وُضِع أمام فيليا كوبٌ من الكاكاو الدافئ، الذي تخلل بخاره البطيء أجواء الصباح الهادئة. وما إن ارتشفت منه رشفة صغيرة، حتى سرت دفعة من الدفء الناعم في جسدها، كأن حرارة الكوب انعكست مباشرة إلى أعماقها.
كان ذلك صباحًا من تلك الصباحات الكسولة بعد الإفطار، حيث ينشغل كل فرد في القصر بوقته الخاص. الهواء الثقيل بلذة النعاس ملأ أرجاء قاعة الجلوس، وأضفى على المكان سكينة بطيئة.
جلست كلونيت أرجين إلى جانب فيليا، بالقرب من المدفأة، يتشاركان الدفء، وتقلب بين يديها كتابًا قديمًا بعنوان “صباحات أرييل”، كانت قد أخرجته للتو من مكتبة القصر بعد زمن طويل.
كان الصوت الناعم لصفحات الكتاب وهي تتقلب ببطء يتناغم مع طقطقة الخشب المتوهج في المدفأة، بينما كانت نيران الصيف الماضي تُودّع بأصوات مشتعلة هادئة.
“ألا يبدو قديماً ومتهالكاً؟”
قالت كلونيت وهي تمرر بأصابعها فوق البقعة المصفرّة التي تلطخ الزاوية الأخيرة من الصفحة، وكأنها أثر من آثار الزمن ذاته.
وضعت فيليا كوبها بلطف، وحدقت إلى البقعة باهتمامٍ جادّ.
“بلى، لكنه جميل بهذه الطريقة. أنا أحب الأشياء التي تحمل آثار الزمن. لو كان هذا الكتاب نسخةً أولى ناصعة البياض لم يمسها أحد من قبل، لما شعرت نحوه بهذا القدر من العاطفة.”
ابتسمت كلونيت بإعجاب صادق.
“صحيح. لا أحد يتذكر شبابه حين يرى شيئًا جديدًا تمامًا. الأشياء التي نحبها حقًا دائمًا ما تحوي على خللٍ صغيرٍ هنا أو هناك.”
ثم اقتربت من فيليا، ونظرت باتجاه الكنة البعيدة في الجهة المقابلة من الغرفة، والتي كانت منشغلة بالتطريز، وهمست في أذن فيليا بنبرة مليئة بالسر.
“في الواقع، هذه البقعة ليست نتيجة تقادم الزمن فحسب… لقد ظهرت حين دخلت والدتي فجأة إلى الغرفة، واضطررتُ إلى إخفاء الكتاب على عجل، فانسكب كوب الكاكاو. كانت تكره الكتب التي تتحدث عن الحب. لكن، بفضل تلك الحادثة، أحبه أكثر.”
ضحكت فيليا بعينين تتأملان أثر تلك اللحظة القديمة.
“إذًا فهذه البقعة أصبحت شريط ذاكرة، تركته تلك الفتاة في غير قصد. من كان ليظن أن يومًا ما، شخصًا ما سيتأملها ويسترجع لحظة من حياته القديمة؟”
ضحكت كلونيت، فتجمعت التجاعيد الرقيقة حول عينيها.
“انسكاب الكاكاو على كتاب أحبه؟ كان ذلك في حينه مأساة حقيقية.”
واستمر الحديث بينهما، يتنقل من موضوع إلى آخر، حتى فرغ كوب فيليا بالكامل. وحين انتهى حديث الكتب، راحت فيليا تطلب من كلونيت أن تحكي عن أيام شبابها.
أغلقت كلونيت الكتاب الأوليّ، وخلعت نظّارتها ذات الإطار الذهبي، ووضعتها فوق الغلاف بعناية. ثم، استجابة لرغبة فيليا، بدأت تسرد من أعماق ذاكرتها، أحداثًا نفضت الغبار عن أزمنة بعيدة.
حكت عن المعرض الكبير الذي زارته من أجل الحصول على منشورات وبطاقات بريدية تذكارية، وانتهى بها الأمر تائهة في الزحام… وعن يومٍ صيفيّ حار، حيث تبللت ثيابها بالعرق وهي تتابع مباراة كريكيت… وعن مغامرتها على نهر “فامويل”، يوم التقت دوق أرجين لأول مرة، وكيف نشب بينهم جدال صغير لم يُنسَ.
قصص لم يكن ليتصور أحد أنها مرت على سيدة نبيلة ذات مقام، لكن كلونيت روتها بصوت ناعم، بنبرة شاعرية تشبه إلقاء القصائد.
شعرها الفضيّ ويديها النحيلتين المطويتين فوق ركبتيها كانا شاهدين على عمرٍ مديد، لكن فيليا استطاعت أن ترى بكل وضوح أن روح الفتاة التي كانتها لا تزال تعيش بداخلها.
كانت عيناها اللامعتان أثناء الحديث تشهدان على ذلك.
“جدّتي، تبدو طفولتُك وكأنها كانت جميلة حقًا.”
“لم تكن كطفولة البعض، لكن لا بأس… قضيتُ أوقاتًا ممتعة، هذا مؤكد.”
تأملت فيليا ملامح جدّتها الغارقة في ضوء الشمس المنسكب من النافذة، وعيناها الداكنتان وقد ازدادتا دفئًا في الضوء الذهبي.
لو أنها وُلدت في تلك الحقبة، لربما كانت ستكون صديقتها المقربة… ربما كانتا ستجلسان تحت شجرة ضخمة، تفرشان حصيرة قشّ، وتثرثران لساعات طويلة بلا ملل.
“أليس لديكِ فضولٌ آخر؟ من الممتع الحديث بهذه الطريقة.”
“فضول؟ همم… هل ستجيبين عن أي شيء؟”
“بكل تأكيد.”
“قلتِ سابقًا إنكِ التقيتِ بدوق أرجين أثناء جولة في النهر، صحيح؟”
“أجل، قلتُ ذلك.”
مالت فيليا قليلًا إلى الأمام، وسألت بصوت خافت فيه لمحة من الحذر:
“كيف استطعتِ أن تكسبي قلبه؟”
“كسبي لقلبه؟”
ابتسمت كلونيت ابتسامة واثقة، ممزوجة بمكر لطيف.
“لم أكن أنا من كسب قلبه… بل هو الذي وقع فيه.”
ثم أدارت رأسها ببطء، ونظرت إلى جدار معين. وتبعًا لذلك، تحولت أنظار فيليا إلى الاتجاه ذاته.
كان الحائط مزدانًا بلوحات زيتية، رسمها أحد كبار فناني ذلك العصر، تجسّد وجوه دوقات أرجين عبر الأجيال.
لكن عيني كلٍّ منهما استقرتا في موضع مختلف.
فيليا، دون أن تدري، كانت تحدّق في الصورة المعلقة على الطرف الأيسر… صورة تختلف عن البقية.
رغم التشابه العام بين أولئك الرجال في الهيبة والملامح، كان هو مختلفًا.
كانت ابتسامته مرسومة بوضوح، ابتسامة آسرة شدت قلب فيليا على الفور.
ذلك الفارق البسيط، تلك الابتسامة، كانت ما يميّز هيليوس أرجين عن باقي أسلافه ذوي الوجوه الجامدة.
ورغم أن هذا يُعد خيانة رمزية لمشاعر الجدّة، لم تستطع فيليا إلا أن تعترف في داخلها: لم يكن هناك دوق من قبل يبدو بهذا الجمال والروعة.
في عينيها، كان هيليوس وحده مَن يلمع.
ربما لأن ضوء الشمس سقط عليه بانحياز؟ لكنها قررت ألا تفكر كثيرًا في السبب.
“كان صموتًا، لكن قلبه دافئ أكثر من أي شخص آخر. لا يشبه هيليوس على الإطلاق، أليس كذلك؟”
“لكن دوق أرجين الحالي… يبدو لي طيبًا من الداخل والخارج معًا. لهذا… لا أعرف كيف يمكنني أن أجيبكِ.”
عندما التقطت ريفييل أرجين كلمات فيليا خلسةً، رفعت عينيها عن قطعة التطريز وارتسمت على شفتيها ابتسامة راضية.
أما كلونيت أرجين، التي التقت عيناها بعيني ريفييل، فلم يكن رد فعلها مختلفًا كثيرًا. غير أن فيليا، وسط كل تلك النظرات المرسلة والمستترة، لم تكن تدرك أنها أصبحت محور الاهتمام.
كانت مشغولة كليًّا بحلمٍ غير واقعي.
كم سيكون رائعًا لو استطعت أخذ صورة دوق أرجين إلى بيريشن!
فكرةٌ غير قابلة للتحقيق، ومع ذلك استحوذت على تفكيرها بالكامل.
وفي خضم تبادل النظرات الخفية بين سيدات آل أرجين، انتفضت فيليا من مقعدها فجأة.
صحيح، هذا هو وينستل!
إذا كان من الصعب حمل لوحة الدوق معها إلى بيريشن، فبإمكانها أن تُشبِع نظرها منه هنا، قبل العودة!
“أعتذر حقًا، لكن أعتقد أنه يجب أن أذهب الآن!”
“أهناك أمرٌ طارئ، يا فيليا؟”
“فجأة… اشتقتُ لرؤية سيدي الدوق!”
رمشت فيليا بعينيها الكبيرتين، وكأنها بريئة تمامًا من كل نية مبيتة. وفقط في تلك اللحظة، انمحت علامات الحيرة من على وجه كلونيت أرجين.
“حسنًا، اذهبي إذًا.”
“سأعود لزيارتكن لاحقًا!”
استدارت فيليا مسرعةً، وخطواتها الخفيفة جعلت فستانها المصنوع من موسلين زهري يتماوج بخفة مع كل حركة.
وما إن اختفت تمامًا خلف الباب، حتى انفجرت كلونيت أرجين ضاحكة، وقد عجزت عن كبح ابتسامتها.
زيارة الدوق أصبحت فجأة شأنًا طارئًا.
لقد كانت ملامحها المتوترة، تلك التي لم تستطع إخفاءها، شديدة اللطافة إلى حدٍّ أبكاها من الضحك.
ريفييل، وقد فاجأها مشهد كلونيت تضحك بتلك الحرية، قالت بدهشة:
“هذه أول مرة أراكِ تضحكين هكذا.”
مسحت كلونيت طرف عينيها بلطف، وأعادت نظّارتها إلى مكانها، ثم أخذت تمرر يدها بهدوء فوق غلاف الكتاب الذي كانت قد تركته جانبًا.
“أليس من المستحيل أن تُقاومي الضحك وأنتِ ترين هذه الفتاة؟ وجودها… يشعرني وكأن الربيع أتى مبكرًا هذا العام.”
***
“وسأكرّرها مرة أخرى: سيدي الدوق هو لي.”
“فيليا، أنتِ تنسين أن هيليوس كان دومًا في فريقي أولًا.”
منذ لحظات، والمواجهة الساخنة بين فيليا وإيفان لا تهدأ. لا أحد فيهما مستعدٌّ للتراجع.
جلس هيليوس، يحتسي البراندي بهدوء، مستندًا على أريكة فاخرة في ركن غرفته، يراقب المشهد كما لو كان مسرحية عشوائية تُعرض بلا توقف.
ديون فلوَيت، الذي بدا وكأنه قرر التحوّل إلى شبح مقيم في قصر وينستل، جلس هناك بلا خجل. وإلى جانبه، كانت فيليا دو فيير، التي ظهرت فجأة وقالت دون خجل: “اشتقت إليك!” أمام الجميع، وكأنها تقول شيئًا عاديًا.
وأما إيفان أركاس، فقد انجرف إلى هذا المشهد دون رغبة منه، فقط لأن فيليا جرّته وراءها بطريقة تعسفية.
ثلاثتهم اجتمعوا في غرفة واحدة.
كانت تركيبة الأشخاص هذه كافية لأن تُنهك أعصاب هيليوس.
ولم تكن هناك أي علامة تشير إلى قرب انتهاء هذا الجدال غير المجدي.
من يملك مَن، بحق السماء؟
كانت فيليا دو فيير تقف بشموخ أمام ديون، تدّعي بكل جرأة حق ملكية هيليوس أرجين، وكأن رأي الأخير لا يؤخذ في الحسبان أصلًا.
عيناها المتسعتان بثبات، وشفاهها المضمومة بإصرار، أوحت بعزيمة لا تقبل النقاش: لا بد أن أظفر به، ولن أتنازل.
“أن تُكوّن فريقًا فقط مع من تريده، يشبه تمامًا السنجاب الذي يملأ وجنتيه بكل الجوز الموجود في الغابة، ويظل يركض! هذا ليس عدلًا!”
“… سنجاب؟”
“نعم، تمامًا!”
“حسنٌ، فليكن كذلك. السنجاب المنتفخ الخدّين يبدو لطيفًا جدًا، أليس كذلك؟ أنا أحبه. لكنّ الفوز في اللعبة أهم… لذا، آسف، لا أستطيع التنازل عن هيليوس.”
قالها ديون وهو يبتسم بمرح، لا يبدو عليه أدنى رغبة في التورط في هذا الشجار الطفولي. أما إيفان أركاس، الذي بدا أكثر من ضجر من كل هذا، فلم يكف عن التثاؤب.
“إذن فلنفعل هذا!”
“نفعل ماذا؟”
“دعوا القرار لدوق أرجين! ذلك سيكون أعدل شيء.”
قالت فيليا هذا وهي تبتسم ببراعة مشرقة، تلك التي اشتهرت بها حتى لُقبت بـ”حيوية وينستل”.
عيناها اللامعتان، الصافيتان كأجراس ربيع تُقرع في شارع مغمور بالشمس، كانت تتجهان دون تردد نحو هيليوس.
كان هيليوس جالسًا وقد عقد ساقيه، يميل بجسده على الأريكة، يراقبها بينما يرفع كأس البراندي ويشرب. المذاق اللطيف والعذب للفواكه تخالط الكحول بانزلاق ناعم على حلقه.
“حسنًا، إذًا، القرار لك، هيليوس.”
قال ديون بثقة ظاهرة، أما فيليا، فسرى القلق في أطرافها، ومدّت يدها برقة تمسك بطرف كمّ قميص هيليوس.
“من ستختار؟”
أنزل هيليوس نظره. فوجد يدًا صغيرة، ناصعة البياض، تقبض على نهاية كمّه بإصرار ناعم.
وفي تلك اللحظة، هدأ صوت الرياح التي كانت تهز النوافذ منذ بزوغ الفجر.
“سيدي الدوق…؟”
فتحت فيليا فمها بنداء خافت، بينما أغلق هيليوس عينيه للحظة، ثم فتحهما ببطء، ناظرًا إلى وجهها.
حتى في ظل الظلال التي غطّت الغرفة، بقي وجه فيليا مضيئًا… مشرقًا كما هو دائمًا، كأنه لا يتأثر أبدًا بشيء.
“ومع ذلك، لا يزال سيدي الدوق هو الأجمل في عيني!”
قالتها تمامًا كما فعلت في تلة الغابة، وأدرك هيليوس أنه بات مجددًا في خضم ذلك الإحساس المربك، الغريب.
امرأة غريبة. مبهجة. غير متوقعة. فيليا دو فيير…
حتى الآن، ما زال من الممكن تعريفها بهذه الكلمات فقط.
ولكن… هل هذا حقًا كل شيء؟
كان يتساءل، عاجزًا عن الإمساك بجوهرها.
امرأة لا يستطيع أن يفهمها.
رغم ذلك، لم يكن الأمر سيئًا. بل، يمكن القول إن هذا الظهيرة لم تكن سيئة أبدًا.
مع فيليا، نسي كل شيء آخر—ضجيج العالم، وهمومه، وواجباته.
ولذلك لم يغادر الغرفة بعد.
“هذه المرة… ستكون في فريقي، صحيح؟”
سألته فيليا بصوت مفعم بالتوقّع، وقد ازداد تألق عينيها.
ابتسم هيليوس بخفة، وحرك حاجبه في دلال.
“ما العمل… لست ملكًا لكِ يا فيليا.”
ارتسمت على وجهها ملامح خيبة حلوة. أسقطت يدها المرتخية ببطء، وهبطت معها زوايا شفتيها.
كانت كمن تسبح في مياهٍ صافية. فتاة مختلفة تمامًا عن أولئك الذين يملؤون الصالونات: يضحكون ويبتسمون كذبًا، قلوبهم جوفاء.
وفيليا دو فيير لم تكن منهم.
ولهذا السبب… لم تكن منه أيضًا.
ربما لذلك لا يستطيع أن يرفع عينيه عنها.
كان السؤال لا يزال معلّقًا في صدره، حلوًا كأثر البراندي على شفتيه. لم يكن يعرف الجواب، لكنّه لم يكن يمانع الغموض.
بهدوء، وضع هيليوس الكأس الذي كان بيده، دون أن يُصدر صوتًا.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات