوها وهو ينظر إليها مباشرة.
ظنّت فلورا أنه سيمر بجانبها فحسب،
لكن حركته لم تكن طبيعية — كانت يده اليمنى داخل سترته،
وكأنه يخفي شيئًا.
في تلك اللحظة، تذكّرت فلورا وجه الدوق حين قال لها ذات مرة:
رفعت بصرها إلى الرجل الذي كان يقترب بخطواتٍ ثابتة.
ومع اقترابه، بدا جليًا أن يده تتحرك بخفةٍ داخل جيبه،
وكأنه يستعد لإخراج شيءٍ ما،
وكانت ابتسامته المائلة تُضفي على ملامحه ريبةً مقزّزة.
اقترب حتى صار أمامها تمامًا،
ثم قال بنبرةٍ متصنّعة الأدب:
“مساء الخير، سيدتي.”
وفي اللحظة التي همَّ فيها بإخراج يده من سترته،
ركلته فلورا بقوةٍ في ساقه، فانهار على ركبتيه من الألم.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 33"