“عذرًا، آنسة فيليا؟ أنا موجود أيضًا، أتعرفين من هذا؟”
لوّح ديون بيده أمام وجه فيليا ليُلفت انتباهها، مشيرًا بلطف إلى ولي عهد مملكة إيرنيل الذي تم تجاهله هو الآخر.
ولم تتعرّف فيليا على ولي العهد إلا بعد أن مرت بصفحات ثلاث من ذكريات حفل التعارف.
كانت الصفحة الأولى من تلك الذكريات تدور حول حيرتها في اختيار فستان ترتديه للحفل، والصفحة الثانية حين رقصت مع إيفان في قاعة الحفل، أما الصفحة الأخيرة، فكانت عند لقائها بالملكة.
وكان باتريك، يقف تمامًا بجوار الملكة في تلك الصفحة الأخيرة.
اتسعت عيناها العسليتان المفعمتان بالدهشة، ولبثت للحظة في حيرة من أمرها، ثم تراجعت بخفة خطوة إلى الخلف، وثنت ركبتها قليلاً، مؤدية تحية مؤدبة متأخرة، ولكن مناسبة للظرف.
“أنا فيليا دو فيير من بيت دو فيير. أعتذر عن التأخر في التحية. لكن أقسم أنني لم أتظاهر بتجاهلكم عمدًا، يا سمو الأمير. لقد ركضت مباشرة نحو الدوق، ولم أرَ شيئًا سواه…”
أنهت كلماتها بصوت خافت وهي تراقب ملامح باتريك بقلق. كانت تتوقع منه توبيخًا على قلة الأدب، وكانت مستعدة لأن تنحني رأسها في خجل لعشر دقائق إن فعل، غير أن باتريك لم يغضب، بل ارتسمت على وجهه ابتسامة واسعة.
“لا بأس. في الأصل، كنت منشغلاً بمراقبة الدوق أرزين، لذا لم أكن لأتوقع الكثير. لستِ أول من ينجذب إليه، ولن تكوني الأخيرة.”
“أشكركم على تفهّمكم، يا سمو الأمير.”
“لكن… ما طبيعة العلاقة بينكما؟”
وجّه باتريك سؤاله وهو يحدّق في هيليوس وكأن الموقف قد أثار فضوله، رغم أن السؤال وُجّه إلى فيليا. كانت عيناه تشعان بشك ظاهر، موجّه مباشرة نحو هيليوس.
لكن قبل أن يتمكّن أحدهما من الرد، ظهر نوح واقترب منهم بخطى ثابتة، بعد أن كان قد تبع فيليا بصمت.
تقبّل نوح الموقف المفاجئ بهدوء، وحدّد ما يجب عليه فعله، ثم انحنى بلطف أمام الأمير باتريك موجهًا تحية مهذبة.
كانت حركاته وكلماته متزنة، يغلفها دفء وأناقة. ثم أدار رأسه نحو هيليوس وديون وقال:
“لقد مر وقت طويل.”
عادت الابتسامة الاجتماعية الرقيقة إلى شفتي هيليوس، وقد كانت قد اختفت للحظة.
“سعيد بلقائك مجددًا.”
كان ضوء الظهيرة الربيعي الناضج يغمرهم بلطافة.
تبادلوا حديثًا مهذبًا لعدة دقائق عن أحوال الكونت وزوجته من عائلة كاربان، وعن مشاريع الاستثمار في المناجم التي أصبحت رائجة مؤخرًا، وما يمكن مشاهدته في المعرض اليوم.
وكانت فيليا تهز رأسها بين الحين والآخر بحماسة كلما تكلّم هيليوس، لا يُعلم أكان اهتمامها بالحديث نفسه أم بوجه هيليوس أثناء حديثه.
أما نوح كاربان، فقد كان يراقب فيليا باهتمام، وكلما التقت عيونهما، ابتسم لها بلطف دافئ.
كانت مشاعره واضحة.
حتى رغبته في مغادرة المكان على الفور، لم يكن من الصعب استشعارها. فيليا دو فيير، كل ما أراده هو أن يكون وحده معها.
“لقد سمعت أن ابن الكونت كارڤان معجب بفيليا أيضًا.”
تذكّر هيليوس تلك الكلمات التي قالها له ديون.
هل كانت فيليا دو فيير تدرك مشاعر نوح كارڤان تجاهها؟
سؤال صغير جدًا، يكاد لا يُذكر، لكنه ظل يتردد في ذهنه. وكما هو الحال دومًا، فإن اللحظات التي تتسلل فيها صورة فيليا إلى ذهنه، تنبع من مثل هذه الأشياء التافهة.
بينما كان يركب الخيل، أو يعبر تلال الغابة، أو حين كان يطل من النافذة على الحدائق الكبرى.
حتى عندما وقعت عينه مصادفة على مقالة عن نوح كارڤان.
أحاديث سطحية، لا تحمل معاني كبرى، تسبح في الهواء اللطيف حولهم. حدّق هيليوس في فيليا التي كانت تقف بجانب نواه.
وعندما طال نظره إليها، ابتسمت.
وكأن هيليوس كان كل شيء بالنسبة لها، لم تتجه نظراتها منذ البداية إلا إليه وحده.
رأته فقط، وأرادته فقط.
في ذلك المشهد المتباطئ، تحرّك حنجرة هيليوس بهدوء.
“آنسة فيليا؟”
ناداها نوح، مجذبًا نظرتها التي كانت مركّزة في نقطة واحدة.
“نعم؟ هل قلت شيئًا؟”
“يقولون إن في الجهة اليمنى توجد حديقة نرجس مزيّنة تحت عنوان السماء. يقترحون زيارتها، فهل ترغبين في الذهاب إليها؟”
“فكرة رائعة. دعنا نذهب.”
انحنت برأسها بخفة، وتمايل شريط قبعتها مع خطواتها، وارتسمت ابتسامة هادئة على وجهها وهي تنظر إلى نوح كاربان بجانبها.
ذلك الجانب من وجهها، الذي بدا عليه الرضا، طبع أثره في عيني هيليوس.
لم يستطع هيليوس أن يعلن عن نهاية هذا اللقاء العابر في الوقت المناسب.
ولماذا؟ سؤال لم يكن لديه جواب له.
“حسنًا، سنقوم بجولة في المعرض إذن.”
قال نوح كارڤان وداعًا نيابة عن هيليوس، بينما بدت فيليا مترددة، غير راغبة في الرحيل، واقفة في مكانها بلا حراك.
كانت شفتيها تتحركان وكأنها على وشك أن تقول شيئًا، لكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة، وأغلقت فمها.
“آه! صحيح!”
في تلك اللحظة، بينما كان ديون ينقل بصره بين هيليوس وفيليا، انقضّ فجأة وأمسك نوح كارڤان من معصمه.
“هل لديك ما تودّ قوله لي؟”
رغم أنه فوجئ بهذا التصرف المفاجئ، لم يفقد نوح ابتسامته، وردّ بنبرة هادئة:
“أوه، تذكرت الآن فقط كم كان صاحب السمو يتوق لرؤية اللورد نوح! رأى مؤخرًا خبرًا عن تبرعك لدار الأيتام، وكان لديه بعض الأسئلة التي أراد طرحها عليك. أليس كذلك، باتريك؟”
“…أنا؟”
أجاب باتريك في حيرة ظاهرة، لكن ديون لم يترك له مجالًا للتراجع، إذ قرب بين يديهما وأكد بلهجة حازمة لا تقبل الجدل:
“بالتأكيد. أنت من قال هذا.”
ثم ابتسم ابتسامة خبيثة، ورمق باتريك بإشارة خفيفة بعينيه نحو هيليوس وفيليا، ليفهم مغزى خطته.
“آه… آه، نعم. صحيح. لدي بعض الأمور التي أرغب في مناقشتها معك. إنها مهمة نوعًا ما. هل يمكنك أن تتيح لي بعض الوقت؟”
كان طلبًا لا يمكن رفضه. نظر نوح إلى فيليا بنظرة محرجة قليلاً، وكأنه يطلب منها الإذن بصمت.
“أنا بخير. اذهب، لا تقلق عليّ.”
“حقًا؟ حسنًا، إذن… فقط انتظريني قليلًا، لا أعلم كم سيستغرق الأمر. إن شعرتِ بالملل، خذي معك هيليوس في نزهة قصيرة.”
غمز ديون بعينه لـفيليا، بنية مبيتة لا تخفى.
كان واضحًا أن ديون قد دبّر هذا الأمر عمدًا. ومع ذلك، لم ينبس هيليوس ببنت شفة، بل اكتفى بالنظر إلى نوح كارڤان وهو يبتعد خطوة بخطوة.
يبدو أن نوح كان قلقًا بشأن ترك فيليا وحدها، إذ ظل يلتفت مرارًا خلفه وكأنه يتحقق من أنها بخير.
وفي كل مرة كان يلتفت فيها، كانت فيليا تلوّح له بحيوية بيدها.
هوووش. تمايلت الأغصان بفعل النسيم، وارتجفت الأوراق في الهواء. وصوتها العذب لامس أذن هيليوس الذي كان وجهه لا يحمل أي تعبير.
كان هيليوس أرجين لا يؤمن بالحب. لم يكن يعيش حياته ساذجًا مستهلكًا مشاعره في عواطف لا جدوى منها. لم يكن لذلك مكان في عالمه. وربما لن يكون أبدًا.
لقد ظلّ هذا الاعتقاد ثابتًا في قلبه لسنوات طويلة.
لكن… رغم ذلك، كانت فيليا تُقلقه. تزعجه. كان هناك شيء ما يُثير فيه الحيرة والاضطراب.
وأخيرًا، أدرك لماذا لم يستطع أن يُنهي هذا اللقاء العابر في الوقت المناسب.
“الجو جميل. ما رأيكِ أن نتمشى قليلاً؟”
قال ذلك موجّهًا كلامه إلى فيليا التي كانت تنظر إلى ظهر نوح وهو يبتعد. لم يكن مخططًا أن يقولها. كانت اندفاعًا محضًا.
استدارت فيليا إليه، وقد ارتسمت على وجهها علامات المفاجأة، لكن عينيها العسليتين الخافتتين سرعان ما التمعت فيهما صورة هيليوس أرزين بكل تفاصيله.
“رائع! إن كان الأمر نزهة مع الدوق، فأي مكانٍ سيكون جنة لي!”
لقد فعلتها.
فيليا دو فيير، بكل فخر، حققت أمنيتها.
من كان يصدق أن هذا الانتظار الطويل سيتحوّل إلى حظ لا يُصدّق بهذه الطريقة!
كانت تسير إلى جوار هيليوس خطوة بخطوة، وبالكاد كانت تقوى على كبح ضحكتها المتصاعدة من سعادتها الغامرة.
نظرت إليه، ووجدته ينظر إليها أيضًا. قال لها: فلنمشِ سويًا. خطا إلى جانبها، وسار معها بنفس الإيقاع.
ربما كانت الآن أكثر سعادة من أي مغنية أوبرا تسمع تصفيقًا هادرًا وهتافًا مدويًا خلف الستار بعد عرض ناجح لأول مرة.
ورغم أنها لم تصعد على خشبة مسرح يومًا، فإن فيليا كانت واثقة، واثقة جدًا، بأن السعادة التي تعيشها الآن هي أكثر صدقًا وأثمن من أي شيء آخر.
تجوّلا معًا حول نافورة المياه، ثم قادتهما الخطى إلى حيث شاءت أقدامهما، إلى حديقة تناثرت فيها أزهار الهليوتروب.
في منتصف الحديقة، امتدّ ممر طويل، تعلّق فوقه قماش شفاف أبيض، يرفرف برقة مع نسيم الصيف.
رفعت فيليا رأسها إلى السماء الزرقاء، ثم أمالته نحو زهور الهليوتروب التي تفوح منها رائحة الشوكولاتة، ثم أخيرًا أعادت نظرها إليه، إلى هيليوس.
ظلال أهدابه الطويلة انسدلت على طرفي عينيه المائلتين قليلاً إلى الحمرة. ومن تحتها، كانت حدقتاه السوداوان تحدقان إلى الأمام بثبات.
حتى وهو لا يبتسم… لا يزال جميلًا.
بدهشة متجددة، أدركت فيليا هذا، وفي داخلها قررت أن تسأله السؤال الذي أجّلته منذ لحظة اللقاء.
“هل يمكنني أن أسألك شيئًا كنتُ أتساءل عنه؟”
استدار إليها ببطء، وأشار برفق بذقنه نحوها.
“اسألي.”
“هل ستجيبني… مهما كان سؤالي؟”
“ذلك يعتمد على السؤال.”
“هل أتيت إلى هنا بعد أن قرأت رسالتي؟”
“رسالة؟”
رفع إحدى حاجبيه باستغراب، وردّ عليها بسؤال مضاد. وعندها، أدركت فيليا الحقيقة .. هيليوس لم يقرأ الرسالة.
شعرت ببهجة خافتة لأن هذا اللقاء الرومانسي جاء عن طريق الصدفة لا الترتيب. لكنّ عينيها، اللتين ارتسمت عليهما ابتسامة هلالية، ما لبثتا أن ذبلتا بخيبة ظاهرة.
أيعقل أنه لم يقرأ أيًا من الرسائل التي كنت أرسلها طوال الفترة الماضية؟
كان سؤالًا خنق صدرها، لكنها لم تستطع النطق به.
تسلّقت ذات مرة أعلى شجرة ضخمة في غابة بريتشين دون تردد، لكنها مع هيليوس باتت تتردد في أشياء كثيرة، أشياء لم تكن تخشاها من قبل. لذا لم تسأله. وكانت خائفة قليلًا مما قد يقوله.
“في الحقيقة، كنت أرغب في المجيء إلى معرض كوتسيل للبستنة معك، فكتبت ذلك في الرسالة.”
“حقًا؟ لم أَرَها.”
خرج صوته هادئًا، عذبًا، كأحد الزهور المتمايلة، لكنه لم يحمل أي أسف أو ندم. لا في نبرة كلامه، ولا في نظراته.
“…كنت أعلم أنك قد تكون مشغولًا. لذلك، حين لم أتلقَ ردًا، قلت في نفسي إن الأمر بسبب انشغالك.”
لكننا التقينا الآن، وهذا ما يهم. همست فيليا بذلك لنفسها، وكأنها تحاول أن تربّت على قلبها المتردد.
لو كان قد أجابها برسالة يخبرها فيها أنه سيأتي، ربما كانت ستقضي الليلة بأكملها دون نوم من شدة الحماسة. ولكن، لو أتى في اليوم التالي برسالة اعتذار تخبرها أنه لن يستطيع المجيء؟ ماذا كانت لتفعل؟
ربما من حسن الحظ أنها نجت من ذلك السيناريو الأسوأ.
فليس دائمًا ما تجلب الحظوظ السعيدة حظوظًا أخرى مثلها. وليس دائمًا ما تؤدي النحوس إلى نهايات حزينة. أحيانًا، يُفضي ما لا يُتوقّع إلى نتائج أكثر إشراقًا.
وها هو هذا اللقاء دليل حي على ذلك.
حين وصلت فيليا إلى هذه القناعة، عادت الابتسامة لترتسم على وجهها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات