عضّت السيدة ميلادي شفتيها بشدة، وهي تتذكّر الصبي الصغير الذي كان يبكي ويتوسّل ألا تذهب، وهو يرتجف.
ماذا فعلت حينها؟ لقد انتزعت يديه بالقوة من على ياقة ثوبها، رغم أنه لم يكن يتجاوز الخامسة من عمره، ثم دفعته داخل خزانة الملابس.
السبب في أن هذا المشهد، الذي مضى عليه أكثر من عشرين عامًا، بات واضحًا في ذهنها الآن، هو التناقض الصارخ بين ذلك الطفل العاجز، والسيد الناضج الذي يقف أمامها الآن.
فقط حينها أدركت سبب سلوك الدوق المتطرف اليوم. وكلما طال صمته، ازدادت توتّرها.
“أنا فقط أمرت بحبسها في غرفة، لم أكن أعلم أنها حُبست داخل خزانة.”
ساعيةً للنجاة، كذبت السيدة ميلادي دون أن يظهر أي تغيير على ملامح وجهها.
“رئيسة الخدم أمرت بالحبس ولم تكن تعلم؟”
“نعم. لقد أوضحت بجلاء أن تُحبس فقط في غرفة ويُقدَّم لها الطعام في أوقات محددة. لا أعلم حقًا كيف تطورت الأمور إلى هذا الحد…”
تبادلت نظرة قصيرة مع سيلين المرتجفة، ثم أعادت تثبيت ملامحها الوقحة بثبات.
“أنا لا أعلم.”
لوى كلود شفتيه بعد أن نظر بسرعة إلى بعض الخادمات اللواتي كانت نظراتهن مليئة بالغضب والامتعاض من خلفها.
لقد فهم الوضع بالفعل بكل تفاصيله.
فلم تكن رئيسة الخدم تجهل الإشاعات التي تُقال عن فلورا، بل كانت تسمعها يوميًا، وكانت على علم بكيفية معاملة الخادمات السيئة لها.
حتى الأحمق كان سيفهم الوضع لو نظر إليه بعين منصفة.
لقد كان جميع الخدم ينّبذون ويؤذون فلورا، بموافقة ضمنية من رئيسة الخدم.
لقد رأى الكثير من الوجوه ذات الوجهين في حياته، لكنه لم يعتقد أبدًا أن هذا التفشي شائع حتى داخل منزله.
“دعيني أسألك شيئًا، رئيسة الخدم. هل كنتِ على علم بالإشاعات التي تنتشر عن فلورا؟”
“هذا… في الواقع…”
“أليست هذه مسؤوليتك أيضًا إذًا؟”
“عفوا؟”
“لماذا تتفاجئين؟ أليس من واجبك الإشراف على الخادمات؟ بما أنك فشلتِ في ضبط العاملين تحت إشرافك، فعليك تحمّل المسؤولية المناسبة.”
رغم أن كلماته بدت متزنة في البداية، فإن مضمونها كان لاذعًا بحدة.
شحب وجه السيدة ميلادي، التي اعتادت الظهور بأناقة، بشكل واضح.
“لكن… سيدي…”
“لا تحاولي تبرير نفسك بالقول إنك لم تتوقعي أن تُلامي.”
الدوق، بابتسامة باردة، أنهى الأمر كما لو أنه لم يكن بحاجة لسماع المزيد.
لقد كان غاضبًا من أعماق قلبه.
فأن يتجرأ هؤلاء التابعون على ممارسة السلطة مستغلين غياب سيدهم، ويتحكموا بخادمات أخريات عبر علاقات غير رسمية، كان أمرًا لا يُغتفر.
أما وجه السيدة ميلادي الوقح، الذي لم يُظهر أي اعتراف بالحقيقة رغم علمها، فقد أثار الغضب داخله.
“مؤسف حقًا. ليس لدي خيار سوى طردك، رغم أنكِ كنتِ معي منذ الطفولة.”
لكن وجهه، وهو يقول ذلك، لم يُظهر أي أسف. ومع تغير تعابير السيدة ميلادي، ازدادت سخرية الدوق عمقًا.
“آه، كدت أنسى. لا تتوقعي رسالة توصية من عائلة هاينست الدوقية. لا أستطيع تحمّل رؤيتك في مكان آخر.”
بهذه الكلمات التي اختلطت بالسخرية، نهض كلود من مقعده. وبالمثل، صدرت الأوامر لمعاقبة وطرد باقي الخدم الذين استُدعوا.
نظر كلود إلى أولئك الذين شحب لونهم وكأنهم لا يعنونه، وتمتم بابتسامة يبدو أنها لطيفة:
“كنت أتساءل لماذا شعرت بأن هذا البيت، الذي عدت إليه بعد ثماني سنوات، كان غير مرحب بي. الآن فهمت. لقد كان مليئًا بالوجوه المقززة.”
سيدهم الكريم لم يكن يطلق كلمات فارغة.
حتى عندما توسّلت إليه رئيسة الخدم، التي كرّست حياتها لهذه العائلة، متخلّية عن كبريائها، لم يتراجع الدوق عن قراره.
علاوة على ذلك، تم جلد الخدم الذين طُردوا طوال الليل، ولم تكن الخادمات في وضع أفضل. وبعد العقاب على جريمتهم بإهانة النبلاء، طُردوا دون أي ممتلكات.
فلورا، وقد فتحت عينيها بذهول، أخذت كوب الماء من ماري ذات الحاجبين المنخفضين، وبللت شفتيها. ومع مرور الماء البارد والمنعش في حلقها، شعرت بأن ذهنها بدأ بالصفاء قليلًا.
“أنتِ ما زلتِ ضعيفة، لذا استلقي مجددًا. قال الطبيب إنك بحاجة للراحة.”
“أنا… بخير الآن. لكن أين أنا؟”
فلورا، وقد أدركت أخيرًا أنها فقدت وعيها رغم صمودها للنهاية، نظرت حول الغرفة التي كانت ترقد فيها.
“الحمد لله. لقد جاء السيد في الوقت المناسب وأنقذك.”
“السيد؟”
“نعم. عندما علم السيد بأن رئيسة الخدم وسيلين تعمّدوا عدم إعطائك الطعام وحبسك، غضب بشدة.”
لم تكن تتذكر بوضوح، لكنها شعرت وكأن أحدهم قد احتضنها في الحلم، لا بد أنه كان السيد. أخذت فلورا رشفة أخرى من الماء.
“لكن لماذا أنتِ هنا يا ماري…؟”
كانت على وشك أن تسأل، لكنها لاحظت عيني ماري الحمراوين والمتورمتين، فتوقفت.
وكأنها فهمت السؤال غير المطروح، ألقت ماري بنفسها في حضن فلورا فجأة.
“أنا آسفة. آسفة جدًا، فلورا. قلت إننا يجب أن نساعد بعضنا، لكنني لم أستطع فعل شيء.”
بدأت ماري تبكي بحرقة، والدموع تغمر ثوب فلورا الخفيف. جمدت فلورا في مكانها، لا تدري كيف تتصرف، ثم رفعت يدها ببطء وربتت على ظهر ماري.
كانت الحركة غير مألوفة، لكنها شعرت أنه من واجبها المواساة.
وبعد وقت من البكاء، هدأت ماري قليلًا وابتعدت ببطء. ثم، وكأنها شعرت بالإحراج من بكائها أمام مريضة، ابتسمت ابتسامة محرجة.
“آسفة… لقد تصرفت تصرفًا غير لائق أمام مريضة.”
“هل أنتِ بخير الآن؟”
“كان من المفترض أن أسألكِ هذا. على أي حال، تم طردهم جميعًا، لذا لن يزعجكِ أحد بعد الآن يا فلورا.”
“طُردوا؟”
فلورا، التي مالت رأسها بدهشة، استمعت إلى ماري وهي تروي لها ما حدث في القصر أثناء مرضها.
“لقد عملت في هذا القصر لأكثر من عامين، ولم أرَ السيد غاضبًا بهذا الشكل المرعب من قبل.”
فقط رمشت فلورا بعينيها الكبيرتين. أمسكت ماري بيديها وأكملت كلامها وهي لا تزال ترتجف من شدة الموقف.
“في الحقيقة، كان قرار حبسك من السيدة ميلادي وحدها. وقد منعتني هؤلاء الخادمات من إعطائكِ الطعام.”
“…لكن ألم يكن ذلك بأمر السيد؟”
“لا، لقد كذبت رئيسة الخدم. كانت تفعل هذا دائمًا. كلما جاءت خادمة جديدة، كانت سيلين تضربها بحجة التربية، ورئيسة الخدم كانت تعلم كل شيء وتتجاهل. وهذه المرة، اكتشف السيد الحقيقة أخيرًا.”
كانت فلورا قد توقعت ذلك. استنادًا إلى ما حدث في المستودع، أدركت أن مثل هذه الأفعال لم تكن جديدة.
لكن بدا لها أن رد فعل الدوق كان مبالغًا فيه إلى حد ما، حتى أنه طرد السيدة ميلادي التي خدمته لسنوات.
وربما لاحظت ماري حيرتها، فتنهّدت وقالت:
“السيد كريم جدًا معنا. يمنحنا الهدايا في بداية العام، ويعطينا أجورًا جيدة مقارنة بالعمل. لكن…”
نظرت ماري إلى الخلف، كأنها تتذكّر شيئًا، ثم تابعت:
“لكنه ليس طيبًا لدرجة أن يتغاضى عن من يستغلون تلك الطيبة. الجميع يقول ذلك. في تلك اللحظات… يظهر وجه الدوق السابق.”
كلما سمعت فلورا كلام ماري، ازداد حيرتها.
من كل ما رأته حتى الآن، بدا لها أن شخصية الدوق متغطرسة كغيره من النبلاء.
أم أنها كانت مخطئة؟
حين تذكّرت أول لقاء لها معه، تساءلت للحظة إن كانت قد حكمت عليه بشكل خاطئ.
فلو كان كغيره من النبلاء، لما ساعدها أبدًا.
لكنها لم تكن تعرف.
وإذ شعرت بالإحباط من كثرة الأفكار، هزّت رأسها محاولة التخلص منها.
“ارتاحي أكثر.”
“أنا بخير الآن.”
“قال كبير الخدم إنكِ معفاة من العمل مؤقتًا. فاستغلي الفرصة للراحة.”
“أنا حقًا بخير…”
لكن ماري، التي جذبت الغطاء حتى رقبة فلورا وغطّتها بعناية، أصرّت.
بدت فلورا كطفل صغير، وهي تنظر إلى ماري التي تحدثت بنبرة صارمة كما لو كانت معلمة.
“طالما أنكِ خادمة تنتمي لهذا البيت، فعليكِ أن تعتني بجسدك جيدًا.”
“…”
“إجبار نفسكِ على العمل وأنتِ مريضة هو عبء على السيد أيضًا.”
في النهاية، لم تستطع فلورا قول شيء آخر، واضطرت إلى الاستلقاء بهدوء. وبعد ذلك، شربت سائلاً مرًا قالوا إنه دواء يقوي الطاقة، وتلقّت علاجًا فعليًا كمريضة.
✦✦✦
بعد تناول الدواء الذي أحضرته ماري، غرقت فلورا في نوم عميق.
وحين فتحت عينيها بثقل، رأت السماء مظلمة من خلف النافذة. يبدو أنها نامت واستيقظت عدة مرات، وقد مرّ وقت طويل.
تأوّهت فلورا وهي تحاول رفع جسدها، لكن رأسها كان يدور، ربما بسبب تأثير الدواء.
وضعت يدها على جبهتها، محاولةً التغلب على الصداع، وفجأة سمعت صوتًا عميقًا:
“ظننت أن لديك إرادة قوية للحياة، لكن يبدو أنني كنت مخطئًا؟”
“…سيدي؟”
عندها فقط انتبهت فلورا إلى أن الدوق كان جالسًا على حافة النافذة يحدق بها، وتمتمت بدهشة. لطالما كانت تستيقظ وحدها، لكن هذه المرة كان هناك من يراقبها.
سحب الدوق كرسيًا وجلس بجانب السرير. بدا غاضبًا قليلًا دون سبب واضح، وهو ما حيّرها.
“لقد قمتِ بحماقة أخرى مجددًا.”
“…هل ارتكبتُ خطأ هذه المرة أيضًا؟”
“كنت أعلم أن لديكِ شخصية متهورة، لكن لم أتوقع أن تُظهري ذلك أمامي مجددًا.”
حين حاولت إزاحة الغطاء والنهوض، ضغط الدوق على كتفها بلطف وأعادها إلى السرير.
“المريض يجب أن يتوقف عن العناد ويستلقي.”
نظرت إليه فلورا بوجه يملؤه التساؤل عن سبب وجوده هنا. كان القلق الممزوج باللوم الغريب في ملامحه غير مألوف، ومربكًا.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 15"