كانت الشمس تشرق أبكر من ذي قبل، والحشرات الصغيرة تملأ الأرجاء بأصواتها الخافتة الرتيبة.
الربيع القصير مضى في طريقه، متبعًا ناموس الطبيعة، تاركًا خلفه فراغًا أخذ يمتلئ بهواء الصيف الذي كان يتكوّر ببطء كحلم غامض في الأفق.
كانت فيليا خلال تلك الأيام تعيد في ذهنها مرارًا وتكرارًا ما ظنّت أنه “اكتشاف جديد في الحب” — كل ما كان فيه من حزنٍ ووحشةٍ وفراغٍ غريب.
لكن كما يحدث مع الجميع، أخذ الزمن يبهت ملامح يوم المطر ذاك، وتلاشت مشاعرها القديمة رويدًا رويدًا، حتى غدت ذكرى رمادية ترقد في أعماق وجدانها الساكن.
ومع ذلك، كما يلتئم الجرح حين تنمو عليه بشرة جديدة، كان قلب فيليا هو الآخر يتعافى ببطء.
“أشتاق إلى دوق آرجين.”
لم يبقَ في قلبها سوى هذه العبارة وحدها، نقية ومباشرة.
غير أنها لم تفهم بعد لماذا كانت الجملة الأولى في رسالتها إليه عصيّة إلى هذا الحد.
نسيمٌ بارد قادم من مجرى النهر بعثر خصلات شعرها القصيرة.
كانت فيليا تستند إلى جذع شجرةٍ ضخمة، ولما أرادت أن تطرد أفكارها المعقدة رفعت رأسها بهدوء.
كان المشهد أمامها قد تبدّل في طرفة عين، فشعرت نحوه ببعض الغرابة، وإن كانت قد أدركت منذ زمن أن الربيع قد رحل، فإن مواجهة تبدّل الفصول وجهًا لوجه تمنح القلب دومًا دهشة جديدة.
لكنها لم تكن دهشةً مؤلمة.
ضوء الشمس المنعكس على سطح النهر، ظلّ الشجرة الوارف، دفء مطلع الصيف الذي يملأ الهواء — كل ذلك جعلها تشعر وكأن صفحةً جديدةً من حياتها تُفتح أمامها، كفصلٍ جديدٍ في روايةٍ كانت تنتظر قراءته.
وخفق قلبها بخفة، خليطًا من الشوق والارتباك.
كان من الغريب أن يوماً كهذا، بكل روعته، لا يلهمها كلمةً واحدةً رقيقةً تكتبها للدوق.
“أريد حقًا أن أكتب له اليوم.”
همست فيليا لنفسها، بينما تساقطت أشعة الضوء من بين أوراق الشجر على وجهها، فتلألأ كأنه منسوج من ذهبٍ رقيق.
أغلقت الكتاب الذي كانت تقرأه، وضمّته إلى صدرها برفق، ثم أغمضت عينيها.
شعرت بمرور النسيم يداعب وجنتيها، وكأن الخيط الحريري الذي عقده هيليوس أسفل عنقها يومًا ما عاد ليتراقص من جديد.
“هيليوس آرجين…”
تمتمت باسمه الذي ظلّ دافئًا في قلبها رغم كل شيء، فانتشرت نبرتها الناعمة في سكون الغابة كأنها لحنٌ خافت.
وكان في ذلك الاسم شيء يجعلها تبتسم من دون أن تدري — كأنه ملكٌ لها وحدها.
“مجرد أن أنطق اسمه يجعلني بهذا السعادة، ومع ذلك لا أستطيع كتابة حرفٍ واحد إليه… أليس هذا غريبًا؟”
تساءلت فيليا في نفسها، ثم خطر لها أن السبب ربما لم يكن العجز، بل الوفرة — أن لديها من المشاعر أكثر مما تحتمله الكلمات.
تذكّرت تلك اللحظات التي كانت تقف فيها أمام هيليوس عاجزةً عن النطق، مأخوذةً بصمته، ونظراته.
لكنها في النهاية فتحت عينيها دون أن تجد جوابًا شافيًا.
وفجأة، حين لم تكن تتوقع، رأت إيفان أركاس واقفًا أمامها، جاثيًا على ركبةٍ واحدةٍ في العشب.
“لقد بحثت عنك طويلاً.”
اتسعت عينا فيليا دهشةً.
ضحك إيفان قليلًا، ثم جلس بجانبها مسندًا ظهره إلى الجذع ذاته.
“فيما كنتِ شاردةً إلى هذا الحد حتى لم تسمعي أحدًا يقترب؟”
“كنت أفكر… بأنه لا يوجد يومٌ كامل الكمال. حتى في يومٍ كهذا لا بد أن يكون هناك ما يثير شيئًا من الضيق، أليس كذلك؟”
رفعت نظرها إلى السماء الزرقاء التي تتناثر فيها الغيوم البيضاء الخفيفة، بينما أجابها إيفان بعد لحظة قصيرة:
“إنه دوق آرجين، أليس كذلك؟”
“كيف عرفت؟”
“تخمين فقط. فثمانون في المئة من أفكارك تدور حوله على أي حال.”
اقتربت فيليا منه بخطوةٍ فضولية وسألته:
“وهل تعرف أيضًا لماذا؟”
رفع كتفيه بابتسامة خفيفة.
“لأنك لا تستطيعين كتابة الرسالة؟”
“ما هذا!”
انتفضت فيليا من مكانها فجأة، فسقط الكتاب من بين يديها على العشب.
“إيفان، هل صرت تملك قوى خارقة أم ماذا؟”
“كل شيءٍ فيكِ مكشوف. أنتِ في راحة يدي.”
ضحك وهو يمد يده مفتوحةً في وجهها بتحدٍ طفولي.
فانحنت فيليا أمامه وقد تلألأت عيناها بالدهشة واللعب:
“إذًا تعرف الحل أيضًا، أليس كذلك؟”
“لا أريد.”
“ماذا لا تريد؟”
“أن أخبرك.”
“سأعطيك كل مربى الخوخ الذي عندي، فقط قل لي.”
“لست بحاجة إليه.”
“حسنًا إذًا… سأضيف بودينغ التفاح، ولكن هذا آخر عرض!”
تشبثت فيليا بحافة سترته الصغيرة وهي تتوسل بصوتٍ طفولي، فرفع إصبعه ونقر جبهتها بخفة.
ثم التقط الكتاب الذي سقط في العشب، نفض عنه التراب، ونهض واقفًا.
“مهما فعلتِ، لن أخبرك.”
“ولِمَ؟”
“لأن هذا قراري.”
خفضت فيليا عينيها وأخذت تمثل دور البائسة، تنظر إلى الأرض وتعبث بأطراف العشب بأناملها.
لكن محاولتها لم تجدِ نفعًا، فقد كان إيفان قد ابتعد قليلًا وأشار إليها برأسه نحو الطريق.
“هيا، فيليا. لنعد معًا.”
“لن أذهب. اذهب أنت. لا فائدة من العودة، فحتى الآن لم أجد حلًا للرسالة، ولن يساعدني أحد.”
“فلتؤجلي هذا التفكير إلى المساء، أليس أفضل؟ عمّك وعمّتك ينتظرانك في البيت، ويبدوان جديَّين هذه المرة، فهما يريدان الحديث معك.”
ما الحل الذي يعرفه إيفان ولا تعرفه هي؟
كان الأمر يثير غيظها.
“فيليا.”
ناداها مجددًا، فتنهدت بعمقٍ حتى كادت الأرض تتنفس معها، ثم استسلمت، ووقفت ببطء.
راح إيفان يتأملها وهي تمشي بخطواتٍ متثاقلة، ثم لاحظ أن فستانها العاجي المصنوع من قماش البوبلين قد تلطخ بالطين.
لم يستطع إلا أن يكتم ضحكته، إذ بدا المشهد كله — بجدّيته الزائدة — طريفًا على نحوٍ لا يُقاوم.
كبح إيفان ضحكته بصعوبة، وحين رأى فيليا محدِّقة به بعينين ضيّقتين كالسهم، قال بصوتٍ مرتجف من كتمان البهجة:
“لا، كخ… فيليا، فستانك!”
خفضت فيليا نظرها نحو ثوبها، نَفَّضت الغبار والطين الملتصق به، ثم رمقته بتحذيرٍ حاد.
“توقّف عن الضحك فورًا!”
لكن الضحك — كما هو شأنه دائمًا — كلما حاول المرء كتمه اشتدّ عليه أكثر.
ولم يلبث إيفان أن انفجر ضاحكًا بصوتٍ عالٍ، حتى بدت ضحكته تتردّد في أنحاء الغابة.
رمقته فيليا بنظرةٍ غاضبةٍ وهي تضمّ شفتيها بإحكام، فما كان منه إلا أن دار مبتعدًا عنها هربًا من انتقامها الآتي.
ركضت خلفه بخطواتٍ سريعة، إلا أن شفتيها ارتسمت عليهما ابتسامةٌ واسعة، كأن الضحك كان مُعديًا لا فكاك منه.
وفي ذلك الممر الغابيّ الذي اشتدّت فيه رائحة الصيف، كانت الريح تعبث بأوراق الشجر، تتمازج مع ضحكاتٍ صافرةٍ تشي بطفولةٍ لم تنطفئ بعد — ضحكتين تردّد صداهما الغابة كأغنيةٍ صافيةٍ لا يُملّ سماعها.
***
“تحدّث يا عزيزي.”
وضعت ديانا فنجان الشاي برفق على الطاولة، ونبرتها الهادئة تخفي استعجالًا لطيفًا.
أومأ الكونت وولتر ديفير بخفة إلى الخادمة الواقفة في الركن، فأحضرت شيئًا ووضعته أمام فيليا — قارورةً صغيرةً من نبيذ ثمر الألدر، ورسالةً مختومة لا تعرف مصدرها.
“ما هذا؟”
سألت فيليا وهي ترتشف رشفةً من الكاكاو، عيناها تتنقلان بين الزجاجة والمظروف بفضولٍ حذر.
“إنه مرسل من وينستل إليك.”
أجابت ديانا بدلًا من الكونت الذي ظلّ متحفظًا على قوله.
وفور سماعها كلمة وينستل، وضعت فيليا الكوب بسرعةٍ حتى اصطدم بالصحن بصوتٍ مرتفعٍ جعل الهواء يضطرب.
“ماذا؟ من وينستل؟ أحقًا؟”
“نعم.”
ابتسمت ديانا ابتسامةً دافئةً، وأومأت إليها برفق.
“افتحيه، عزيزتي.”
تطلعت فيليا إلى عيني ديانا البنفسجيتين لحظةً، ثم حوّلت بصرها إلى المظروف بارتباكٍ خفيف.
وعلى سطح الورقة البيضاء كانت الكلمات تُنقش بخطٍّ مألوفٍ يرتجف له القلب:
«هيليوس آرجين»
الاسم ذاته الذي طاف بخاطرها مرارًا هذا اليوم وحده.
رمشت، ثم قرأت الأحرف مرةً أخرى لتتأكد أنها لم تتوهم.
نعم، لا شك — إنه هيليوس آرجين نفسه.
لكن… كيف يكون هذا ممكنًا؟
نظرت فيليا من جديد إلى الزجاجة ثم إلى الرسالة، وقد اختلط في داخلها الترقّب بالدهشة.
هل أُرسلت إليها خطأ؟ أم هناك تفسير آخر؟
وفي تلك اللحظة، تحدث الكونت ديفير، الذي كان يحدّق بالمظروف بعينٍ متحفّظةٍ كعادته:
“نبيذ الألدر هذا أرسلته السيدة آرجين بنفسها، أما الرسالة… فلا أدري، لم يُذكر عنها شيء.”
ما إن أنهى كلامه حتى نهضت فيليا فجأةً من مقعدها، ومدّت يدها إلى الطاولة فقبضت على الرسالة بقوة.
“أعتذر، عليّ أن أصعد إلى غرفتي أولًا!”
“فيليا!”
نادتها ديانا، لكن الفتاة كانت قد هرعت نحو الدرج، تتردد خطواتها السريعة في البيت كنبضٍ متسارع.
دخلت غرفتها، وأسندت ظهرها إلى الباب المغلق دون أن تجلس.
بين يديها المظروف الذي لم يعد قلبها يقوى على حمله بثبات.
هل خطه يشبه جماله؟ هل بدأ رسالته بتحيةٍ مهذّبة كما يفعل دائمًا؟
أم تراه كتب شيئًا خاصًا… شيئًا لي؟
امتلأ رأسها بعشرات الأسئلة الممزوجة بالأمل، حتى لم يعد قلبها يميّز بين رجفة الشوق وتوجس الخيبة.
لكن حين فتحت المظروف وسحبت الورقة، تجمّدت يدها في الهواء.
كانت الورقة تحمل زخارف مذهّبة وكلماتٍ قليلةٍ منمّقة — دعوةً إلى حفلةٍ راقصة.
نعم، مجرد دعوة رسمية.
التحية الاعتيادية، التوقيع الرسمي لربّ الدار، لا أكثر.
فقط… ذلك.
“هيليوس آرجين.”
تردّد الاسم فوق الصفحة البيضاء، بينما أسدل ضوء الصباح خياله الرمادي على حروفه.
—
وصل القطار إلى محطة نهر فوموِل، وأخذ يبطئ سرعته شيئًا فشيئًا.
صوت احتكاك المعدن بالمعدن علا للحظةٍ، ثم خيّم الصمت بعد توقف العجلات تمامًا.
بدأ الركاب يجمعون أمتعتهم على عجل، والنزول واحدًا تلو الآخر، حتى غصّ الرصيف بالناس.
ومن عربة الدرجة الأولى نزلت امرأةٌ تستند إلى ذراع خادمتها.
كانت تمشي بخطواتٍ متثاقلةٍ، تتكئ على ساقٍ تؤلمها في كل خطوة.
كانت تلك روزالين ليبيرن.
انسكبت خصلات شعرها البلاتينية الطويلة تحت وهج شمس الظهيرة كخيوطٍ من ضوءٍ سائل.
أجابت بنبرةٍ مقتضبةٍ وهي تميل برأسها قليلًا، ثم مدّت يدها اليمنى نحو خادمتها.
ناولتها الخادمة عصاها الخشبية الأنيقة دون كلمة.
“وأين والدي؟”
“كان مشغولًا ببعض الأمور المتعلقة بالأعمال، وقال إنه سينتظرك في المنزل. كان متأسفًا لعدم قدرته على استقبالكم بنفسه.”
“فهمت. لنغادر إذًا.”
تحركت روزالين نحو السيارة المنتظرة بخطواتٍ بطيئة، وعرجها الواضح لم يفت أنظار المارة الذين رمقوها بفضولٍ صامت.
لكنها لم تُبدِ أي اهتمامٍ، فوجهها ظلّ ساكنًا كبحيرةٍ في ظهيرة صيفية.
عيناها الزرقاوان، الصافيتان كالماء، لم تلمع فيهما شرارة حياة، بل كانت برودتهما تحاكي صمت الجليد.
وحين فُتح باب السيارة أمامها، جلست في المقعد الخلفي بخفّةٍ معتادة، ثم أُغلق الباب خلفها وانقطعت عنها كل تلك النظرات المتطفلة.
انطلقت السيارة بسرعةٍ مبتعدةً عن محطة نهر فوموِل، متجهةً نحو شوارع ديفيانا المزدحمة.
كانت ظلال الأشجار الكثيفة تمرّ متكسّرةً فوق زجاج النافذة مع ضوء الشمس، كأنها تتراقص على وجهها.
روزالين لم ترفع رأسها عن المشهد الخارجي، كانت تنظر بصمتٍ عميقٍ إلى المدينة — برج إرنيل الشاهق، متجر إنديز الفخم، واجهات مشاغل الأزياء التي تتلألأ خلفها فساتين باهظة، ونبلاء يتفقدونها بعنايةٍ مترفة.
كانت تنظر إلى كل ذلك كما لو كانت تحفره في ذاكرتها، كمن يستعدّ لشيءٍ أكبر من مجرد عودة.
ومن تحت حافة قبعتها العريضة، انحنى طرف شفتيها الأحمر بخفةٍ غامضة، كابتسامةٍ لا يعرف أحد إلى من أو إلى ماذا كانت موجّهة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات