قفزت فيليا بخفة فوق بركةٍ ضحلة تشكّلت على الطريق، ومدّت يدها من نافذة العربة لتلمس قطرات المطر المتبقية في الهواء. كانت تبدو، في تلك اللحظة، كما كانت دائمًا — بهجةً ناعمة في هيئة إنسانة.
وحين توقفت الأمطار وغرّدت العصافير فوق الأغصان المبللة، رفعت رأسها مبتسمة وحيّتها كما لو كانت تعرفها منذ زمن. ملأت صدرها بهواءٍ رطبٍ منعشٍ، وضحكت بصوتٍ صافٍ يشبه خرير الماء.
كانت تلك هي فيليا ديفير التي يعرفها الجميع، بلا اختلافٍ ولا خداعٍ في الملامح أو النبرة.
لكنها، طوال الطريق حتى وصولها إلى بريتشِن، لم تذكر اسم هيليوس آرجين ولو مرة واحدة.
ومع حلول الغروب، عندما بدأت أضواء البيوت تتلألأ على ضفاف البلدة، ظلّ الصمت يلفّها كلما ذُكر ذلك الاسم في ذهنها.
تسللت نسمة ربيعية رخية من النافذة نصف المفتوحة.
كانت الريح قد مرتّ على شوارع البلدة التي غمرها المطر لتوّه، حاملةً معها رائحة الأرض المبللة والعشب الطري.
بعد العشاء، جلست فيليا وحدها قرب النافذة، تضمّ ركبتيها إلى صدرها على الكرسي الخشبي الصغير، وتنظر بصمت إلى السماء الزرقاء الغامقة وقد بدأت فيها النجوم الأولى بالظهور.
أطراف شجرة الكرز أمام البيت كانت قد فقدت معظم بتلاتها خلال يومٍ واحد فقط، ومع ذلك لم يتبدّد جمالها.
كانت تحب هذا الوقت من اليوم، حين يهدأ كل شيء وتغدو السماء مسرحًا لأفكارها.
في العادة، كانت تكتب في هذا الوقت رسائلها إلى وينستل — تختار أجمل الكلمات، وتعيد ترتيب الجمل حتى تستقر على صوتٍ يناسب قلبها، ثم تنهي يومها بذلك الطقس الصغير من الصفاء.
لكن هذه الليلة، لم يكن القلم في يدها.
على الطاولة أمامها استقرّت ورقة بيضاء لم يُكتب عليها سوى اسم المستلم.
رمقتها بطرف عينها، ثم دفنت وجهها بين ركبتيها.
لم تجد ما تكتبه.
أمطرَ وأنا في انتظاره…
جملة قصيرة، لكنها ثقيلة على القلب، لم تستطع أن تسطّرها.
لطالما اعتقدت فيليا أن حتى الأيام غير الكاملة يمكن أن تكون جميلة.
لكنها أدركت اليوم أن لذلك الاستثناء نصيبه.
حين قالت إنها قادرة على تفهّم الدوق آرجين، لم تكن تكذب.
حتى بعد أن انتظرته لساعاتٍ في شوارع ديربيانا، لم يغضب قلبها منه.
فالناس مشغولون دائمًا، وهي كانت تعرف أن وعدها ذاك أقرب إلى وعدٍ من طرفٍ واحد.
ثم إن الدوق لم يعطِ وعدًا صريحًا…
كان بإمكانها إذن أن تعذر، وأن تسامح.
لكن قلبها بقي غائمًا، كسماءٍ لم تنقشع عنها الغيوم بعد المطر.
غلالة من الكآبة خفيفة لكنها عنيدة، لا تزول بسهولة.
تخيلت أن شعورها هذا يشبه نظرة بستانيٍّ يرى أثر عجلات عربةٍ شوهت تربة حديقته التي سقاها بعناية.
تساءلت: هل سيأتي يوم أتذكر فيه هذا اليوم بشعورٍ مختلف؟
تخيلت نفسها تمشي إلى جانب الدوق فوق تلال الشجيرات، يتحدثان ويضحكان على ما مضى.
لكن الصورة لم تكتمل.
استطاعت أن ترسم التلّ والعشب والهواء المبلل، لكنها لم تستطع أن تضع هيليوس إلى جوارها.
وحينئذٍ، عادت في خيالها إلى ظهيرة ذلك اليوم — إلى المطر، والوحدة، والبرك الصغيرة تحت قدميها.
عادت إلى لحظة عودتها إلى بريتشِن، وهي تفتح نافذة العربة على مصراعيها لتتنفس هواءً منعشًا، ومع ذلك، لم يتغير شيء في داخلها.
لم تجد عزاءً سوى في فكرةٍ واحدة:
أن هذا اليوم لن يبقى إلى الأبد على لونه هذا، ولا على رائحته هذه.
***
“هل ما زلتِ تحبين الدوق آرجين بعد كل هذا؟”
تذكرت فيليا سؤال إيفان الذي ألقاه عرضًا قبل العشاء، وهو يهمّ بالخروج من الغرفة.
كلماتُه تلك ترددت في ذهنها فرفعت رأسها نحو السماء.
كلمة حب، رغم رنينها الجميل، تحمل من الغموض ما يجعلها مبتذلة أحيانًا، لكنها تبقى الكلمة الوحيدة التي يملكها الناس حين لا يجدون غيرها للتعبير عن امتلاء القلب.
وهكذا كانت فيليا.
“نعم. أنا أحبه.”
كانت تعي ما تقول، وتعرف في الوقت نفسه كم يجعلها ذلك الحب مضطربة.
كلما فكّرت فيه، اختلطت في داخلها النشوة بالدوار.
كان الحب بالنسبة إليها ما يزال كما عرفته أول مرة: دافئًا، يانعًا، يشبه نسيم الربيع حين يلامس بشرتها.
لكن اليوم… رأت وجهًا آخر للحب — وجهًا مغطى بالحزن والفراغ.
هزّت الريح أغصان الكرز، فتساقطت بعض الأوراق، وطار المنديل الذي كان يغطي نصف الورقة البيضاء، وهبط بهدوء على الأرض.
انتفضت فيليا، التقطته بسرعة، نفضت عنه الغبار برقة، ثم طوته بعناية وأعادته إلى مكانه على الطاولة، كأنه شيء مقدس.
قالت وهي تنظر إلى الورقة الفارغة:
“سأؤجل كتابة الرسالة إلى وقتٍ آخر.”
ثم قررت بصمتٍ واضح: لن تمسك القلم من جديد إلا حين تستطيع أن تبدأ الرسالة لا باسم المرسل، بل بجملةٍ دافئة صادقة، مليئة بالحنين.
عادت إلى النافذة. لم تجلس هذه المرة، بل اتكأت بمرفقها على الحافة، وراحت تنصت لصوت الأوراق وهي تحتك ببعضها في مهبّ الريح.
كان الربيع القصير قد أوشك على الرحيل.
السماء صافية لكنها قاتمة، والزهور الراحلة تركت مكانها لأوراقٍ خضراء نضرة، والعشب في الحقول نما طويلًا حتى كاد يلامس الغروب.
***
حين قدّم له كبير الخدم الرسالة في اليوم التالي، تلقّاها هيليوس دون أن يرفع حاجبه — كان أمرًا عاديًا بالنسبة له.
لكن حين نظر إلى اسم المرسل، أدرك أنها ليست رسالة فيليا ديفير.
أنزل الرسالة جانبًا على الطاولة، ونقل بصره إلى الصحيفة التي كان يقرأها.
“يمكنك أن تنصرف.”
انحنى كبير الخدم احترامًا وغادر الغرفة.
تقلبت صفحة الجريدة بخفة، كجناحٍ صغيرٍ في مهب الهواء.
تناول هيليوس كوب الماء الذي كان فيه بضع أوراق من النعناع، واحتسى رشفةً هادئة.
ثم أمال الكأس مرةً أخرى، فانزلقت على سطح البلور قطراتٌ صغيرة، وسقطت عند قدميه تمامًا كما فعلت تلك القطرات في ذلك اليوم الماطر.
في لحظةٍ واحدة، عاد إلى الذاكرة كل شيء: الأرض المبتلة، المارة المتزاحمون تحت المظلات، والقطرات المتساقطة بلا انقطاع من طرف المظلة إلى الأرض.
وفي وسط كل ذلك، وجه فيليا ديفير — الغائب عن المكان، لكنه الأوضح في الذكرى.
وضع الكأس ببطء، ونظر مطولًا إلى الرسالة القادمة من مكانٍ آخر غير بريتشِن.
ظلّ يحدّق فيها طويلًا، وكأنه يحاول أن يسمع منها ما لم يُكتب بعد.
ثم أدرك فجأة، دون تمهيدٍ أو دهشة، حقيقةً بسيطة:
إنه كان ينتظر منذ أيام رسالة فيليا ديفير.
الرسالة التي كانت دومًا تحمل شيئًا من الغرابة، لكنها في الوقت نفسه تفيض بالعذوبة والرومانسية — تلك التي كانت تترك في نفسه أثرًا خفيفًا يشبه موسيقى الصباح.
تسللت أشعة الشمس إلى الغرفة، تتراقص على أطراف الأثاث والستائر.
كانت الإضاءة مبالغًا في صفائها، مبهرة إلى حدٍّ لا يُطاق، مختلفة كليًّا عن الأيام التي انهمر فيها مطر الربيع.
ومن خلف النافذة، امتدّ الأفق صافياً لا سحابة فيه، كأن السماء نفسها قد غُسلت.
لم يعد هناك أي عذرٍ لتأخر البريد.
فالأرض لم تعد موحلةً تعيق عجلات عربات البريد، والجوّ كان مثاليًّا إلى حدٍّ يدحض كل مبررٍ سابق.
بل إن الرسالة التي وصلت اليوم ألغت آخر احتمالٍ لذلك التأخير.
ومع ذلك، لم يستطع أن يترك الأمر عند هذا الحد.
بدل أن يكتفي بالقول إن فيليا لم تكتب له، وجد نفسه يفكر في السبب — لماذا لم تكتب؟
كالمجنون… أشبه بمجنون النجوم.
غير أن التفكير شيء، والركض خلف الأجوبة شيء آخر.
لم يكن في نيته أن يسأل عن أخبارها بنفسه.
لقد كان يكفيه ما فعله في ذلك اليوم الماطر حين تكلّف عناء الذهاب إلى ديربيانا فقط ليعرف إن كانت هناك.
رفع هيليوس آرجين نظره ببطء عن الصحيفة، ثم أعادها إلى سطورٍ أخرى، كأنه يهرب من فكرةٍ كانت توشك أن تترسخ في رأسه.
“هيليوس، أأنت في الداخل؟”
صوتٌ أنثويّ رقيق جاء من خلف الباب، فأجاب بهدوء، عارفًا تمامًا بصاحبته.
فتح الباب وأدخلها، فانبعث من حضورها عبيرٌ من زمنٍ قديم.
دخلت كلونيت آرجين، تتفحّص غرفة حفيدها بنظرةٍ دقيقةٍ هادئة.
مرّت أصابعها فوق سطح أثاث الماهوغاني اللامع، ثم جلست باستقامةٍ تليق بامرأةٍ لم يُغلبها العمر بعد.
“حتى الحديقة الكبرى تبدو أكثر اخضرارًا من آخر مرة رأيتها فيها.”
ابتسم هيليوس بخفة، وأومأ.
“نعم، تكاد الأزهار تختفي تمامًا الآن. لكن ما الذي جاء بكِ إلى هنا، جدّتي؟ هل هناك ما تودين قوله لي؟”
“هناك ما أودّ قوله، بالطبع. الصيف يقترب، وأفكر في إقامة حفلة رقص في وينستل. ما رأيك؟”
كان تنظيم حفلات الصيف في وينستل عادةً متوارثة — طقسًا اجتماعيًّا أكثر منه مناسبة.
ولم يكن هيليوس من النوع الذي يعارض متعة جدّته أو واجباتها.
“افعلي كما تشائين.”
ابتسمت كلونيت ابتسامةً رفيعة، كما لو كانت تعرف مسبقًا أنه سيقول ذلك.
لكنها لم تنهض للمغادرة.
فقد أدرك هو، من هدوئها، أنها جاءت لأجل حديثٍ آخر.
وكان حدسه صحيحًا، إذ لم تمضِ لحظات حتى تفتحت شفتاها مجددًا:
“هل تعلم؟ وصلت اليوم رسالة من بريتشِن تقول إن فيليا أصيبت بالحمى بعد أن بلّلها المطر قبل أيام.”
تقلصت عضلات وجهه في حركةٍ خفيفةٍ بالكاد تُلحظ.
كانت فيليا ديفير في ذلك اليوم في ديربيانا — تلك الحقيقة وحدها، أكثر من كونها أرسلت رسالةً إلى جدته ولم ترسل إليه، هي التي ضايقته حقًا.
“لكن يبدو أنها تعافت الآن، وهذا يبعث على الارتياح، أليس كذلك؟”
“نعم، لحسن الحظ.”
قالها بنبرةٍ مسطّحة، محايدة، وهو يعيد ملامحه إلى هدوئها المعتاد.
كان لا يزال هيليوس آرجين ذاته — الصلب، المحكوم بالعقل، لا يُظهر ما لا يريد.
غير أن صورة فيليا، وهي تنتظره تحت المطر، ظلت تومض في ذهنه كوميضٍ مزعج.
أحسّ بالعطش، كأن تلك الصورة جففت شيئًا في داخله.
لكنه كان يعرف تمامًا — لو عاد به الزمن إلى ذلك اليوم — أنه لن يلغي اجتماعه ليذهب إليها.
لم يكن من طبيعته أن يفعل.
قالت كلونيت وهي ترفع فنجانها:
“سأرسل لها مع دعوة الحفل قليلًا من نبيذ البلسان، فهو مفيد لنزلات البرد. حتى وإن كانت قد شُفيت، فلا ضرر من القليل من العناية.”
أجابها بابتسامةٍ باهتة:
“جدتي تهتم كثيرًا بآنسة فيليا، على ما يبدو.”
ضحكت بهدوء.
“بالطبع. تلك الفتاة تروق لي كثيرًا. أستطيع أن أقولها صراحةً.”
ثم التفتت نحو خادمتها وأشارت إليها أن تُحضِر الشاي.
وبينما كانت تنتظر، نظرت إلى الرسالة غير المفتوحة على الطاولة، وابتسمت بخفة.
“كتبت لي مرة تقول: حين يتقدّم العمر بي، لن أكون جميلة كما كنت، لذا عليّ أن أستمتع بالآن.
فأجبتها: الجمال لا يخصّ عمرًا بعينه، بل يترك أثره في ما يأتي بعده.
أتدري ما ردّت به؟ قالت: إذن فالشباب الذي رحل لا يُفقد، بل يتحوّل إلى شيءٍ أثمن.
أليست كلماتٍ رائعة؟ كيف لي ألا أحب تلك الفتاة؟”
كانت كلونيت تتحدث بفرحٍ نادرٍ عليها، وفي ملامحها إشراقٌ خفيف لا يظهر عادةً إلا حين يُذكر اسم فيليا.
أما هيليوس، فظلّ يصغي بهدوءٍ خالص.
بعد بضع دقائق، عادت الخادمة تحمل الشاي.
ارتشفت كلونيت رشفةً صغيرة، ثم وضعت الفنجان برفقٍ على الصحن، وسألت بنبرةٍ هادئة ولكنها مقصودة:
“قل لي يا هيليوس، ما رأيك أنت في فيليا؟”
كان السؤال واضح النية.
لم تأتِ إلى هنا من أجل حفلة الرقص — جاءت لتسأله هذا بعينه.
ابتسم هيليوس ابتسامةً خفيفة تميل إلى السخرية.
“أظن أن لديكِ جوابًا في بالك سلفًا، أليس كذلك؟”
“ربما. لكن سأقولها بصراحة: أودّ أن تكون هي شريكتك.”
“إنها بلا شكّ تنتمي إلى عائلةٍ مرموقة.”
“الأمر ليس شأن نسبٍ أو مكانةٍ فقط، وإن كنت لا أستطيع تجاهل ذلك كليًّا.
لكن أنظر إليها، يا ولدي — تلك النظرة النقية في عينيها، ذلك الهدوء الذي لا يعرف المكر.
لم أرَ مثلها في فتيات هذا الجيل.”
“أنتِ محقّة، جدّتي.”
كانت إجابته خالية من التردّد، صادقة من حيث المبدأ.
لم تكن فيليا تشبه أحدًا.
تذكّر عينيها العسليتين الهادئتين يوم التقت به في حديقة المعرض، وكيف كانت تنظر إليه بصفاءٍ خجول.
ثم قال بهدوءٍ متين:
“لكن في النهاية، بالنسبة لي… فيليا تبقى فيليا، لا أكثر.”
كانت ملامحه تقول كلامًا آخر، لكن كلماته جاءت باردة، قاطعة.
تنفست كلونيت بعمق، ونظرت بعيدًا من النافذة، ثم عادت لتلامس مقبض الفنجان.
“ربما، ولكن لا أحد يعلم ما الذي يخبئه الغد.
الأشياء تتغيّر في لحظة، حتى تلك التي نظنها ثابتة.”
بعدها، ساد صمتٌ لطيف.
ظلت كلونيت تتأمل الحديقة الغارقة في ألوان الربيع الأخيرة، بينما عاد هيليوس إلى صحيفته دون أن يعكّر صفوها.
تناهى إلى الغرفة صوت عصافيرٍ صغيرة، واحتكاك الأوراق ببعضها تحت النسيم، فغمر المكان إحساسٌ خفيف بالسلام.
قالت بصوتٍ منخفضٍ أشبه بالدهشة:
“ها هو الصيف يأتي حقًا…”
ثم توقفت لحظة، قبل أن تضيف، بنبرةٍ أكثر صرامة وبرودة:
“بالمناسبة، تلك الفتاة — روزالين، هل صحيح أنها تستعد فعلًا للقدوم إلى ديربيانا؟”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات