كانت أشعة الشمس تتراقص على وجه فيليا، تتسلل إليه ببطء من بين الأوراق، مرسومة بنقوش مختلفة، كأنها تتأمله. النسيم الذي مرّ عبر الغابة حمل معه عبق البلسم الطازج، ففاح في الجو بثقلٍ محبّب.
“لم يصل أي رد؟ واضح إنه رفض صريح، حتى الأعمى يقدر ان يرى ذلك.”
“أعرف… أعلم ذلك. فكرة ذهابي إلى معرض البستنة مع الدوق أصبحت الآن حلمًا بعيد المنال.”
مرت عدة أيام منذ أن أرسلت فيليا رسالتها إلى وينستل. ومثل كل مرة، كانت تعرف أن كلما اشتد التوق، ازداد احتمال الخيبة.
جثت على الأرض بحزن، تستخدم غصنًا صغيرًا التقطته من الطريق الترابي لتحرّك به مياه الجدول أمامها. الضوء المنعكس على صفحة الماء الهادئة تراقص كأنه يواسيها برقة.
“هذا غير صحيح! كنت حاضرًا عندما قالا لي أن أفعل ما أراه صائبًا.”
تنهد إيفان بعمق، ثم هز رأسه كمن يحاول أن يتخلّص من عبث التمنّي.
“فيليا، هل سمعتِ هذه القصة من قبل؟”
“أي قصة؟”
“عن فتاة من عائلة نبيلة وقعت في حب شخص لا يناسبها أبدًا، فاقترح والداها أن يواعداه سنة واحدة فقط.”
“هذه أول مرة أسمع بها! كأنك تتحدث عن بطلة رواية لإيبينيل! وكيف انتهى الأمر؟ بالتأكيد زاد حبهما عمقًا خلال السنة، وربما وافق الوالدان أخيرًا. وإن لم يفعلوا، ربما خطط الاثنان للهرب سويًا!”
“هرب؟ لا تقولي كلامًا كهذا! إنه أمر غير مسؤول، لا… لا يهم. السؤال هو: كيف ترين أنتِ هذا الوضع؟”
“بالطبع أراه جميلًا! لقد نالا حبهما في النهاية، وهذا ما يهم.”
“فكري جيدًا، فيليا. لم يكن لهما مستقبل. كان حبًا مؤقتًا، نهايته محددة منذ البداية.”
“لماذا؟”
سألت فيليا وقد بدت وكأنها دخلت دور البطلة، تسأل بيأس حارق.
“لأنهما اتفقا على عام فقط، وبعده ينتهي كل شيء. والداها لم يخططا يومًا لمنحهما مهرًا أو دعما حقيقيًا. كانا يعلمان أن أي حب، مهما بلغ، سيبرد بعد مدة.”
“هذا محزن للغاية. قانون الحب الأبدي لم ينطبق عليهما إذًا…”
“فيليا، هذا هو حالك الآن. والداكِ على الأرجح يفكران كما فكر هذان الوالدان. آه، صحيح… هناك فرق بسيط بينك وبين تلك الفتاة.”
“ما هو؟”
“هي كانت في علاقة متبادلة. أما أنتِ… فتُحبين من طرف واحد. وربما حبك سينطفئ أسرع.”
ها قد بدأت القصة تصبح مسلية له فجأة…
“إيفان، يبدو أنك لا تعرف بعد، لكن هناك فرقًا آخر. أنا… مشاعري يمكن أن تبقى إلى الأبد.”
قالتها فيليا بثقة، قبل أن تستدير وتمضي. كان إيفان أركاس مزعجًا أكثر من المعتاد هذا اليوم، لكنه لم يتوقف عن السير خلفها، مستمرًا في تعليقاته.
بدأ في تحليل أسباب عدم ردّ الدوق على دعوتها، واستنتجاته كلها كانت سلبية. وكأنه يخطّ رواية عن سبب استحالة أن يجتمع هيليوس أرچن وفيليا دوڤيير.
توقفت فيليا فجأة، استدارت بسرعة كادت أن تصطدم بإيفان، لكنه تراجع بخفة واضعًا يديه خلف ظهره.
“ما زال هناك وقت حتى موعد معرض البستنة. سأنتظر.”
أوراق خضراء كانت ترفرف فوق رأسها وهي تتحدث بعزم. وبينما همّ إيفان بالكلام، ضيّقت فيليا عينيها ومدّت يدها لتضعها مباشرة على فمه.
“لا تقل شيئًا. حتى تنهيدة كهذه—”هاه…”—المليئة بالأسى، ممنوعة تمامًا!”
*** في مشهد آخر…
“أتعلم؟ سمعت شيئًا في إحدى المناسبات الاجتماعية. يبدو أن السيدة كارڤان تضع فيليا تحت نظرها.”
كان هيليوس شبه ممدد على كرسي طويل مريح، أغمض عينيه كمن يستسلم لأفكاره، ثم بدأ يفتحهما ببطء…
“تحت نظرها؟”
كانت أشعة شمس الربيع التي تسللت عبر النافذة تطعن العين بضوئها الساطع. هيليوس، وقد رفع حاجبًا باستخفاف، حدّق إلى ديون.
“نعم، تراقبها عن كثب. تريد ان تأخذ فيليا ككنة لها. ألا تظن أن نوحيا السيدة كارڤان باتت واضحة؟”
حسنًا، فهي الابنة الوحيدة لكونت دو فيير، وستكون بالتأكيد عروسًا مرغوبة ليس فقط لعائلة كارڤان، بل لأي عائلة أخرى.
لكن، هل تستطيع السيدة كارڤان أن تحتوي رومانسية تلك الفتاة؟ هذا ما لا يستطيع تأكيده أحد.
فيليا دو كارڤان… اسم لا يليق بها أبدًا. لا يتناغم معها إطلاقًا.
مرّت نسمة ربيعية دافئة على أطراف أصابع هيليوس. تمطّى بتكاسل، يمد جسده في حركات مترفة، وهو ينهض ببطء. كان الجو من حوله مغمورًا بذلك الكسل الهادئ الذي يتبع الراحة الطويلة.
“هيليوس، هل ستظل مرتاحا هكذا؟ لا تفترض أن قلب الآنسة فيليا سيدوم إلى الأبد. الحب يمكن أن يتغير في أي لحظة. وفوق ذلك…”
“سمعت أن ابن الكونت كارڤان أيضًا مهتم بفيليا. يقولون إنه وسيمٌ جدًّا. فهل أنت بخير مع ذلك؟”
أي كلام سخيف هذا؟ قاله وكأنه يروي أعظم اكتشاف، وجهه مملوء بتوقعٍ طفولي.
دفعه هيليوس بلطف بعيدًا عن وجهه، وعلى شفتيه ابتسامة هادئة.
“وهل هناك سبب يجعلني لست بخير؟”
“كنت آمل أنك لست بخير. سيكون الوضع أكثر متعةً بهذه الطريقة.”
تنهد ديون بخيبة، ثم أدار ظهره وعاد أدراجه. وبعد لحظات، سُمع صوت الباب وهو يُغلق.
بغياب ديون، عاد السكون ليسكن الغرفة.
نهض هيليوس من مجلسه ببطء واتجه نحو النافذة، ثم تحرك إلى مكتبه وجلس. أمامه كانت التقارير المصفوفة والمنظمة حسب البنود التي عليه مراجعتها قبل نهاية اليوم.
مد يده ليمسك بأحدها، لكنه توقف فجأة، عندما وقعت عيناه على مظروف أبيض.
كانت تلك رسالة من فيليا دو دو فيير، أرسلتها بعد عودتها إلى بريتشين.
لم يكن قد نسي الرسالة، لكنه لم يفتحها. ظلت راقدة على سطح مكتبه طويلًا، وكلما مرّ بها، كان يتجاهلها عمدًا.
صحيح، كان مشغولًا كثيرًا. يمكن أن يُعدّ هذا عذرًا مقبولًا.
لكن الحقيقة؟ لم يكن مشغولًا لدرجة لا تسمح له بقراءة رسالة واحدة.
إذًا، لماذا لم يقرأها؟
كان بإمكانه ببساطة أن يفتح رسالة فيليا دو دو فيير كالمعتاد، ويضحك على يومياتها الممتعة، ويكمل يومه.
مدّ يده نحو المظروف وأمسكه برفق، ثم نقر حافته بلطف على سطح المكتب.
ربما لأنه كان يظن أنه إن قرأها، فسيظل يفكر بها أكثر.
ولذلك لم يقرأها. بهذه البساطة.
“فيليا دو فيير”
نظر إلى الاسم المكتوب أسفل المظروف بصمت، ثم وضع الرسالة غير المفتوحة داخل درج مكتبه.
***
في المقابل…
عَبَرت نسائم لطيفة من النافذة المفتوحة، تحمل معها عطرًا أخضرَ ناعمًا.
كانت فيليا واقفة تحت شجرة عتيقة ضخمة، قبالة مقهى له شرفة على الطريق، تدير مظلتها الصغيرة بين أصابعها في حركات دائرية.
كان ظل الشجرة المنبسط عند قدميها عميقًا كعبق زهور الزنبق البنفسجي المتفتحة في حديقة المقهى.
كان هذا أول خروجاتها منذ وقت طويل. بعد أن تظاهرت بالمرض وأقامت مدة طويلة في وينستل، مُنعت من مغادرة بريتشين لأسابيع.
وفي غضون ذلك، ازدهر الربيع أكثر، وصارت ملابس الناس أخف وأكثر بهجة.
أوراق الأشجار الفتية، المصبوغة بلون أخضر ناعم، أصبحت أكثر نضجًا تحت أشعة الشمس الساطعة، بينما أزهرت شوارع دو فيير في وقت مبكر بأنوحع مختلفة من الزهور.
وقفت فيليا تتأمل الناس وهم يستمتعون بالربيع، وعيناها تتجهان بين الحين والآخر إلى السماء الصافية، تراقب سُحبًا بيضاء رقيقة تنجرف ببطء.
نسيم لطيف مرّ على خدها، يربّت عليه برفق.
“خبر عاجل! خبر عاجل! العلماء يتوقعون تأثير ظاهرة الاحتباس الحراري! خبر عاجل!”
رنّ جرس دراجة، وتعالت معه صيحة صبي يحمل مجموعة من الصحف.
فيليا رفعت رأسها.
في تلك اللحظة تمامًا، شعرَت بمن يربّت على كتفها بخفة.
“آنسة فيليا.”
رجل طويل القامة، ذو ملامح رقيقة، كان ينظر إليها من علٍ ويبتسم بلطف.
نظرت فيليا إلى عينيه الخضراوين، وعرفت فورًا من هو.
نوح كارڤان.
السبب الذي جعلها تخرج اليوم إلى شوارع دو فيير.
“هذه أول… لا، ثاني مرة نلتقي فيها، أليس كذلك؟”
قالت فيليا، تطرف بعينيها وقد وقفت ثابتة في مكانها. ظل الشجرة العتيقة تمايل بهدوء فوق وجه نوح.
“صحيح. هي المرة الثانية لنا.”
حتى صوته كان ناعمًا، كهواء هذا اليوم المعتدل.
“لكن أظن أن المرة الأولى كانت قوية الأثر، ربما لأنني دست على قدمك وقتها؟ أشعر كأننا نعرف بعضنا منذ زمن.”
“وأنا كذلك. وعلى أي حال… أنت لم تتغير على الإطلاق، يا آنسة فيليا.”
“لم تمضِ فترة طويلة تسمح بتكوّن تجاعيد في وجهي.”
ضحك نوح بخفة، مائلًا برأسه موافقًا.
“صحيح. لكن، آنسة فيليا، أتعلمين؟ هذا ليس المكان الذي يجب ان نأتي إليه.”
“ما الذي تقصده؟”
“أقصد مكان لقائنا. لم يكن هذا المقهى ذو الشرفة، بل ذلك الذي افتُتح حديثًا بجانب نهر فومويل.”
اتسعت عينا فيليا بدهشة وهي تدرك هذه المعلومة الجديدة. آه، هكذا إذًا…! لا عجب أنها وصلت متأخرة عن الموعد المحدد! والآن بعد أن عرفت، بدا لها أنها هي المخطئة في الحقيقة، لا هو.
“فيليا، ذلك الرجل… أقصد اللورد نوح، قال إنه سيلتقيك أمام مقهى الشرفة الذي فيه شجرة ضخمة. احفظي هذا جيدًا، مقهى الشرفة بشجرة ضخمة. وإن ذهبت بالعربة وانتظرتِ نصف ساعة ولم يأتِ، فعُودي فورًا.”
لم تكن فيليا تعلم أن والدها، الكونت دو فيير، لا يُطيق دوق أرچين، لكنه أيضًا لا يثق في نوح كارڤان رغم وضوح مشاعره نحوها. لم يكن بوسعها تخيّل أن كل هذا كان جزءًا من مخطط محكم حبكه والدها بدقة متناهية.
“كنت أنوي الانتظار لساعة على الأقل…” قالتها فيليا وهي تخفض رأسها، بنبرة تحمل بعض الندم، “لكن تبيّن أن الخطأ كان خطئي. ظننت أنه حصل لك أمرٌ ما في الطريق… أعتذر.”
“أخطاء من هذا النوع تحدث كثيرًا، لا بأس بها.”
“لكن… كيف عرفتَ أنني هنا؟”
“تجوّلت في كل مقاهي الشرفة الموجودة في دو فيير.”
قال نوح ذلك وكأنه يصف نزهة هادئة في الغابة. ضوء الشمس، المتسلل ما بين الأوراق، انعكس على شعره الذهبي فأضاءه كأشعة العصر الدافئة.
وقفت فيليا تحدق به، تعدّ في ذهنها عدد مقاهي الشرفة المنتشرة في شوارع دو فيير. ثم سألت، مذهولة، وقد بدا عليها أنها لم تصدّق ما سمعته:
“كلها؟”
“نعم، جميعها.”
أومأ برأسه بخفة، ثم نظر إليها بعينين صافيتين وقال بثبات:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات