قيل إن الجرح قد تعفّن حتى بات في حالة تستدعي احتمال بتر الساق. وإن كان الأسوأ قد تمّ تفاديه، إلا أن الوضع لا يزال خطيرًا.
وأضاف الطبيب، وكأنه يبرّر، أنه لم يكن لديه خيار سوى لقاء الطبيب المشرف على حالتها فقط.
هيليوس، رغم فداحة الخبر، بدا هادئًا… وكأن شيئًا لم يحدث.
الذنب، الشفقة، ذلك النوع من المشاعر، ما لم تُظهِرها بوضوح، تُخفى بسهولة. وفي أحيان كثيرة، كان يجد نفسه قد نسيها تمامًا لمجرد أنه لم يفكر بها.
“قالت إنها بخير، وأنها قادرة على تحمّل الألم.”
كلمات كهذه، حين يسمعها فجأة، تثير في داخله شيئًا مزعجًا… لا يدري إن كان غضبًا أم نفورًا، لكنه حتمًا لا يُسرّ بها.
رفع يده إلى جبهته، فقد لازمته الصداع منذ ساعات الصباح الأولى.
“هيليوس، لا تلُم نفسك… أنا لا أريد ذلك.”
لكن هل حقًا لا تريدين؟ وهل حقًا أنا قادر على ألا ألوم نفسي؟
هبّت نسمة خفيفة بعثرت خصلات شعره التي صفّفها بعناية، فمدّ يده وأعادها إلى مكانها، بينما ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة، مريرة، تقترب من السخرية.
“سيدي الدوق!”
نداء صافٍ، كأن نسيمًا نقيًا هبّ في الأفق، قطعه فجأة.
استدار هيليوس على الفور نحو الصوت، كان واقفًا بجوار تمثال رخامي وسط الحديقة.
تحت السماء المسائية التي بدأ القمر يشقّها، وقفت فيليا دو فيير ساكنة، تنظر إليه بثبات.
وما إن التقت نظراتهما، حتى رفعت يدها تلوّح وابتسمت بخفة.
اقتربت منه بخطوات سريعة، خفيفة، أشبه بالركض، ثم رفعت بصرها إلى وجهه وسألته:
“ماذا كنت تفعل هنا؟”
لم تكن الجملة تحمل شيئًا مميزًا، مجرد سؤال عابر… لكنه جاء بعد صمت طويل.
رفع هيليوس نظره إلى السماء، حيث بدأت النجوم تُطلّ، ثم خفضه نحوها مجددًا.
“أنا مَن يجب أن يسأل. ما الذي أتى بك في هذا الوقت؟”
“آه، هذا…”
رفعت يديها وأخرجت شيئًا صغيرًا.
“أردت أن أسلّمك هذا!”
“…منديل؟”
“السيدة ريفييل طلبت مني أن أوصله إليك. مطرّز بطريقة جميلة، أليس كذلك؟”
كما قالت، كان المنديل أنيقًا، مرقّشًا بزهور الأقحوان الصغيرة. زهور الديزي المطرّزة عليه كانت رمزية في حد ذاتها.
أخذ هيليوس المنديل وهو يشعر أنه لا يخصه.
“أظن أن والدتك تُعجبها فيليا كثيرًا.”
كان من السهل فهم نوايا ريفييل أرجين: تلك الزهور الزاهية، كانت دعوة للّقاء، ورسالة تقول: التقِ بها أكثر.
“حقًا؟ إن كان كذلك، فهذا يسعدني. لكن… كيف عرفت؟”
“من يدري.”
أجاب بإيجاز، وهو يطوي المنديل ويضعه داخل معطفه، ثم استدار وأخذ يمشي.
“دعني أرافقك!”
قالتها فيليا وبدأت تمشي خلفه. خطاه الطويلة جعلتها تضطر للسير بخطوتين مقابل كل خطوة منه.
“سأخبرها أنكِ أوصلته، فعودي لتنجزي ما لديكِ.”
قالها بنبرة ناعمة، لكن بعينين لا تنظران إليها.
صوته كان لطيفًا، لكن تصرّفه كان باردًا.
“في الحقيقة…”
كانت فيليا تلعب بأصابع يديها، تحاول أن تمنع ارتجافها، ثم تمسّكت بطرف معطفه بخفة.
“أنا… سأرحل غدًا. أردت فقط أن أودّعك.”
ستعود وينستل إلى هدوئه المعتاد. وقف هيليوس، وقد استقرت تلك الفكرة في ذهنه.
خدّاها متوردان ككفيّ طفل، وشفتيها الزهرية ينساب من بينهما بخار أبيض من البرد. لكن عيناها، البنيتان، الدافئتان، لم ترتجفا.
عينان تطلّان عليه دائمًا بذلك البريق نفسه. فرحٌ مشبع، وشغف، كما لو أنها كلما رأته، امتلأ قلبها أكثر.
لم يُعطها شيئًا قط، فلماذا تنظر إليه هكذا؟
“أتمنى لكِ طريقًا آمنًا.”
قالها بكلمات مقتضبة.
لكن فيليا تشبثت أكثر بطرف معطفه.
“في الحقيقة… لا أريد العودة. أعني، أفتقد والديّ، لكن…”
“لكن أنت وحدك موجود هنا، في وينستل.”
ربما كانت تلك المرة الثالثة والعشرين التي تعترف فيها بشعورها.
لم يعد هيليوس قادرًا على إحصائها.
ابتسم… تلك الابتسامة ذاتها. ناعمة، مهذبة، لكنها تنأى.
ابتسامة دافئة من الخارج، باردة من الداخل.
ومع ذلك، تبعته فيليا.
خطواتها فوق الحشائش الجافة أصدرت صوتًا خفيفًا: خَشْخَشة…
اختلطت بأصوات الريح التي تمر بين أغصان أشجار التنوب، وامتزجت مع وقع خطاهما السائرة سويًا، في صمتٍ، عبر الحديقة.
كانت فيليا تتبعه كما تفعل دائمًا.
لكن هذه المرة، لم تنطق بكلمة.
لم تطلب شيئًا.
لم تسأله شيئًا.
كانت فقط… تمشي إلى جواره.
حين خفض هيليوس نظره، وهو عاجز عن سبر أغوار مشاعره، التقت عيناه بعينيها.
“هل تعلم شيئًا؟”
قالتها فيليا بهدوء، وهي تراقب ملامحه بدقة، ثم رفعت يدها لتُبعد خصلة من شعرها المتطاير خلف أذنها.
“يقولون إن الإنسان لا يمكنه أن يكون سعيدًا في كل لحظة، لكنني… عندما أكون معك، أكون سعيدة في كل لحظة بلا استثناء. حتى في لحظات الحزن، أشعر أنني أستطيع تقبّله كجزء من سعادتي. وأتمنى أن تشعر بهذا أيضًا حين تكون معي. لكنني أعلم أن هذا مستحيل الآن… لذا، سأشاركك سعادتي. خذ منها ما شئت.”
تُشاركني سعادتها؟
هو لم يفهم تمامًا ما كانت تعنيه، لكنه كان متأكدًا أنها كلمات غير واقعية، لا يمكن تصديقها. ومع ذلك، حين ابتسم ساخرًا من ذلك الرومانس غير المعقول، تبعته فيليا بابتسامة ناعمة.
وفي تلك اللحظة، ذابت الأفكار المكدّرة التي كانت تعصف برأسه كثلوج شتوية تذوب ببطء تحت دفء شمس مارس.
كان صوت تمايل أغصان التنوب المحيطة بالغابة هو الوحيد الذي بقي واضحًا في الأجواء.
هيليوس وجد نفسه، لأي سبب كان، يبتسم وهو أمامها.
يا لها من فتاة غريبة… ربما لهذا السبب بدا له غريبًا أيضًا أن يكون واقفًا معها الآن، يمشيان معًا في هذا المساء الموحش.
ثم، فجأة، هبّت نسمة باردة، قوية نوعًا ما، ففصلت بينهما.
لكن فيليا، بدل أن تتراجع، تقدّمت فجأة، وقفت أمامه مباشرة، وبدأت تفكّ الوشاح الأحمر الذي كانت قد لفّته بإحكام حول عنقها.
ذلك الوشاح الأحمر الذي أعطاها إياه بنفسه في ممر الأشجار المغطى بالصقيع.
“ماذا تفعلين؟”
قالها بدهشة، وهو يراها تقف على أطراف قدميها وتبدأ بلفّ الوشاح حول عنقه—ببطء، وبطريقة غير متقنة، لكن بكل عناية.
كان الوشاح لا يزال دافئًا، ملمسه من صوف ناعم، يحمل دفئها الذي لم يبرد بعد.
كانت السماء تزداد قتامة، والنجوم تتلألأ واحدة تلو الأخرى، تُنير الحديقة الكبرى بنورها الخافت.
“بما أن هذا الوشاح أنت من أهداني إياه، فهو في الأصل يخصّك. لذا، أُعيده إليك. ليبقيك دافئًا طوال الشتاء القادم، حين لا أكون هنا. ولا، لا أطلب منك أن تفكر بي عندما ترتديه. هذه المرة… أقولها بصدق.”
ارتفعت عينا هيليوس إلى أطراف أصابعها المحمرّة من البرد، وقد لمحت بصره للحظة.
لم يكن يفهم طريقة حبها.
لم يكن ذلك منطقيًا.
وربما لهذا السبب، كان هذا المساء أشد غموضًا من أي وقت مضى.
نسيم هادئ، لطيف كنسمة ربيع مبكرة، مرّ بهما بلطف…
***
ثلاثة أسابيع من الذكريات التي عاشتها فيليا في وينستل، كانت كافية لتجعل قلبها يرفرف كلما استعادتها.
لقاؤها المصادف مع هيليوس أرجين على تلة الغابة… العشاء الرسمي حين تبادلا النظرات والكلمات بين الصحون الفضية… وذلك المساء حين لفت وشاحها حول عنقه في الحديقة الكبرى.
أيام، كأنها من نسيج الحلم، كانت تُعيدها مرارًا وتكرارًا في ذهنها، في كل صباح ومساء، منذ عودتها إلى بيريشن.
خلال ذلك، كانت الخضرة تزداد كثافة في حدائق بيريشن. الخدم ينظفون آثار الشتاء من المداخن، ويكنسون الغبار والسخام، في انتظار مواسم الأزهار. الأرضيات تلمع أكثر من المعتاد بفعل دفء الشمس التي أخذت تخترق النوافذ. والستائر، وأغطية الأسرة، والوسائد—كل شيء تمّ استبداله بأقمشة فاتحة ومبهجة.
غرفتها كانت غارقة في النور.
جلست فيليا أمام النافذة، تكتب رسالة إلى هيليوس بخط يدوي أنيق. الستائر البيضاء المصنوعة من قماش الموسلين كانت تتراقص برقة في النسيم.
خارج النافذة، بين براعم أزهار الكرز المتفتحة، ظهرت السماء بلونها الأزرق الصافي، وكانت أشعة الشمس الذهبية تنسج خيوطها بين الأوراق الفتية.
كان الربيع قد بدأ بالفعل.
مدّت فيليا يدها، كما لو أنها تلتقط حزمة من النور.
هل هذا الارتجاف في قلبي سببه دفء الجو، أم أن الربيع يحرّك شيئًا بداخلي؟
“لو كنت أستطيع الذهاب إلى معرض الزهور مع الدوق اليوم… كم سيكون ذلك جميلًا.”
أن تمشي بجانبه، تستنشق رائحة الأزهار المنعشة، وتتبادل معه النظرات والضحك تحت شمس الربيع… حتى مجرد تخيّله جعل قلبها ينبض بقوة.
كان معرض كوتشيل للزهور على وشك البدء، وهو الحدث الأهم في مملكة إيرنيل بأسرها.
وكان بداية لموسم المناسبات الاجتماعية، تتبعه بطولات الصيد والتنس، ورحلات نهر فامويل الشهيرة.
أرادت أن تبدأ الربيع مع هيليوس.
كانت عيناها، وهما تطالعان الرسالة، تحويان وهجًا واضحًا، يشبه تلك النظرة في عيني فتاة واقعة في الحب للمرة الأولى.
عادت تمسك بالقلم، وأرادت أن تضيف جملة أخيرة في الرسالة:
“هل ترغب في الذهاب معي إلى معرض الزهور؟”
صوت سن القلم على الورق تمازج مع زقزقة الطيور خارج النافذة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات