“لا تقلقي، فهؤلاء ليسوا سوى بشرٍ عاديين يظنون أنفسهم مهمين. لا داعي لأن تشعري بالخوف.”
شعرت بخفقات قلبها تتسارع وهي تضع يدها برفقٍ في يده.
قال بنبرةٍ جادّةٍ هادئة:
“إن سُئلتِ عن شيء، فقولي فقط إنك جئتِ برفقتي.”
“في أي سؤالٍ كان؟”
رفعت فلورا رأسها نحوه بنظرةٍ تتساءل عمّا يقصده.
هل يريدها أن تتجنب الكلام؟ أم أن تفتخر بمعرفته؟
ابتسم بخفةٍ وقال:
“سيتدافعون نحوك كالذئاب ليسألوك هذا وذاك، فلا تجيبي أحدًا عبثًا. اكتفي بذكري اسمي.”
كانت تلك إجابة مختصرة وواضحة.
فاسمه وحده كفيلٌ بردع كلّ من يحاول الاقتراب منها.
ورغم أنه تحذير، إلا أنه كان يبعث في نفسها شيئًا من الطمأنينة.
أدارت نظرها عن العيون المتطفلة التي تهمس من حولها، وحدّقت في ملامح الدوق الممشوقة إلى جانبها.
بدأت تفهم لماذا تجتمع عليه كل الأنظار.
كان زيه العسكري المطرّز يُبرز وسامته أكثر، وشعره المرتّب بعناية يكشف عن جبينه الواثق ونظرته العميقة التي لا تجرؤ على مواجهتها بسهولة.
امتلأ مدخل القاعة بالحضور حتى كادوا يزاحمون الهواء نفسه.
تعرف أحد الخدم الواقفين عند الباب على الدوق فورًا، فهتف بصوتٍ عالٍ بعد تردّدٍ قصير حين لمح فلورا بجانبه:
“حضرة دوق هاينست، والليدي فلورا، قد وصلا.”
في لحظةٍ واحدة، خمد الهمس والضجيج، وبدأ الناس يفسحون الطريق بأنفسهم.
سارت فلورا بجانب الدوق وسط هذا الممر الذي انفتح لهما، تكتم أنفاسها بتوترٍ واضح.
كان الحفل مهيبًا، كأنه محاولة لإحياء مجد إمبراطورية “لوجنترا” القديمة التي كانت يومًا رمزًا للثراء والبهاء في العاصمة.
حتى فلورا، التي لم تتأثر بسهولة، لم تستطع منع بصرها من التعلق بكل ما حولها.
كان البهو يسطع كالشمس ذاتها، والثريات المزيّنة بالألماس تبعث بريقًا أشد لمعانًا من ضوء الظهيرة.
تحت الأقدام امتدت سجاجيد سميكة منقوشة بزخارف شرقية ناعمة، وبين الأعمدة الرخامية التي تسند القاعة تسلقت أزهارُ وردٍ حمراء لا يفترض أن تزهر في هذا الفصل.
وبينما كانت فلورا تتمعّن في هذا الجمال الخيالي، التقطت أذناها أصواتَ همسٍ متسارعة من حولها.
“من غير المعهود أن يحضر دوق هاينست بصحبة امرأة… من تكون يا ترى؟ لم أرَ وجهها من قبل.”
“حتماً هي ابنة عائلةٍ عظيمة الشأن، أليس كذلك؟”
كانت الهمسات تتبع خطاها حيثما مشت، تتسلل بينها كلمات الفضول والدهشة.
وكان كلما خطت خطوةً خلفه، أقبل الناس على تحية الدوق بانحناءاتٍ مهذبة.
وكان كلود يردّ التحية بأناقةٍ رسمية، لكنه لم يتلفّظ بكلمةٍ واحدة تُعرّف من تكون تلك المرأة التي تقف إلى جواره.
حين جلست فلورا أخيرًا إلى جانبه، في أكثر المقاعد فخامةً داخل القاعة، شعرت بالأنظار التي تتقاطع نحوها، فانكمشت كتفاها من الارتباك.
عندها تمتم بعض النبلاء الواقفين بالقرب منهم بنبراتٍ متسائلة:
“أليس من المفترض أن يبدأ الحفل منذ زمن؟”
“ما الذي يؤخر جلالة الإمبراطور؟”
كان من الغريب أن الحفل لم يُفتتح في موعده المعتاد.
وفجأةً، اقترب أحد الخدم على عجل، وانحنى أمام الدوق باحترامٍ واضح.
“جلالة الإمبراطور يطلب لقاءكم على وجه السرعة، يا دوق هاينست.”
رفع كلود حاجبيه قليلًا.
“ألم يكن من المفترض أن يحضر إلى الحفل بنفسه؟”
“في الواقع… إنه الآن مع الوفود الأجنبية، يا مولاي…”
تلعثم الخادم، وعلامات الحرج مرسومة على وجهه.
ظهر في ملامح الدوق شيء من الضيق.
كان من المفترض أن يلتقي الإمبراطور بالمبعوثين قبل الحفل في جلسة شايٍ قصيرة، لا أكثر… فلا بد أن شيئًا ما حدث هناك.
“سأذهب حالًا.”
قالها باقتضاب، ثم التفت إلى الخادم الذي كان ينتظر إشارته، وأوقفه للحظة وهو ينظر إلى فلورا.
لم يَرُق له أن يتركها وحدها وسط هؤلاء النبلاء الذين يبدون كقطيعٍ من الضباع الجائعة.
حرّك أصابعه إشارةً خفيفة نحو أحد الفرسان المرافقين، فأعطاه أمرًا قصيرًا بصوتٍ منخفض، ثم استدعى الخادم من جديد.
“سأغيب قليلًا، انتظري في قاعة الاستراحة.”
“قاعة الاستراحة؟”
قالت فلورا وهي ترمش بعينيها في حيرة، إذ كانت ما تزال تتأمل التحف والتماثيل التي تزين الجدران.
أومأ الدوق نحو الخادم.
“في نهاية الممر توجد قاعة مخصصة لعائلة الدوقية. انتظري هناك، ولا تذهبي إلى أي مكان آخر. استدعيت هاريت لترافقك.”
“حسنًا…”
أجابت بصوتٍ خافت، ثم رأته يختفي بين الجموع بخطواتٍ واثقة.
“سأرشدك إلى القاعة، سيدتي.”
قال الخادم بانحناءةٍ مهذبة، فنهضت فلورا من مكانها تتبعه بخطواتٍ مترددة.
✦✦✦
تنفّس كلود بعمق وهو يشق طريقه عبر الممر الطويل.
الإمبراطور مجددًا يثير الفوضى — ومعه هذه المرة فلورا أيضًا.
كان التعب بادياً على وجهه، وتمنّى في قرارة نفسه لو عاد إلى قصره فورًا.
ورغم كل محاولاته لتجاهل الأمر، ظلّ قلقًا من ترك فلورا وحدها في القصر الإمبراطوري، الذي يعجّ بالعيون الفضولية.
“لن يحدث شيء…” تمتم في نفسه، يحاول إقناعها كما لو كانت تقف أمامه.
وفجأةً سمع صوتًا مألوفًا يناديه من طرف الممر:
“دوق هاينست!”
رفع رأسه، فرأى وجهًا يعرفه جيدًا — البارون فارغون، أميرال الأسطول والمسؤول عن الجبهة البحرية الشرقية، أحد رفاقه القدامى في الحرب.
ابتسم كلود بلطفٍ رسمي:
“منذ زمنٍ لم أرك يا بارون فارغون. يبدو أن الشرق في سلامٍ إن كنت قد تركت موقعك وجئت إلى العاصمة.”
ضحك الأميرال بخشونةٍ تتناسب مع رجلٍ أمضى عمره في مواجهة الرياح المالحة والبحار الهائجة.
“وفّر تمثيلك اللطيف، يا دوق. أعرفك أكثر مما تظن.”
ابتسم كلود بصمت، فصفر الرجل بأسفٍ خفيف وهزّ رأسه.
“ألا تشعر بالمرارة؟ أقسم أني لا أستطيع مواجهة الإمبراطور الراحل في قبري وأنا على هذه الحال.”
ردّ كلود ببرودٍ خفيف:
“خذ الأمر ببساطة، يا صديقي. أليس السلام خيرًا من رائحة الجثث التي كانت تملأ ساحة المعركة كل يوم؟”
تذكّر حرارة الجنوب اللاهبة، والجثث التي كانت تتعفن بسرعة تحت الشمس.
بعد كل ذلك، لم يعد يجد مبررًا للاعتراض على نهاية الحرب.
قال الأميرال بنبرةٍ حزينة:
“كم هو مؤسف. أنت كنت تنتصر معركةً تلو الأخرى، لا بد أن شعورك بالضياع أكبر.”
أجاب كلود بهدوءٍ جاف:
“لستُ آسفًا على شيء.”
قطّب الأميرال جبينه بشدة، وقد بدا غير راضٍ عن هذا البرود.
“كانت حربًا نستطيع الفوز بها! نعم، كان خطأي أني لم أتوقّع أن أولئك الحمقى سيقصفون الساحل بالمدافع، لكننا دمّرنا أساطيلهم عن آخرها! ومع ذلك، يُقال إن الجبهة الشرقية انهارت لمجرد أن بضعة آلاف من الجنود دخلوا المدينة وأحدثوا فيها الفوضى؟ يا للسخرية!”
كان كلود قد سمع عن احتراق تلك المدينة — أكبر موانئ الإمبراطورية ومركز تجارتها الأهم — حتى صارت رمادًا.
تابع الأميرال بصوتٍ غاضب:
“وبيننا فقط، قل لي، ما بال هذا الفيشُروم؟ أي نوعٍ من المجانين هو؟ أقنع جلالته بإنهاء الحرب، والآن يتحدّث عن غزوٍ جديد؟! جئت مسرعًا من الشرق طوال الليل لأتحقق من الأمر بنفسي!”
قال كلود، وقد انكمشت عيناه قليلًا بنظرةٍ حذرة:
“أتعني الماركيز ستيرنبو؟”
كان الاسم وحده كافيًا ليبدّد ما تبقّى من هدوئه.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 32"