فلورا هي الأخرى شعرت ببعض الارتباك من الأمر المفاجئ.
عندها فقط استطاعت أن تفهم لماذا استدعاها الدوق. كان يريد أن يختبر بنفسه إن كانت هي فعلاً قد تصدّت للقتلة وحدها أم لا.
لم يكن الأمر مستحيلاً عليها، غير أن مرارته في حلقها لم تستطع دفعها.
هاريت، المذهول من الموقف الغريب، أخذ يتململ في مكانه بقلق.
أما هاتسن فكان أقوى فارس في المجلس بعد الدوق نفسه. ومن حيث البنية الجسدية، فالمسافة بينه وبين فلورا كانت شاسعة.
ومهما كانت فلورا قد تمرّست في ساحات القتال، فما تملكه في النهاية ليس سوى جسدٍ نحيلٍ هشّ. فكيف لها أن تصمد أمام فارس تلقى تدريباً نظامياً؟
هاريت الذي نسي تماماً ما جرى قبل أيام، عاد مرة أخرى ليتوسل الدوق بصدق أن يتراجع:
“أترى يا مولاي؟ الجميع يظنون أنكم فقدتم صوابكم!”
فأجابه الدوق بكل برود:
“بصراحة، أنت نفسك لا تصدّق، أليس كذلك؟ وأنا كذلك.”
ضابطه المساعد فرك مؤخرة رأسه بغيظٍ وضيق، لكن كل ذلك لم يغيّر من رغبة كلود. لقد أراد أن يرى قوة فلورا بعينيه.
“مولاي… أحقاً أنتم جادون في ما تقولون؟”
حتى هاتسن نفسه لم يصدق، فأعاد السؤال. لكن الجواب لم يكن سوى أمرٍ صريحٍ بمبارزة تجريبية:
“من يصمد ثلاث ضربات أولاً يكون هو المنتصر.”
الغيظ ارتسم على ملامح الفارس حين وجد نفسه مضطراً لمواجهة امرأة بالسيف. ظنّ أن سيده يكنّ له حقداً ما.
ومع أن الأمر لا يعجبه، إلا أنه لم يكن ليستطيع أن يعارض أمر الدوق. وفوق ذلك، كان قد ارتكب خطأً كبيراً قبل أيام حين فشل في استشعار أي أثر للمتسللين، فما كان له عذر.
فأخذ سيفه ووقف قبالة فلورا التي ما زالت ساكنة في مكانها.
وعندما رآها تبحث بعينيها عن سيفٍ خشبي، زفر أنفاسه المحبوسة بشيء من السخرية.
فقال لها بتفضّلٍ:
“إن كنتِ تخشين السيف الحقيقي، فاستعملي الخشبي.”
فأجابته ببرود:
“وهل يُسمح لي باستخدام السيف الحقيقي؟”
فالتفتت إلى الدوق تسأله، لكن كلود هزّ رأسه بحزم:
“لا. استخدمي الخشبي.”
وما إن همّ هاتسن بالتوجّه لاختيار سيفٍ خشبي، حتى جاءه أمرٌ جديد:
“هاتسن، أنت ستستعمل السيف الحقيقي.”
شهقت الأنفاس هنا وهناك، وترددت الهمهمات في الأجواء.
ظنّ الفرسان أن سيدهم قد جنّ حقاً من قلة النوم.
حتى هاتسن نفسه لم يصدّق، فأعاد السؤال متلعثماً:
“مولاي، أحقاً أنتم تعنون ما تقولون؟”
غير أن نظرات الدوق القاسية أخرسته.
إذ لم يتراجع عن أمره. بل إن هاتسن بدأ يشكّ أن تلك المرأة ارتكبت خطأً عظيماً يستوجب هذا كله.
وفي النهاية، عادت فلورا تحمل سيفاً خشبياً عادياً ووقفت أمامه وقفة جادة. لم يكن على ملامحها أي استغراب من أوامر الدوق، بل اكتفت بوجهٍ متجهّم.
“ابدأ أنت أولاً.” قالت بهدوء.
لكنه ردّ باستهزاء:
“لا. لا أريد أن يُقال إني هاجمت امرأة ضعيفة أولاً. ابدئي أنت.”
هزّت رأسها موافقة دون أن تُبدي أي شكر.
ثم ثبتت قدمها اليمنى للأمام واليسرى للخلف في وضعية صحيحة إلى حدٍّ ما، لكن ذلك لم يُغيّر من رأيه فيها.
فقد بدت له جسداً صغيراً هشاً. أحسّ كأنه دبّ ضخم يقف أمام أرنبة صغيرة. فتنهّد قائلاً في نفسه:
“مهما يكن… إنها في النهاية امرأة.”
وبينما كانت خصلات شعرها الفضي تتمايل مع الريح، قالت بصوتٍ ثابت:
“إذن، سأبدأ الآن.”
ولم يكد يُدرك ما في نبرتها من قوة، حتى انقضّت عصاها الخشبية الطويلة فجأةً نحو وجهه.
“آه!”
صرخ هاتسن وهو يصدّ الضربة المباغتة بسيفه الحقيقي في اللحظة الأخيرة، لاهثاً من شدّة المفاجأة.
لقد تهاون.
ولولا سنوات التدريب الطويلة لكان فكه قد تحطّم لتوّه.
لكن… هل تهاون فعلاً؟
حتى لو لم يتهاون، بدأ يُدرك أنه لن يستطيع هزيمتها.
راح يتصبّب عرقاً بارداً بينما يتراجع خطوة بعد خطوة، مُحاولاً صدّ ضرباتها التي كانت تستهدف فراغاته بدقة مذهلة.
سرعتها كانت تفوق الوصف. وفي غمضة عين وجد نفسه وقد تراجع خمسة أقدام للوراء.
لم يصدّق ما يحدث. هو، نائب قائد فرسان هاينست، يتراجع عاجزاً أمام امرأة صغيرة لا تحمل سوى سيفٍ خشبي.
“كيف… كيف يمكن أن يكون هذا؟”
منذ أن بدأ الاثنان بالمواجهة، بقي هاريت فاغراً فاه لا يستطيع إغلاقه، يتمتم بملامح بلهاء.
لكنها، بوجهٍ هادئٍ تماماً، أزاحت كل قلقه جانباً. فمشهد فارس مشهور يعجز أمام امرأة صغيرة أدهش الفرسان المتفرجين أيضاً.
وكلما ازداد وضوح مهارة فلورا، ازداد وجه كلود برودة وقسوة.
لم يتوقع أن هاتسن لن يصمد حتى جولة واحدة، فما بالك بثلاث جولات. فزفر كلود بانزعاج وهو يضغط بلسانه على أسنانه.
“هاه… هاه…”
وسط ذهولٍ عمّ المكان وكأن الأنفاس قد انحبست في الصدور، كان هاتسن يلهث بشدة، بالكاد قادر على الدفاع. بينما كانت هي، لم يختل نَفَسها ولا ظهرت عليها أي علامة تعب.
ومهما يكن، لم يكن ليقبل أن يُهزم دون أن يشنّ ولو هجوماً واحداً. فعندما رأى سيفها الخشبي يندفع نحو بطنه، أرجع ثقله إلى الخلف وأدار خصره بخفة، محاولاً الانقضاض على جانبها حيث توقع وجود ثغرة.
لكن في اللحظة نفسها، انخفضت بجسدها فجأةً وضربت معصمه باليد الأخرى.
فطار سيف هاتسن من يده واستقر على طرف ساحة التدريب.
حركتها الخفيفة التي صدّت بها محاولته الأخيرة جعلت جسده يتجمّد في مكانه.
ثم، بوجهٍ مدهوشٍ وذهنٍ مشوش، هوى على ركبتيه قائلاً:
“لقد خسرت.”
غمر السكون ساحة التدريب كما لو أُريق عليها ماء بارد فجأة.
وراء الفرسان المذهولين، كان الدوق يحدّق بها بملامح لا تُقرأ.
لم تكن هناك حاجة لانتظار ثلاث جولات، فالمبارزة انتهت.
وانتشر في القصر في اليوم التالي مباشرة أن فلورا هي ثاني أقوى شخص بعد الدوق نفسه.
كان الخنجر الذي أُخذ منها حين وصلت إلى هذا المكان. ومع ذلك، بدا أنه اعتُني به جيداً حتى صار يلمع أكثر مما كان.
أخذته فلورا إلى صدرها كما لو كان شيئاً ثميناً للغاية. وكانت يدها البيضاء التي قبضت على المقبض ترتجف برفق.
بالنسبة لسيف صغير، كان ردّ فعلها مبالغاً فيه. صحيح أن على نصل الخنجر زخرفة دقيقة على شكل أغصان وردٍ متشابكة، وكان قطعة ثمينة بلا شك، لكنه في النهاية ليس سوى سلاح.
غير مبالٍ لذلك، مضى الدوق إلى ما يريده فعلاً:
“من الآن فصاعداً، ستكونين مسؤولة عن حراستي ليلاً.”
“ليلاً… تقصد ليلك يا سيدي؟”
سألت فلورا بعينين حائرتين. قبل دقائق فقط، كانت تلاعب فارساً شهيراً بسهولة، لكنها الآن تبدو ببراءة كطفلة.
“أريدك أن تبقي بجانبي عندما أنام. ولهذا أعيد لك خنجرك.”
طرفت بعينيها مرتين ثم سألت بدهشة:
“طوال الليل؟”
فقال ببرود:
“إن غلبك النعاس، نامي بقربي. لديك من الحِسّ ما يكفي لتستيقظي عند الخطر، كما حدث في المرة السابقة مع القتلة. فلا مشكلة.”
بعد أن تأكد بعينيه أن مهارتها ليست عادية، بل خارقة للعادة، فكّر كلود بهذا الحل.
كان متيقناً أن هناك عميلاً متخفياً في القصر. لكنه لم يستطع أن يسهر الليل كل ليلة بلا نوم. لذا قرر أن يضع أكثر شخص يمكن الوثوق به إلى جانبه.
وفلورا أثبتت ذلك حين حمت حياته وهو غارق في النوم المخدَّر.
“إن اقترب أي مشبوه، فاقضي عليه فوراً، بلا انتظار أمري.”
كانت فلورا تلمع عيناها فرحاً وهي تستعيد خنجرها، لكنها ترددت قليلاً عند سماع أوامره.
“هذا… غريب.”
“ما الغريب؟”
“أنا لست سوى خادمة.”
ابتسم بازدراء وأجاب:
“لا فرق كبير. اعتبريها خدمة ليلية لسيدك.”
رغم وضوح ترددها، إلا أن الدوق كان يتوقع مثل هذا الاعتراض منها.
وعيناه بلونهما الأزرق الكوبالت الهادئ، اللتان ذكرتاه بطفولته البعيدة، أطبقت جفونهما للحظة ثم انفتحت من جديد.
“إنه أمر.”
قالها بصوتٍ متعالٍ يفيض بالسلطة.
“أنتِ لا خيار لك سوى الطاعة.”
وكأن جوابها لا يعني له شيئاً على الإطلاق.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 24"