منذ الصباح الباكر، امتلأت مقهى التيراس بالزوار الذين توافدوا ذهابًا وإيابًا، لكن مع حلول الظهيرة أخذ المكان يهدأ شيئًا فشيئًا.
العائلات التي خرجت للتنزه، والعشاق الذين ساروا جنبًا إلى جنب على ضفاف النهر، مرّوا بجانب فيليا الواقفة هناك كتمثال من الصبر.
“قليلًا فقط… فقط قليلًا بعد.”
همست فيليا لنفسها كما لو كانت تلقي تعويذة، وعيناها تحدّقان في سطح نهر فِرمويل الهادئ. كاحلها، الذي أرهقته الكعب العالي وطول الانتظار، أخذ ينبض بالألم منذ وقت ليس بقصير.
“إن لم يأتِ الدوق، عودي فورًا. مفهوم؟”
حين تجاوزت عقارب الساعة منتصف النهار، عادت إلى ذهنها كلمات إيفان، وشعرت أنها ربما ينبغي أن ترحل كما أوصاها، لكنها لم تستطع أن تتحرك.
ربما طرأ له أمر طارئ… وربما سيتأخر فحسب.
ذلك النوع من الحب الذي يملأ القلب بالكامل يُعمي الحكم ويثقل الخطوات. قليلًا فقط بعد، قليلًا فقط. وهكذا طال انتظارها أكثر.
كانت تركل بحافة قدمها حجرًا صغيرًا، ثم ترفع رأسها كلما مرّ شخص يشبه هيليوس من الخلف، تحدّق فيه مليًا، لتدرك في النهاية أنه ليس هو، فتهبط نظراتها ثانية إلى الأرض.
تكرر ذلك مرارًا، حتى اقترب منها شيخ خرج من المقهى، وقد لاحظ أنها لم تغادر موضعها منذ الصباح، فقال برفق:
“يا آنسة، لقد رأيتك هنا منذ وقت طويل. إن كان من تنتظرينه لم يأتِ بعد، فعودي إلى البيت، فالجو لا يبشّر بخير.”
رفعت فيليا بصرها إلى السماء عندها فقط. الغيوم الرمادية تزحف ببطء، تغطي زرقة النهار الصافي.
قالت بابتسامة متعبة: “نعم، سأفعل. شكرًا لك.”
رحل الشيخ، وألقت هي نظرة على ساعة الساحة، ثم تابعت بعينيها الناس الذين كانوا يعودون مسرعين من النهر بعد أن شعروا ببوادر المطر، قبل أن ترفع بصرها إلى السماء من جديد.
تُطقطق… تُطقطق.
كما قال الشيخ، بدأت حبات المطر تنزل خفيفة. قطرات ناعمة تساقطت على وجه فيليا الجامد، تتبعها خيوط رقيقة بللت ثوبها الذي اختارته بعناية.
كانت باردة.
راح الناس يسعون مسرعين إلى المظلات والمحال ليحتموا من المطر، ولحقتهم فيليا بخطى بطيئة، تلجأ إلى ظل المظلة الممتدة من المقهى.
لم تعد تتلقى المطر مباشرة، لكن نسمة باردة عبرت المكان، تخللت كتفيها المبتلّين، فارتجف جسدها برودةً. سقطت قطرة من طرف فكّها على الأرض، فمسحت وجهها المبلل بظاهر يدها.
مطر الربيع الذي بدأ لم يُبدِ نيةً للتوقف.
شارع ديربيانا الذي كان يعج بالحركة منذ قليل، غرق في همهمة المطر المستمر.
تأملت فيليا المشهد أمامها، قطرات الماء المتساقطة بلا انقطاع من طرف المظلة.
لن يأتي…
ذلك الخاطر تسلل إلى عقلها حين قبضت على المنديل الذي كانت تمسكه بيديها الباردتين.
الدوق آرجين… لن يأتي مهما انتظرتِ.
كانت تعرف ذلك منذ البداية، لكنها لم تكن قد قبلته حتى الآن.
في النهاية، لم يكن سوى وعد قطعته مع نفسها. وعد بأنها لن تخيّب أملها ولن تتوقع الكثير.
إذن، لا بأس.
“يجب أن أكون بخير.”
همست لنفسها محاولة الإقناع.
سأتفهم… كما أفعل دائمًا. كل ما عليّ هو أن أنهض مجددًا، وأخطو خطوة إلى الأمام، كما كنت أفعل دائمًا.
نظرت إلى المنديل الذي بقي الجزء الوحيد الجاف من جسدها، ثم أخذت نفسًا طويلًا، زفرت ببطء، واستنشقت هواءً مشبعًا برائحة التراب الرطب والعشب الطري. شعرت بشيء من التحسّن، ولو كان وهمًا. أرادت أن تصدّق ذلك الوهم.
مسحت وجهها بكمّها كما لو تمحو آثار الدموع، ثم رفعت رأسها بعزم.
من الجيد أن المطر هطل… كان هذا اليوم سيء التوقيت على أي حال.
حين يتوقف المطر، سأمشي فوق البرك الصغيرة في الطريق، وأعود إلى بريتشن. وعندما أستقل العربة، سأفتح النافذة على مصراعيها لأستنشق الهواء الجديد.
ابتسمت ابتسامة باهتة، ومدّت يدها من تحت المظلة. تساقطت القطرات على أطراف أصابعها، تتجمع ثم تسقط، في دورة لا تنتهي.
وبينما كانت تراقب ذلك الإيقاع الصامت، اقترب منها رجل يحمل مظلة، بهدوء، حتى غطّى ظلّه الكبير رأسها المبتل.
***
إلى جانب كومة من الأوراق الموضوعة بدقة ــ تتضمن القضايا الفعلية لتطوير المناجم ووثائق التفاوض المقترحة لسكان جزيرة أترا ــ أغلق هيليوس عينيه للحظة قصيرة.
السيارة التي تقلّه كانت تشق طريقها عبر نفق الأكاسيا نحو المدينة التي ستُعقد فيها الاجتماعات.
رغم أن الساعة تجاوزت الظهر بقليل، إلا أن السماء بدت كغسقٍ مبكر، غائمة مثقلة.
كلما عبرت السيارة ظلال الأشجار الكثيفة، ازداد العتمة حوله، فانعكس ذلك على ملامحه، خاصة حول عينيه المائلتين إلى الحمرة.
خلال الوقت الذي قضاه في السيارة، كان يُعيد ترتيب أفكاره — ما يجب أن يقوله، وما عليه فعله، والمسائل القانونية المعقدة المرتبطة بالمشروع.
لكن في لحظة هدوء، عندما بدأ المطر يطرق زجاج النافذة بنعومة، انبثق في ذهنه اسم واحد دون مقدمات:
فيليا ديفير.
فتح هيليوس عينيه ببطء. قطرات المطر، الواحدة تلو الأخرى، كانت تنزلق على الزجاج ثم تختفي.
ومع خروجهم من الطريق المحاط بالأشجار إلى طريق مفتوح، اشتدّ المطر فجأة.
لا يمكن أنها ذهبت…
تلك الفكرة عبرت ذهنه، لكنه لم يستطع أن يصرف نظره عن النافذة.
وحتى لو ذهبت، فلا بد أنها عادت الآن.
حاول إقناع نفسه بذلك، لكن الاسم الذي حاول طرده عاد أوضح وأقوى.
قال بهدوء: “انتظر.”
لم يزل ينظر إلى الخارج حين نادى السائق بصوت منخفض، خرجت الكلمة من بين شفتيه بلون الدم، هادئة لكنها حاسمة:
“اتجه إلى ديربيانا.”
تردد السائق: “سيدي؟ إن عدنا إلى ديربيانا فسنصل متأخرين عن الموعد—”
رفع هيليوس صوته قليلًا: “هل أكرر كلامي؟”
“لا، لا حاجة، سيدي. أعتذر.”
أومأ هيليوس إيماءة خفيفة، علامة على قبوله الاعتذار، ثم عاد بصمته إلى تأمل المشهد الذي كان ينزلق ببطء خلف زجاج السيارة المبتل.
كانت أصابع هيليوس الطويلة ترتكز فوق صندوق القيادة، تتحرك ببطء وفق إيقاع غير منتظم، كما لو أنها تترجم توترًا خفيًا لا يريد أن يعترف به.
كان السائق ما يزال حائرًا من أمر سيده الذي أمره بتغيير الطريق على نحوٍ غير متوقّع، لكنه لم يجرؤ على طرح أي سؤال.
شقّت السيارة طريقها عبر المروج الواسعة، وبعد دقائق قليلة بدأت ملامح شارعٍ مزدحمٍ تتشكل أمامهم.
فنادق أنيقة، ومتاجر مصطفة على الجانبين، ثم بدت واجهة متجر إنديز الكبير، لتتلوها أضواء الممر المسقوف الممتد عبر شارع الأرصفة.
أخيرًا توقفت السيارة عند منطقة مقهى التيراس المطلة على نهر فِرمُوِيل، تمامًا كما أمر هيليوس.
تحت المطر الخفيف، أمال المظلة قليلًا فوق كتفه، وسار بخطوات هادئة نحو المقهى المطل على النهر.
من تحت مظلات المحلّة المزدحمة بالناس الهاربين من المطر، أخذ يتفحّص الوجوه واحدًا تلو الآخر.
لكن فيليا ديفير لم تكن بينهم.
تجمّعت قطرة على طرف المظلة، ثم انزلقت وسقطت على مقدّمة حذائه اللامع.
سحب نظراته عن المكان الذي طالما تأمل فيه للحظة، ثم استدار.
“لنعد.”
تحرّكت السيارة من جديد في الطريق ذاته الذي جاءت منه.
أغمض هيليوس عينيه، بينما كانت المشاهد التي لم يحتوها بصره قبل قليل تنسحب ببطء خلف زجاج النافذة المبلل.
كان الطريق مغطّى بأشجار الكرز الربيعية التي تشكّل قوسًا طويلاً فوق الممر، وبتأثير المطر الخفيف، تساقطت بتلاتها الوردية باكرًا هذه المرة، فلم تطِر بعيدًا كما في الأيام المشمسة، بل هبطت بهدوء على الأرض القريبة، كأنها تخشى الرحيل.
***
“قلتُ لكِ ألا تنتظري، أليس كذلك؟”
رفعت فيليا رأسها على صوت مألوف.
في ظهيرةٍ رمادية من أمطار إرنيل، كان إيفان أركاس واقفًا أمامها، يحمل مظلته السوداء التي خضّبتها قطرات المطر.
تأملها طويلًا، ثم أمال المظلة نحوها لتغطيها.
“كيف أتيتِ إلى هنا؟ لا، بالأحرى… لماذا أتيتِ أصلًا؟”
قالها بلهجة فيها من اللوم بقدر ما فيها من القلق.
ابتسمت فيليا بخفة باهتة، بينما كانت تنظر إلى ثوبها الأصفر الفاتح الذي اختارته صباحًا بعناية. اللون المشرق الذي بدا عليها كأشعة شمسٍ صغيرة، صار الآن مرقّطًا ببقع داكنة من المطر.
أما منديل الدوق آرجين، الذي كانت تمسكه بيديها، فقد ظلّ نظيفًا وكأنه لم يلمسه البلل.
زفر إيفان بنفاد صبر، ناظرًا إليها بضيقٍ لا يخلو من الشفقة.
“لماذا تشدّين عليه هكذا؟ المنديل يُستعمل في مثل هذه اللحظات، أليس كذلك؟”
هزّت رأسها بهدوء.
“لا، لن أستخدمه. هذا أول شيءٍ أعطاني إياه الدوق.”
“ولهذا السبب تحديدًا عليكِ أن تستخدميه. امسحي به الوحل حتى يتّسخ تمامًا، ثم ارميه بعيدًا من دون ندم.”
حدّقت فيه فيليا بخوفٍ طفيف، ثم أخفت يدها خلف ظهرها، تخشى أن ينتزع المنديل منها حقًا كما يوحي صوته.
في تلك اللحظة، لم تستطع أن تحمل في نفسها ذرة حقدٍ على هيليوس آرجين، رغم كل شيء.
أما إيفان، فكان يغلي في داخله غضبًا عنها وعن نفسه معًا، يسبّ الدوق في سرّه بكل الكلمات التي لم تستطع فيليا قولها.
لكن حتى ذلك لم يكن كافيًا ليخفف عنه شيئًا.
تذكّر وجهها وهي تكتب الرسائل بلا ردّ، كيف كانت تبتسم وهي تنتظر جوابًا لن يأتي، كيف كانت تتطلع إلى اليوم كطفلةٍ تنتظر معجزة.
منذ ليلة عيد الميلاد، كل ضحكةٍ من ضحكاتها، وكل عبوسٍ عابرٍ على ملامحها، كان مرتبطًا بشكلٍ ما بـ هيليوس آرجين.
فهل يعلم الدوق كم ترك في قلبها من أثر؟
هل تذكّر أصلًا وعده اليوم؟
حين خطر هذا السؤال بباله، عضّ إيفان على شفته ندمًا، متمنيًا لو أنه في تلك الليلة أخذ فيليا بعيدًا عن ذاك المكان قبل أن تلتقي به.
كانت فتاة تستحق أن تُحَبّ أكثر مما نالت، أن يُغمر قلبها دفئًا لا فراغًا.
ورؤيتها الآن، واقفةً تحت المطر تنتظر رجلًا لن يأتي، كانت كفيلة بأن تشعل في صدره غضبًا مضاعفًا.
غضبًا ليس منها، بل من الدوق آرجين نفسه.
قال وهو يشيح بنظره عنها محاولًا التخفيف من حدّة صوته:
“احذري… ذلك المنديل، ربما في يومٍ ما، ستجدينه عالقًا على شجرة حورٍ عند الطريق الريفي.”
ابتسمت فيليا بخفة وقالت:
“حينها سأعود وآخذه من هناك.”
ضحك إيفان بهدوء:
“وهل تنوين أن تسقطي من الشجرة مجددًا مثلما كنتِ طفلة؟”
أخفى ما في صوته من انفعالٍ بذكاء، ثم أخرج من جيب سترته منديلاً آخر، ومدّه نحوها دون أن يقول شيئًا.
بدأ يمسح برفقٍ قطرات المطر التي علقت بطرف شعرها، ثم مرّر المنديل على كتفيها المبللتين، بحذرٍ يشبه الحنان.
قالت بابتسامة شاحبة:
“حتى لو سقطت، ما المشكلة؟ هكذا نتعلم، أليس كذلك؟”
أجابها بنبرةٍ خفيفة، نصف مازحة نصف متأثرة:
“كلامك يشبه حكمة جدٍّ عجوز يا الآنسة فيليا. ثم إنك كبرتِ بالفعل، لا مجال للسقوط بعد الآن.”
وفي النهاية، أمسك بيدها اليمنى، تلك التي كانت تقبض على أثر هيليوس الأخير، ومسح بلطفٍ بظهر المنديل على يدها المبتلّة، ثم التقت عيناه بعينيها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات