قدّمت فيليا الآيس كريم بطعم الشوكولاتة، الذي بدأ يذوب قليلًا من حرّ النهار، إلى هيليوس.
لم يكن من عشّاق الآيس كريم، لكنه قبِله منها بهدوء.
“لذيذ، أليس كذلك؟ أحسنتُ حين قررت أن أشتري واحدًا لك أيضًا، صحيح؟”
جلست بجانبه، تملؤها السعادة، تراقبه بفخر وبهجة. قدماها، المتدليتان أسفل المقعد، كانتا تتأرجحان بخفة وحيوية، تُبدّلان الحركة بين الأمام والخلف، يُحدثان تماوجًا رقيقًا في فستان الشيفون الذي يصل حتى ركبتيها.
هيليوس تذوّق البرودة الحلوة، وابتلع قضمة، ثم قال:
“طعمه لذيذ… حلو فعلًا.”
“لو أنك لم تتذوقه اليوم، لربما ندمت حتى حلول ربيع العام القادم! آه، وتخيل! أخبرني البائع أن اسم هذا الآيس كريم هو دموع ديفيانا! أليس اسمًا مدهشًا؟ يبدو أنه اختار الاسم بعناية حتى يلفت الأنظار!”
دموع ديفيانا… اسم بدا شاعريًا بشكلٍ مدهش، مع أنه لم يلمس قلب أحدٍ سوى فيليا دو فيير على الأرجح.
“قال البائع إن الناس يدركون فورًا أن الآيس كريم مصنوع من الشوكولاتة، لذلك أعطاه اسمًا كبيرًا ومبهرًا ليبدو أكثر جاذبية… ويساعد في بيعه.”
كانت فيليا تتحدث بحماس، تقضم من الآيس كريم بينما تواصل شرحها بسعادة:
“لكن الغريب… إذا كنت ستأكل دموع ديفيانا، ألا يجب أن يكون طعمها منعشًا؟ كأنها بنكهة البرتقال، أو شيء من هذا القبيل؟ لماذا إذًا الشوكولاتة؟”
“وسألته عن ذلك؟”
“نعم! لكنه ضحك فقط.”
ابتسم هيليوس، وضحك فجأة ضحكة خفيفة. ليس لأنه وجد سؤالها مضحكًا، بل لأن بقايا من الشوكولاتة كانت قد علقت حول فمها دون أن تدري.
أخرج من جيب سترته منديلاً وقدّمه لها.
“امسحي. لا حاجة لأن تُعيديه لي، لا أريده.”
تناولت فيليا المنديل بسرعة وحرج، وبدأت تمسح فمها بسرعة وهي تنظر إليه بطرف عينها.
“هيليوس!”
جاء صوت ديون مرتفعًا من بعيد، يقترب منهم بخطى سريعة، متقدمًا على الآخرين.
أسرعت فيليا تمسح فمها، ثم خفّضت يدها وتحدثت قبل أن يصلهم ديون ومن معه:
“سموك… لنلتقِ بعد أسبوع، في مقهى التراس المطلّ على نهر فامويل.”
“هل كان بيننا موعد؟”
“لا، لم نتواعد… لكن يجب أن نلتقي. لأني سأُعيد لك المال الذي استدنته منك. وأيضًا…”
ثم، بعد أن نظرت إلى ديون الذي بات على بعد خطوات، انحنت خلسة نحو أذن هيليوس، وهمست:
“الرسالة القادمة… تحوي شيئًا مهمًا جدًا. أرجوك، افتحها هذه المرة. أرجوك!”
لم تنهِ كلماتها إلا حين وصل ديون ورفيقاه. كان هو الأسرع، وتبعه الآخران بعد لحظات، يسألونه عما استعجله.
“آسف إن جعلناكِ تنتظرين طويلًا، آنسة فيليا. هل نذهب؟”
“نعم، لنذهب.”
هزّت فيليا رأسها إيجابًا، وقامت وهي تمسك بكوب الآيس كريم الذي بدأ يذوب.
ثم سارت لتقف إلى جانب نوح.
“لقد استمتعت حقًا، سموّ الدوق.”
تراجع نوح خطوةً مهذبة، فألقت فيليا تحية أكثر حيوية ومرحًا من وداعها السابق، ثم انصرفت معه.
أما هيليوس، فظل يحدّق بصمت في ظهر الفتاة الصغيرة وهي تبتعد.
وكأنها أحسّت بنظراته، استدارت فجأة.
ثم قفزت في مكانها، ولوّحت له بيدها بكل ما تملك من طاقة، مبتسمة.
الشريط الذي ربطه لها لا يزال يتراقص تحت ذقنها.
كان هناك شيء من الحسرة… لكنه شعر برضا داخلي عميق. ذلك الشعور، جعله يُدرك:
لقد استمتع بوقته مع فيليا دو فيير.
حتى تلك الذكرى المظلمة، من أيام الصيف البائسة… شعر للحظة أنه لو كان معها، فقد يستطيع أن يضحك وينساها تمامًا.
أراد أن يبقى معها. أراد أن يظل بقربها.
كانت رغبة لم يشعر بها من قبل. رغبة غريبة.
ومع ذلك… لم تكن حبًا.
هكذا أقنع نفسه، وأنهى سلسلة الارتباك الطويلة التي راودته مؤخرًا، وحرّر بصره الذي ظل معلقًا عليها حتى اللحظة الأخيرة.
*****
“أصدقاء؟! يا للهراء…”
كانت زهور الفاوانيا متفتحة في إناء نصفه ماء، تتدلّى بغزارة.
إيفان تمتم لنفسه بامتعاض، وهو يلمس أطراف إحدى الزهرات بسبابته. تأرجحت بتمايل خفيف، كأنها تنفّست ردًا.
كانت تلك الزهور، برفقة كتاب مستعار، هدية أعادها نوح كارڤان إلى فيليا، بعد أن قضيا معًا بعض الوقت في بريتشين.
وكان إيفان قد وصل إلى بريتشين قبل أيام ليقضي الربيع، وتسلم تلك الهدية بنفسه، نيابة عن فيليا التي كانت في المعرض.
ربما كان محظوظًا، إذ إن خادم عائلة كارڤان أعطاه الحزمة مباشرة. لو كان خادم آخر هو من استلمها، لأُرسلت فورًا إلى والتر دو فيير، والد فيليا.
ولو حدث ذلك، لما انتهى الأمر بزهور نوح كارڤان في غرفة فيليا.
وربما كانت تلك النجاة كافية لإنقاذ فيليا من مأزق حقيقي.
لو عرف والدها أن نوح كارڤان أرسل هدية لها، لربما فكّك الغلاف بنفسه، وفي تلك الحالة، لكانت فيليا الآن تقرأ الإنجيل بدلاً من رواياتها الإنجيل “النبيل لكنه ممل” على حد وصفها.
***
كان إيفان غارقًا في كرسيه الوثير، مستسلمًا لشمس الربيع التي تتسلّل بدفء عبر النوافذ، بينما يراقب فيليا منهمكة في قراءة رواية كانت قد استعادتها مؤخرًا من نوح كارڤان.
بدت مأسورةً بجملة ما في إحدى الصفحات، إذ ظلت تعيد قراءتها منذ دقائق، بلا ملل.
عين إيفان تنقّلت بين كتاب الرواية الذي تقبض عليه أنامل فيليا، وزهور الفاوانيا المتفتحة في المزهرية الموضوعة على الطاولة. عيناه ضاقتا قليلًا.
إذًا، استعار منها الكتاب وأعاده مرفقًا بالزهور؟
أصدقاء؟ هراء.
مجرد عذر جميل يخفي نوايا أخرى. فقط النظر إلى الطريقة التي دعاها بها لحضور معرض كوتسيل للبستنة تخبرك بكل شيء.
الصداقة كانت غلافًا لشيء آخر.
فيليا، بطبيعتها الطيبة، لم تكن تدري. كانت تفرح فقط بعودة الكتاب سليمًا، لا أكثر.
أما إيفان، فلم ينوِ أن يخبرها بأن نوح كارڤان استعان بالكتاب ذريعة لرؤيتها، ولا أن الزهور التي أُرسلت معها كانت تحمل نوايا أعمق.
السبب كان بسيطًا. في نظر إيفان، نوح كارڤان هو الشخص الأنسب لـفيليا… أكثر حتى من هيليوس أرجين.
على الأقل، كان ذلك ما يراه هو.
وفوق ذلك، نوح كارڤان كان من أولئك الرجال الذين تتطابق أقوالهم مع أفعالهم، ذو سمعة نظيفة بلا شائبة.
ورغم أن وسامته كانت مختلفة عن وسامة دوق أرجين، إلا أنها لم تقل عنها جاذبية. عيناه الخضراوان، البراقة كصيفٍ نضر، قد أسرت قلوب الكثيرات.
إيفان، الذي لم يُعجب قط بـهيليوس، لم يكن يتحامل على نوح. بل على العكس، بدا له لقاء فيليا ونوح أمرًا حسنًا ومُبشّرًا.
فأي شيء أفضل من رجل حقيقي، محبٌ لجنون فيليا، وليس مجرد مُتساهل معها؟
نوح كارڤان لم يكن يكتفي بتفهّم أفكارها الغريبة، بل كان يُحبّها فيها.
رغم ذلك… لا أحد يستطيع أن يحب فيليا دو فيير كما يفعل إيفان أركاس.
في قلب فيليا وإيفان، لم يكن هناك بديل عن الآخر. الصديق الذي يشاركه روحه، ويعرفه قبل الكلمات. حتى لو مرّ الزمان، لن يتغيّر ذلك.
هي ستبقى دومًا إلى جانبه، وهو كذلك.
فيليا وإيفان لم تربطهما مجرد صداقة، بل شيء أعمق من أي حبٍ يُقال عنه. شيء وُلد من الصدق، وبات أقوى من أن يتبدّد.
وقد حسم إيفان هذه القناعة في داخله، ثم نفض بتلات زهر الكرز عن صحيفة اليوم، وجلس على الأريكة.
استند بمرفقه إلى ذقنه، ناظرًا نحو فيليا، قبل أن ينقل عينيه إلى العناوين المطبوعة.
لكنه، للأسف، وقع بصره على ذلك الاسم:
“أداء مصرف الاستثمار يحسمه اسم دوق أرجين”
هيليوس أرجين. مجددًا.
وبمجرد أن قرأ العنوان، جاءت نداءات فيليا كأنها على توقيت دقيق، بصوتها العذب، المرتفع قليلًا بسبب مزاجها الربيعي.
“إيفان!”
كانت ترتدي، كالعادة، شريطًا صنعته من منديل ربطته بارتجال فوق شعرها الأشعث.
“انظر لهذا!”
> “في مثل هذا اليوم، لو أمكنني الركض فوق العشب مثل الجراء، كم سأكون سعيدة!”
“إنه تمامًا ما أشعر به الآن.”
جلست بجانبه فجأة، ثم ضمّت الكتاب إلى صدرها، ودفنت وجهها فيه. ثم أطلقت زفرة طويلة، مفعمة بالحياة، ونظرت نحو النافذة بعينين حالمتين.
الربيع… هكذا كان دائمًا بالنسبة لها. فصل العواطف المفرطة، فصل الأحلام التي تتفتّح.
“ربما… لو لم ألتقِ بالدوق في معرض كوتسيل، لما أحسست بهذه الجملة كما أحسّ بها الآن.”
حتى الأغصان الممتدة نحو النافذة من شجرة الكرز كانت تفيض بربيعٍ عاطفي. بتلاتها الوردية ترقص مع النسيم، تدغدغ القلب بخفة.
عينا فيليا، المنعكسة فيهما لوحة أبريل من بريتشين، كانتا تشعّان صفاءً.
“تُرى… ماذا يفعل الدوق الآن؟”
“أبهذه السرعة ننتقل من جرو يلعب في العشب إلى هيليوس أرجين؟”
قالها إيفان وهو يطوي الصحيفة ويرميها إلى جانبه.
“ليست سرعة، يا إيفان. فأنا دائمًا أفكر فيه.”
“ومن ينكر ذلك؟”
“الجو اليوم جميل… لذا لا بد أن مزاج الدوق رائع. ربما… يتمشّى الآن عند ضفاف البحيرة؟”
بينما كانت تتحدث، مدّت فيليا يدها لتلمس المنديل المربوط بنهاية ضفيرتها، ثم ابتسمت ببطء.
“أو ربما لا يزال نائمًا. أو منشغلًا أخيرًا بإنهاء الأعمال التي كان يماطل بها.”
فيليا تعلّمت كيف تتجاهل تعليقات إيفان التي لم تكن تروق لها. لذا تابعت كلامها، دون أن تلتفت إليه.
“أو ربما خرج لركوب الخيل! مراعي وينستل لا بد أنها أصبحت أكثر اخضرارًا!”
كان من العبث أن يعلّق أحدهم على هيليوس أرجين بسوء أمام فيليا.
في عالمها، كان ذلك الرجل تجسيدًا للكمال. لا خطأ فيه.
نظر إيفان إلى اسم هيليوس في الجريدة بنظرة ممتعضة، ثم أسند رأسه إلى يديه المتشابكتين، وأغمض عينيه وهو يزفر في هدوء.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات