كانت أشعة الشمس دافئة، والهواء نقيًا، والسماء صافية زرقاء إلى حد الشفافية والامتداد. يومٌ نقيٌّ كرنّة كأس بلّور يُقرع في هدوء.
كان يوم الربيع الذي حلمت به دومًا. وحقيقة أنها تسير الآن مع هيليوس بمفردهما، جعلت من حلمها أكثر تماسكًا، وأكثر كمالًا. وأمام رغبتها الصادقة بأن تستمتع بهذه اللحظة حتى آخر قطرة فيها، تلاشى ذلك الإحباط الذي شعرت به عندما علمت أنه لم يقرأ رسائلها.
هدأت الرياح، فسكنت الأقمشة البيضاء الشفافة التي كانت ترفرف من الممر الطويل. ومع سكونها، انكشفت الدفيئة القائمة إلى جانب النافورة بوضوح. المكان ذاته الذي كان فيه نوح كارڤان يتحدث مع باتريك.
وانسلت تلك الصورة أيضًا إلى مجال بصر هيليوس.
“لكن… آنسة فيليا، يبدو أنك تملكين كثيرًا من الأصدقاء، أليس كذلك؟”
“أصدقاء؟ أنا قريبة من إيفان، وصديقة لعمي هولت، وجدتي، وكذلك…”
“نوح كارڤان أيضًا؟ لم أكن أعلم أن بينكما صداقة.”
“آه! لم يمضِ وقت طويل على معرفتي بـنوح، لكنّه شخص طيب ومهذب، فتقاربنا بسرعة.”
كانت المرة الأولى التي يبدي فيها هيليوس فضولًا حقيقيًا تجاه شيء يخصها، فأجابت فيليا بعناية وصدق.
أصدقاء… ردّدها هيليوس كأنما يتذوق الكلمة على لسانه، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة ساخرة.
وبينما كانت فيليا تراقب تعبيره عن كثب، أمالت رأسها بتساؤل خافت:
“هل… هل ضايقك ذلك؟”
“هل يبدو عليّ ذلك؟”
“أنا فقط… لم أطلب من نوح أن يرافقني لأنك لم تردّ على رسائلي، أقسم بذلك.”
عينا هيليوس، اللتان كانت تتأملانها ببطء، توقفتا أسفل ذقنها… عند ربطة الشريط السماوي.
كان الشريط يرفرف قليلًا، كأنه على وشك أن ينحلّ.
“حتى لو كان كذلك، فليس لدي سبب لأغضب.”
“لكن… إن كان في قلبك ذرة ضيق، أخبرني بها. أنا سيئة في مثل هذه الأمور. لم يسبق لي أن أحببت أحدًا من قبل. آه، باستثناء لوك إمبيل من رواية ‹شارع بينيل›… لكن تلك مجرد حالة إعجاب، لا تُقارن.”
ثم، وكأنها تذكرت فجأة:
“على أي حال، لم يسبق لي أن عشت حبًّا حادًا لدرجة أن أتلقى صفعة من أحد الجنسين، كما يحدث في قصص الحب الجامحة.”
ابتسم هيليوس ابتسامة صغيرة، وقال:
“الغريب أنكِ تدّعين أنكِ لستِ من يهتمّ بالقيل والقال، لكنك الآن تنتقدينني كما لو أنكِ كنتِ هناك.”
شهقت فيليا، ولوّحت بيديها في نفي متوتر:
“لا، لا، لم أقصد ذلك إطلاقًا! كنت أمزح! ما زلت أؤمن أن الشائعات لا تشبهك أبدًا. لو كنت كما تقول تلك الأقاويل، لكنت تقضي وقتك على أسوار المدارس الداخلية، تلاحق الفتيات من خلف النوافذ!”
ثم توقفت للحظة، وأشارت إلى زهور الهليوتروب المزروعة في الحديقة الواسعة:
“في نظري… أنت مثل تلك الزهور. جميلة ونبيلة. الهليوتروب هي زهرتي المفضلة.”
عيناها المتألقتان، المشبعتان بالصدق، كانت تلمعان كأنّ الضوء يسكن داخلهما. وفي طرف شفتيها، كانت هناك غمّازة عميقة تُكمل مشهد الصدق الصافي.
ثم، حين همّت فيليا بأن تلتفت لتنظر إلى هيليوس من جديد، انحلّ الشريط المربوط حول عنقها فجأة، ولم تلاحظ.
كانت منشغلة بالحديث، تشرح له سبب حبّها لزهور الهليوتروب.
هيليوس، الذي كان يراقبها بصمت، مدّ يده دون تردّد.
أطراف أصابعه الطويلة لامست الشريط المنحلّ.
عندما شعرت بيده تتحرك أسفل ذقنها، كتمت فيليا أنفاسها. يد هيليوس لامست رقبتها بلطف بينما كان يعيد ربط العقدة.
وبرغم أنها حاولت كتم أنفاسها، فإن وجنتيها احمرّتا بشدة، كما لو أن شمس الربيع قد استقرت عليهما.
بعد أن أعاد ربط الشريط، تراجع خطوة إلى الوراء.
لكن فيليا ظلّت واقفة في مكانها، عيناها متسعتان، لا رمشة فيهما.
“يمكنكِ أن تتحركي الآن.”
لولا أنه ناداها، لربما ظلت واقفة هناك إلى الأبد، وقد نسيت حتى كيف تتنفّس.
“أنا… أنا… أعني…”
“كان الشريط مفكوكًا.”
أشار هيليوس إلى الشريط الذي كانت تعبث به بأصابعها، وكأن الأمر لا يتجاوز كونه شيئًا بسيطًا، لا معنى له.
لكن بالنسبة لـفيليا، لم يكن كذلك.
لو كانت مشاعرها اليوم قادرة على التحرك والتجسّد، لكانت ترقص على لحن بيانو مستوحى من مهرجان ربيعي، في حقلٍ أخضر واسع.
آه، لا تنسَ الفستان. فستان حريري ورديّ فاتح مزخرف بالدانتيل. وشعرها المتطاير في النسيم، لونه ذهبي ناعم وخفيف… وفوق ذلك، ابتسامة لا تستطيع كتمها.
بينما كانت تسرح بهذه الأفكار، كان هيليوس قد سبقها بعدة خطوات.
نادت عليه فيليا بابتسامة مشرقة، وركضت نحوه بخفة:
“إذا انفكّ الرباط مرة أخرى، هل يمكنني أن أطلب منك ربطه؟”
“عندها يجب أن تكوني أنتِ من يلاحظ أولًا، آنسة فيليا.”
“لكنني لا أعرف كيف أربطه مثلما فعلت أنت! إنه جميل جدًا!”
ابتسم وقال بهدوء:
“دائمًا ما تحيط بكِ مجموعة من الناس. بالتأكيد سيجد أحدهم وقتًا ليربطه لكِ.”
“لكنه ليس نفس الشيء…” تمتمت بها بخفوت، ثم وجدت نفسها قد وصلت إلى نهاية ممر الهليوتروب.
“هل نعود من هنا؟”
“بالطبع!”
وبينما همّ بالسير، نظر هيليوس إلى حذاء فيليا الأبيض الجديد، وسألها مجددًا…
“أم تفضّلين أن نأخذ قسطًا من الراحة؟”
“ذاك أيضًا خيار رائع!”
صدر عنها تنهيدة خفيفة، ممزوجة بابتسامة فقدت شيئًا من قوتها.
“يبدو أن كل شيء يعجبكِ يا آنسة فيليا.”
“نعم! الحقيقة أنني سعيدة جدًا الآن… لدرجة أن كل ما يمكنني قوله هو أنني… سعيدة! أعتقد أنني فقدت قدرتي على التمييز والتفكير السليم.”
“إذن، آنسة فيليا التي فقدت تمييزها، عليكِ أن تقرري بنفسك إلى أين نذهب.”
بدأت فيليا تنظر حولها بتفكّر عميق، وكأنها تلقّت اقتراحًا مصيريًا. اتسعت عيناها الجادتان وهي تمعن في تأمل ما حولها.
مرجٌ أخضر تناثر عليه الناس تحت مظلات الشمس، ممر عبر غابة كثيفة من الشجيرات المهذبة، حديقة تتفتح فيها زهور السويت بي الصغيرة الرقيقة… كل زاوية كانت تحمل شيئًا من الجمال، وتلامس عينيها بعذوبة.
لكن طالما هيليوس معها، فكل مكان يصبح جميلاً. بل في الواقع، كل الأماكن كانت جميلة جدًا لدرجة أنها عجزت عن اختيار واحد منها.
وفجأة، لامس أنفها عبق حلو، يشبه رائحة الشوكولاتة. لم يكن عطر الهليوتروب الذي ملأ الحديقة آنفًا … تلك الزهرة تعطي لمحة من الشوكولاتة نعم، لكن هذه الرائحة كانت أعمق، أغنى.
“ألا تشمّ رائحة حلوة؟ كأنها شوكولاتة؟”
أخذت نفسًا عميقًا، واتجهت ببصرها صوب اتجاه النسيم. وهناك، على جانب البرغولا، رأت عربة صغيرة تبيع مثلجات الشوكولاتة وحلوى مصنوعة منها.
“لقد قررت! نذهب إلى هناك!”
تبع هيليوس اتجاه إصبعها، فرأى طابورًا طويلًا من الأطفال مصطفين أمام العربة. عبس وجهه قليلًا، وعيناه تقولان بوضوح: لا أصدق أننا سنقف في هذا الطابور.
“هل تريدين أن نقف في الصف؟”
“كلا، سموّك ابقَ جالسًا تحت البرغولا، سأذهب لأحضرها بنفسي.”
“لا، لست بحاجة.”
“لكنها ستكون لذيذة! باردة وحلوة!”
“رغم ذلك، لا حاجة لي.”
فتحت فيليا حقيبتها ثم توقفت، ونظرت إليه. كانت تخطط لشراء المثلجات له أيضًا… لكنها غيرت الخطة حين رفض.
كما يحدث دومًا حين تخطر ببالها فكرة ذكية، تلألأت عينا فيليا بحيوية طفولية.
“سموك.”
“قلتُ إنني لا أرغب بها.”
“لا، ليس هذا… آسفة، لكن هل يمكنك إقراضي بعض المال؟”
نظر إليها هيليوس، وكأنه لم يسمعها جيدًا.
“أن أقرضك ماذا؟”
“المال! فقط بعض النقود!”
ضحك بخفة، بصوت خفيض متفاجئ، ثم أمال رأسه قليلًا وهو يحدق في وجهها:
“لكنّكِ تملكين الكثير من المال، آنسة فيليا.”
“صحيح، لكني الآن، في هذه اللحظة، لا أملك ما يكفي لشراء آيس كريم الشوكولاتة. لا أعلم كيف، لكنها الحقيقة. لذا… اقرضني، أرجوك.”
كانت تطلب كما لو أن ما تفعله لا يثير أي خجل. مدّت يديها الصغيرتين بثقة. وعندما شعر هيليوس بأنها تحدّق فيه أكثر مما ينبغي، أخذت تدّعي الانشغال بشيء آخر.
“حسنًا. سأعطيك.”
وبعد لحظات، ناولها المال دون تعليق، وبذلك نجح جزء من خطة فيليا.
“سأعود بسرعة! انتظرني هنا، لا تتحرّك!”
ركضت نحو العربة، تقبض على المال بيديها ككنز ثمين. وفي زوايا فمها، ارتسمت ابتسامة خبيثة خفيفة.
عليّ أن أعيد المال لاحقًا، أليس كذلك؟
ذلك الشعور البسيط، الجميل، بأنها ستراه مجددًا لإعادة ما استدانته — كان ذلك بحد ذاته سببًا كافيًا للفرح.
وقفت في نهاية الصف، تعبث بالشريط تحت ذقنها، ورفعت بصرها إلى السماء. بضع غيوم بيضاء كانت تبحر في الأفق. الجو، والنسيم، وكل شيء كان… رائعًا.
ثم أنزلت عينيها فرأت هيليوس واقفًا تحت البرغولا.
خدّاها المتوردان لا يزالان يحملان لمسة الخجل. “أنا حقًا… سعيدة.”
نسيم خفيف داعب أطراف الأغصان المتدلّية على سقف البرغولا، ثم مرّ من عند أصابع هيليوس كلمسة رقيقة… أشبه بملمس شريط فيليا.
فتح كفه ثم أغلقه بهدوء، وعيناه لم تبارحا فيليا التي كانت قد وصلت أخيرًا إلى مقدّمة الطابور. كانت تتحدث مع البائع، قائلة شيئًا جعله يضحك بصوت عالٍ.
ظلّ وجهها مخفيًا تحت قبعة القش، فظلت ملامحها غامضة.
رغم ذلك، لم يكن بصر هيليوس يتركها.
عندما استدار البائع ليغرف المثلجات، رفعت رأسها إلى السماء كما لو كانت تحاول تذوّق السحاب بنظراتها، ثم أعادت يدها إلى ربطة شريط القبعة.
وفي بعض اللحظات، كانت تبدو شاردة، غارقة في أفكار لا يعرفها سواها.
كل تلك التفاصيل الصغيرة انعكست بهدوء في حدقتي هيليوس، الثابتتين.
كان كل شيء من حوله هادئًا. أحاديث الناس في البعيد وصلت إليه مكتومة، وكأنها تتردّد من أعماق البحر. وحده صوت العصافير ظلّ نقيًا، وكأنها تغرّد بصوت فيليا دو فيير.
أخيرًا، عادت فيليا، تمشي وفي كل يدٍ منها واحدة من المثلجات. اشترت اثنتين، رغم أنه قال لا. ولمّا ابتعدت أكثر عن العربة، تسارعت خطواتها.
كادت أن تتعثر بين الأطفال الذين يركضون ويلعبون، لكنها توازنت في اللحظة الأخيرة.
نظرت إلى المثلجات التي لا تزال بخير، وزفرت بارتياح.
ثم رفعت واحدة منها عاليًا، موجّهة إيّاها نحو هيليوس الجالس تحت البرغولا، وابتسمت له ابتسامة مشرقة، من تلك التي تظهر فيها غمّازتها.
“فيليا دو فيير…”
همس هيليوس باسمها، تمامًا كما فعل حين لمس الشريط تحت ذقنها … كانت همسة منخفضة، لا واعية.
ومن خلال الظلال التي صنعتها أغصان العريشة، تسلّل شعاع من ضوء بعد الظهيرة، فارتطم بالبروش المعدني على طيّة سترته، وجعل لمعانه يتلألأ.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات