3
“…عفوًا؟”
سادت الصمت فجأة داخل الثكنة الصاخبة. حين أشار الدوق، أعلى نبيل رتبة في المكان، مباشرة إلى فلورا، بدا أن المسؤول الإداري قد يغمى عليه في الحال.
ثم، وكأنه ظنّ أن الدوق أيضًا قد سُحر بوجه فلورا الجميل، اقترب منه بسرعة وهمس في أذنه بهدوء.
سرد خلفيتها بسرعة كما لو كان يرجوه أن يعيد التفكير، لكن وجه الدوق الخالي من التعبير أوحى بأنه لم يضع تلك المعلومات في الحسبان أبدًا.
وبينما ترك المسؤول مذهولًا خلفه، ثبت الرجل عينيه على فلورا وتحدث:
“أنا كلود هاينست. هل تعرفينني؟”
الجميع كانوا يعرفونه كالقائد العام المتفوّق للجبهة الجنوبية، وفارس نبيل يُضرب به المثل.
وحين أومأت فلورا برأسها ببطء، بدأ الدوق يخطو بخطوات طويلة نحوها.
مع كل خطوة يخطوها، كان الوقار والنبل ينسابان منه. اعتادت فلورا على الهالة المميزة التي تصدر من القادة والفرسان النبلاء، لكن هذا الدوق كان مختلفًا.
وقفته المستقيمة كانت مثالية إلى حد أن المرء قد يتساءل إن كان قد فقد اتزانه يومًا ما، وجسده المتناسق والمشدود تحت الزي العسكري أوحى بأنه لم يكن مجرد قائد بالاسم.
راقبت فلورا تحركاته ببرود، لكنها رفعت عينيها أخيرًا حين توقف أمامها مباشرة.
“هل ستتبعينني؟”
ومضت في ذهنها فكرة أن صوته العميق الثابت في طبقته كان هادئًا للغاية. رمشت مرتين دون أن تغيّر تعبيرها.
“…”
“اخدميني بدلًا من العائلة الإمبراطورية التي تخلّت عنكِ.”
انتشر صوت شهقة حادة بين النبلاء الواقفين خلفه، داخل المكان الضيق.
الرجل الذي تجرأ على قول كلمات وقحة كهذه دون تردد، نظر إليها من علٍ ومدّ يده.
“سأكون سيدكِ. وسأجعلك شخصًا جديرًا، حتى لا يجرؤ أحد على التقليل منك.”
حتى بعد أن اقترب منها، لم تطرأ أي تغيّر على وجه فلورا الذي كان خاليًا من المشاعر، لكنها مدّت يدها وأمسكت بيده الممدودة دون تردد.
لم يكن لأنها اقتنعت بعرضه. لم يهمها من يكون سيدها، طالما كانت قادرة على حماية حياتها.
كل ما كانت تريده هو النجاة. لا أكثر.
—
رغم موافقة الدوق السريعة على رعايتها، لم تتحدث فلورا معه، ولا حتى رأته وجهًا لوجه لعدة أيام.
فور مغادرتهم للثكنة، ركبت حصانًا قدّمه لها أحد تابعي الدوق، وقضت اليوم كله ممسكة باللجام، لا ترى سوى ظهر الدوق من بعيد.
وفي المساء، كانوا يبيتون في قرية قريبة، وما إن تبزغ الشمس في اليوم التالي، يركبون الخيول من جديد. تبعتهم فلورا بصمت، دون أن تطرح سؤالًا واحدًا في هذا الوضع الخالي من الشرح.
وبعد خمسة أيام من هذا النمط، انتقلوا إلى عربة مغلقة. وبعد ثلاثة أيام أخرى من السفر المتواصل، وصلوا إلى مدينة لم تطأها قدم فلورا من قبل.
“فاشانت، العاصمة الأولى لإمبراطورية ليزينترا.”
خلال الرحلة بالعربة، كانت فلورا تحدق بالخارج من نافذة صغيرة، لكنها استطاعت بسهولة أن تخمّن أنها وصلت إلى العاصمة.
رغم أن الحرب انتهت منذ سبعة أشهر، إلا أن معظم المناطق التي مروا بها لا تزال تعاني من آثارها، لكن هذه المدينة بدت مزدهرة، خالية من المباني المهدّمة.
الناس كانوا يهرعون في الشوارع، والعربات تسير بكثرة، وكان الكل يبدو عاديًا. بالطبع، لم يكن أحد يحمل سيفًا عند خصره.
وبعد مدة قصيرة، وصلوا أخيرًا إلى بوابة حديدية ضخمة، تعادل ثلاثة أضعاف طول فلورا.
ومن خلال النسر المنحوت في المنتصف، يحتضن درعًا فضيًا، عرفت أنه رمز عائلة هاينست، وكان هذا بلا شك قصر دوق هاينست.
حين تعرّف الحارس على العربة، لوّح بسرعة، وبدأت البوابة الحديدية الثقيلة تنفتح بصوت أجوف.
“حتى شخص وضيعة مثلكِ يجب أن تعرفي أين نحن، إن كانت لديك عيون.”
قال ذلك رجلٌ عرف عن نفسه بأنه مساعد الدوق.
كان طوال الرحلة متجهمًا وكأن وجود فلورا يزعجه، وهذه كانت أول مرة تسمع صوته.
ظنّ أن نظرة فلورا المندهشة للخارج كانت رد فعل جندية ريفية أذهلها حجم قصر الدوق، فتابع بسخرية:
“هذا هو قصر هاينست العظيم، مكانٌ لن تطأه قدم جندية مجنونة بالدماء مثلك ولو لمرة واحدة في حياتها.”
انحنت فلورا برأسها بصمت. لكن ذلك أغضبه أكثر، فرفع حاجبًا واحدًا وطوى ذراعيه بتعجرف.
“دعيني أحذّرك. من الأفضل ألا تُمني نفسكِ بأوهام فقط لأن صاحب السمو جلبكِ إلى هنا.”
“…لم تكن لدي أي توقعات.”
“جيد. واصلي على هذا النحو.”
وعند توقف العربة، استدار المساعد ونزل، وتبعته فلورا.
رأت الدوق وقد سبقهم ودخل القصر مع مساعده والفرسان المرافقين، فترددت للحظة قبل أن تلحق بهم وتبقى في المؤخرة.
ظنت أنها قد تسمع صوت الرجل المسمى بالدوق، لكن أول من سمعت صوته كان سيدة مسنّة.
“لقد تأخرتَ.”
“السيدة ميلادي، آمل أن كل شيء كان على ما يرام؟”
“كل شيء كان هادئًا، عدا عودتك المتأخرة عمّا أُبلغنا به.”
“آه يا إلهي، هل أقلقتُ السيدة العجوز مجددًا؟”
رغم أن الأجساد أمامها لم تكن واضحة، إلا أن ضحكة الدوق الناعمة سُمعت بوضوح. صوته بدا هادئًا بشكل لم تتخيله، وجعلها تتساءل إن كان هو نفسه الرجل البارد الذي رأته في المعسكر.
“ليس من اللطيف أن تسخر من عجوز. من الطبيعي أن أقلق على الشاب الذي لا يظهر إلا نادرًا.”
“أكثر شيء لا فائدة منه في العالم هو القلق على الآخرين. إن انقطع الاتصال بي، فافترضي أنني متّ في مكانٍ ما، وانتهي الأمر.”
من خلف هذا الحوار غير الرسمي، سُمعت تنهيدة طويلة.
“ها أنتَ تقول أشياء لا تعنيها مجددًا. لقد أمرت بتجهيز الماء للاستحمام، فادخل وارتَح.”
“آه، كدت أنسى. هاريت.”
“نعم، يا صاحب السمو.”
كان المُجيب هو المساعد الذي تحدّث مع فلورا داخل العربة.
وبفضل الفرسان الذين انقسموا إلى جانبين، استطاعت فلورا رؤية وجه الدوق لأول مرة منذ قرابة الأسبوع.
“اعتنِ بها.”
قالها ببرود دون أن ينظر إليها، ثم سار بهدوء وصعد الدرج بخفة.
وبقيت فلورا واقفة دون أن تتفوه بكلمة، تحدّق في السيدة المسنّة التي بدأت تنظر إليها بنظرة غريبة.
“أيتها كبيرة الخادمات. هذه امرأة أحضرها صاحب السمو، لذا اعتني بها، واغسليها.”
مسحت المرأة العجوز، التي بدت حازمة وواثقة، فلورا بنظراتها من رأسها حتى قدميها.
كانت سترتها الرمادية وسروالها الرجالي متّسخين بالغبار، وسيف طويل مربوط عند خصرها.
من مظهرها، لم تكن ضيفة، وقد قرأت المرأة ذلك بوضوح بعينيها الحادتين، ثم سحبت نظراتها.
“حاضر.”
استجابت المرأة المعروفة برئيسة الخدم بأدب، ولوّحت بيدها. فتقدّمت الخادمات للإمساك بمعصم فلورا النحيل.
حاولن سحبها هكذا، لكن محاولتهن باءت بالفشل. ثبتت فلورا قدميها في الأرض ولم تتحرك شبرًا واحدًا.
ثم هزّت معصمها بخفة، فسقطت الخادمات أرضًا وصرخن.
وبينما انعقد حاجب المرأة العجوز، كان هاريت أسرع في الكلام:
“إن كنتِ تنوين إثارة المتاعب، فارحلي فورًا.”
“هنّ من لمسن جسدي دون إذن.”
قالتها فلورا بهدوء تام دون أن يطرف لها جفن، فتجمّد هاريت للحظة قبل أن يرد.
رغم أنها لم تكن مخطئة، إلا أن ردّها أزعجه بشدة، وبدأ يفرغ غضبه بكلمات جارحة:
“يبدو أنك لا تدركين مكانكِ. هذا ليس مكانًا يمكن لأمثالكِ أن يدخلوه. نحن في قصر هاينست، أفهمتِ؟!”
قالها دون أن يُخفي اشمئزازه.
“كان يجب أن تشعري بالامتنان لسماح صاحب السمو لكِ بالبقاء، فهل جزاؤه أن تجلبي له العار؟”
لمَ أحضرها الدوق إلى هذا القصر من الأساس؟
لقد قلت له ألّا يأخذ الناس بتهور.
لم يفهم هاريت سبب تصرف سيده الذي ضحك فقط عند نصيحته، لذا صبّ غضبه على المرأة البريئة.
لكن مهما قال، بقيت المرأة بلا أي تعبير. ازداد غضبه من جمودها، فتابع:
“ألستِ خجلة من الوقوف أمام صاحب السمو بهذا المظهر البائس؟”
عند تلك الكلمات، نظرت فلورا أخيرًا إلى ملابسها.
كانت زيًّا عسكريًا عاديًا مُعطى للجنود، ورغم أنه قديم، لم تكن تظنه متّسخًا، لكن يبدو أنها الوحيدة التي رأت ذلك.
رآها تحاول تقييم مدى اتساخه، فظن أنها بدأت تستوعب، فقهقه ساخرًا:
“الآن فهمتِ؟ إن كنتِ ستبقين هنا، ارمِ كل عاداتك السابقة.”
“لا أحتاج إلى مساعدة أحد. لستُ طفلة صغيرة. أستطيع أن أغتسل وحدي.”
“ربما هذا صحيح، لكن… آه، واحدة منكن فقط، رافقنها وساعدنها.”
لوّح هاريت بيده مستسلمًا للنقاش، بعد أن أرهقته ردودها المتماسكة.
ومن بين الخادمات المترددات بعد الحادثة السابقة، تقدّمت خادمة بشعر بني مرفوع إلى الخلف.
ترددت فلورا للحظة، لكنها هذه المرة لم تُبدِ أي مقاومة، وتبعت الخادمة بهدوء.
وبينما كانت فلورا تختفي في الممر، اقتربت السيدة ميلادي وسألت:
“هل لي أن أعرف من أين جاءت هذه المرأة؟”
“…فقط اعتبريها امرأة لا تملك مكانًا تذهب إليه.”
كاد هاريت يذكر خلفيتها فورًا، لكنه تذكر في اللحظة الأخيرة أمر الدوق بالحفاظ على سرية هويتها، فصمت.
رغم ذلك، فقد شعرت السيدة ميلادي أن هناك أمرًا مريبًا في الأمر.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"