لم يكن سوى إشارة إلى كذبة واضحة للجميع، ومع ذلك، اتسعت عينا فيليا بدهشة. عيناها البُنّيتان الكبيرتان، تحت ضوء الشمس المتسلل، تلألأتا بلون أفتح وأكثر إشراقًا.
“لا؟ كيف عرفت ذلك؟”
“تقولين لا، لكنك تسألين كيف عرفت؟ ما هذا التناقض؟”
تهربت فيليا من الإجابة، وبدأت تتلفت حولها وكأنها تبحث عن مهرب. ولحسن الحظ، وقع بصرها على الحصان الذي كان يرعى العشب بهدوء، فشعرت بالامتنان لتلك المصادفة.
وبفضل ذلك، تمكنت من تحويل نظراتها بشكل طبيعي، وفكرت في موضوع جديد للحديث.
“الحصان أنيق جدًا وجميل… ما اسمه؟ أعتقد أنها لا بد أن تكون ملكة الإسطبل. حتى لو كان اسمها ريفيًا أو قرويًا.”
ألقى هيليوس نظرة جانبية على الحصان الذي كان قد أوقفه، وفتح فمه متحدثًا بهدوء:
“اسمه ديريل. وهو ذكر.”
“آه… إذًا هو ذكر.”
“لكن، أليس الحصان الذي كنتِ تفكرين فيه شيئًا آخر؟ ليس هذا، بل ذاك الآخر؟”
بدأت فيليا تلهو برأس قدمها، تركل حصاة صغيرة، محاولة التظاهر بعدم الفهم. لم تكن ترغب في الحديث عن ما حصل أثناء مأدبة العشاء الرسمية، ولكن يبدو أن دوق أرجين لم يكن يكترث لذلك على الإطلاق.
ولو كان الأمر بيدها، لكان من المفترض بها أن تسرع بمغادرة هذا المكان… ومع ذلك، بعد أن قابلت هيليوس وجهًا لوجه، باتت رغبتها في البقاء إلى جانبه أقوى من رغبتها في الرحيل.
وبينما كانت مترددة، غير قادرة على الحسم، طار عصفور الدوري الذي كان يغرد منذ قليل في الجو. تابع هيليوس بعينيه العصفور وهو يطير في السماء الزرقاء الصافية وكأنه أسير ينطلق نحو حريته، ثم حول نظره إلى فيليا.
“في ذلك الحين… لم يكن لكلمتي أي معنى عميق، حقًا.”
كأن قلبها كاد أن يقفز من صدرها، لكن هيليوس، غير مدرك لتوترها، استرجع ببساطة الحديث الذي جرى في مأدبة العشاء الأسبوع الماضي.
استمعت فيليا لكلماته التالية وهي تتمنى لو استطاعت أن تغلق عينيها وتختفي.
“لم أقصد أني لا أحبك، لذا لا داعي لأن تتجنبي الحديث معي أو تشعري بالانزعاج.”
“حقًا؟”
“هل تظنين أني سأكذب؟ لا أرى سببًا لذلك.”
لا وجود لشيء اسمه “مصادفة عبثية”. إن الرغبة المفاجئة في التجوّل على تلة غابة أشجار التنوب هي ما قادتها إلى لقاء غير متوقع مع الدوق، والذي بدوره قاد إلى نتيجة لم تكن في الحسبان.
أمضت فيليا عدة أيام في معاناة داخلية، ولو أنها سمعت كلمات هيليوس تلك في وقتٍ أبكر بقليل، ربما لما كانت شعرت بهذا الألم الذي دفعها حد المرض.
“إذا لم تكن تكرهني، فهذا يعني…!”
صوتها الآن بات ممتلئًا بالأمل، بالكاد تصدق ما تسمعه. قبل لحظات فقط، كانت تشعر وكأنها تغرق في أعماق بحيرة شتوية باردة، والآن تنهض منها مشرقة.
اقتربت من هيليوس خطوة، تقلصت المسافة بينهما، ثم أمسكت بطرف معطفه كما فعلت في ليلة الكريسماس الأولى حين التقيا لأول مرة، ورفعت رأسها تنظر إليه بثبات.
“لكنك لا تحبني أيضًا؟”
كان دوق أرجين صارمًا كالسيف في رده، لكن ملامح وجهه بقيت لطيفة، لا تتماشى مع حدة كلماته.
“إذن… ما الذي يعنيه ذلك؟”
“فيليا دو فيير، بالنسبة لي، أنتِ… لا أكثر ولا أقل من هذا الحد.”
لا يكرهها، لكنه لا يحبها أيضًا. أي أن فيليا دو فيير لا تمثل شيئًا محددًا بالنسبة لهيليوس أرجين. هذا هو ما أوصلته كلماته.
شفتاها انكمشتا إلى الأمام بحزن واضح، وخيبة أملها كانت جليّة. لكنها، في الوقت ذاته، حاولت أن تعزي نفسها بقولها: ربما هذا أفضل…
فلو أمسكت بيده، ثم سمعته يقول: “أحبكِ” مباشرة، لربما أغمي عليها من شدة المفاجأة.
في الروايات، عندما تسقط البطلة الحساسة مغشيًا عليها لسببٍ ما، تكون المشهدية حالمة وجميلة… لكن فيليا، التي شهدت بنفسها امرأة نبيلة تفقد وعيها بعد أن دست على روث حصان، تعرف تمامًا أن الإغماء ليس بالضرورة أمرًا أنيقًا أو جذابًا كما تصوره الكتب.
ومن المؤكد أنها لن تكون استثناءً.
“على الأقل… أنت لا تكرهني، صحيح يا سيدي الدوق؟”
“صحيح.”
“حتى عندما أتكلم كثيرًا، وأبقى مستيقظة طوال الليل أتخيل ما سيحدث غدًا، وحتى عندما أتسلل من المنزل فقط لأستعير رواية؟… مع كل هذا، ما زلت لا تكرهني؟”
“لا أرى داعيًا لأن يكون لي رأي في تفاصيل حياتك اليومية، سواء أعجبتني أم لا.”
رغم أن كلماته لم تكن مفعمة بالسعادة أو الإطراء، إلا أن هيليوس أجاب بصراحة، مما جعل فيليا تبتسم ببراءة وسذاجة جميلة.
راح هيليوس يحدق فيها بصمت للحظات، ثم ارتدى قبعة الفروسية التي كان قد خلعها، وبدأ يفك الحبل الذي يربط حصانه، بينما تبعته فيليا عن قرب.
“هل ستعود الآن؟ هناك جدول صغير وجميل للغاية هناك، ألا تود رؤيته؟”
“إذًا، لما لا تبقين هناك قليلًا قبل أن تعودي؟”
“إذا مشيت أبعد قليلًا بعد الشجرة الأكبر، ستجد غابة شجيرات خلابة، جمالها لا يُوصف.”
“لكنها لا بد أن تكون مقفرة الآن، فالفصل شتاء.”
“يمكنك أن تتخيلها صيفًا، ببساطة.”
“أنا أكره الصيف.”
“لو مشيت يومًا في ممر بريتشن في يونيو، لرأيت الصيف بعين مختلفة! إنه جميل جدًا، بحق.”
وضع قدمه على الرِكاب، فامتطى الحصان بخفة ورشاقة. ومع ارتفاعه، ازداد ميل رقبة فيليا إلى الخلف وهي تنظر إليه.
“إن قلتِ إن هذا جميل، وذاك جميل، هل يعني ذلك أن في نظركِ لا يوجد شيء قبيح؟”
تطلع إليها هيليوس من أعلى، وقد أصبحت تبدو أصغر حجمًا من ذي قبل، ثم أمسك بلجام الحصان من جديد.
وفي مواجهة ذلك الدوق، أضافت فيليا، وقد اختلط التسرّع بالصدق العميق في صوتها، عبارة واحدة فقط:
“ومع ذلك، فإن أجمل شيء في عينيّ… هو أنت يا سيدي الدوق!”
غارت الغمازتان على خدي فيليا برقة، واهتزت خصلات شعرها البني المتموج، كأن نسمة خفيفة قد بعثرتها. حين تفرقت خصلات شعرها الناعمة، بدت ابتسامتها تشبه ملمس تلك الخصلات… ناعمة، خجلة، ودافئة.
هيليوس، الذي ضيّق عينيه بسبب وهج الشمس، لم يقل شيئًا، فقط ألقى تحية قصيرة، ثم اندفع على صهوة حصانه دون تردد.
“من وجهة نظري، يبدو أن كل شيء قد تجاوز الحد… لا، لا يصلح الأمر هكذا. لا بد أن أتواصل مع العم.”
“ألم تسمع أنه لم يتعافَ تمامًا بعد؟ آه، أشعر بالدوار مجددًا. وبالمناسبة، إيفان، تذكّرت الآن فقط… من كان الذي أفسد كتاب أبي الثمين النادر منذ زمن طويل؟”
كانت جهودها في إحراج إيفان بنبرة بريئة، ولكن بأسلوب ماكر، قد آتت ثمارها.
“لم أقصد أني لا أحبكِ، فلا تقلقي، ولا تحاولي الابتعاد عني بتوتر.”
إذًا… هو لا يكرهني!
فيليا، التي كانت تكتم ضحكة مبتهجة، لم تغادر تلة الغابة إلا بعد أن أصبح هيليوس صغيرًا كالنقطة البعيدة في الأفق. خطواتها التي كانت تمضي في طريق العودة كانت خفيفة، وكأنها ترقص على إيقاع رقصة “فالز” مفعمة بالحيوية.
وفي الممر الطويل المحاذي للحديقة الكبرى، عبق خفيف من رائحة بلسم الصنوبر كان يتناثر في الأجواء، تمامًا مثل حالة فيليا دوفير المزدهرة داخليًا.
***
“سيد بيتر، يمكنك الانصراف الآن.”
كان الفجر يوشك أن يُشرق، والضوء الأزرق الشاحب قد بدأ ينتشر كوشاح خفيف فوق الأفق. حين أنزل هيليوس يديه المتشابكتين، قال ذلك الأمر القصير بنبرة لا تقبل النقاش. الطبيب، الذي كان واقفًا على مسافة منه، انحنى بأدب وغادر المكان في هدوء.
“هاه؟”
بالصدفة، كان ديون متجهًا إلى غرفة هيليوس، فالتقى بالطبيب في الرواق. الضيف غير المتوقع حنى رأسه لديون تحية خفيفة ومضى في طريقه.
رفع ديون حاجبه ونظر خلفه بشك. طبيبٌ يأتي إلى وينستل بلا حقيبة زيارات؟ كان ذلك أمرًا مريبًا.
“ما تلك المحادثة السرية التي كنت تخوضها؟”
قالها ديون وهو يطرق الباب المفتوح ويدخل الغرفة.
“وأنت؟ ما الذي أتى بك في هذا الوقت؟”
“أنا فقط… استيقظت مبكرًا، كنت أشعر بالملل… لا، في الحقيقة، الأمر لا يتعلق بي. هل أنت بخير؟”
ألقى ديون نظرة سريعة من أعلى إلى أسفل على هيليوس، الذي كان يرتدي قميصًا دون ربطة عنق، ثم سرعان ما نفى الفرضية التي خطرت له.
لو كان مريضًا حقًا، إلى درجة استدعاء الطبيب، لكان أول من أبلغه بذلك هو هو.
“على الأرجح ليس الأمر متعلقًا بصحتك… وبما أن الآنسة فيليا قد شُفيت أيضًا… إذًا ما الذي حدث؟”
“روزين.”
حين نطق هيليوس الاسم ببرود، أمال ديون رأسه في حيرة.
“روزين؟ ما بها؟”
أشار هيليوس بعينيه نحو ورقة مبسوطة فوق الطاولة، ثم وضع السيجارة بين شفتيه، تلك التي كان يُمسك بها بين أصابعه بلا اهتمام. صوت خطواته كان واضحًا وهو يقترب من النافذة، يخترق برودة الفجر الهادئة.
“فيليا لا تزال في وينستل… فما قصة هذه الرسالة؟”
“روزين ليبيرن.”
عندها فقط لمح ديون الاسم المكتوب على الظرف. دون حاجة إلى سؤال، التقط الورقة المشار إليها وبدأ في قراءتها.
“إلى هيليوس.”
بدأت الرسالة بكلمات قصيرة، تبعتها تحية مألوفة ومكررة تسأل عن أحواله. كانت رسالة مهذبة، مكتوبة بأسلوب رسمي رفيع، لكنها لم تُرسل إلا لتعلن عن أمر مأساوي يخص صاحبتها.
“يا للأسف…”
قرأ ديون الرسالة حتى سطرها الأخير، ثم عقد حاجبيه.
“حالة ساقها قد ازدادت سوءًا؟”
“تمامًا كما قرأت. لا أعلم أكثر مما كُتب هناك.”
“إذًا لهذا السبب استدعيت السيد بيتر. سترسله إليها، صحيح؟”
أومأ هيليوس برأسه بإيجاز.
“أتمنى أن يكون لديه أخبار طيبة حين يعود.”
ترك ديون الرسالة بهدوء على الطاولة، وتقدم ليقف بجانب هيليوس. من خلال شقوق النافذة المفتوحة، تسللت نسمات باردة عبثت بخصلات شعره الأسود.
عيناه، الظاهرتان من تحت خصلات الشعر المتطايرة، كانتا موجهتين نحو تلة الغابة البعيدة.
حين يتلقى رسالة من روزين، لا تظهر أي مشاعر على وجهه—تمامًا كما الآن. لا حزن، لا قلق، فقط الهدوء والسكينة المعتادة.
ومع ذلك، حتى ديون لم يكن يستطيع التكهّن بما يجول في أعماقه حقًا. غير أن هناك أمرًا واحدًا يصبح واضحًا في مثل هذه اللحظات:
هو لا يعرف الحب.
ارتفعت أنفاس هيليوس بخفة، يصحبها دخان السيجارة الأبيض، ينساب ببطء في الهواء. أما ديون، فقد أسند ذقنه إلى كفه، وراح يتأمل صديقه عن كثب.
كان يحظى باهتمام الكثير من النساء، لكن لم يُعرف أنه أحب واحدةً حقًا. حتى روزين، التي وُعدت له بالزواج، لم تكن تسكن قلبه.
هكذا هو هيليوس أرجين.
إذن… ماذا عن روزين؟
نظر ديون بطرف عينه إلى الرسالة الموضوعة وحدها على الطاولة، وفكرة جديدة بدأت تنمو في ذهنه…
باستثناء التحية المعتادة: “هل كنت بخير؟”، لم تحتوِ رسالة روزين على سطرٍ واحدٍ يسأل عن حياة هيليوس اليومية أو اهتمامٍ صريحٍ به.
ما هو هيليوس أرجين بالنسبة لروزين ليبيرن؟
ربما يكون حبًا، وربما لا. يصعب الجزم.
لكن، على الأرجح، هذا النوع من التفكير لا يعني الكثير بالنسبة لهيليوس.
“بالمناسبة… هل تنوي البقاء هنا لفترة؟”
سأل هيليوس فجأة وهو ينفض رماد سيجارته بلمسة خفيفة. عندها فقط التفت ديون نحوه، ليجده يحدّق به بنظرة مائلة، حاجب واحد مرفوع، كأن في عينيه اتهامًا غير مباشر.
“طالما الآنسة فيليا موجودة هنا، لا بد أن تحدث أشياء ممتعة كثيرًا خلال هذه الفترة. لهذا السبب أنا باقٍ… لماذا؟ لا يعجبك ذلك؟”
“لا، لا يعجبني. مزعج.”
“آه، هذه كانت ضربة قاسية، تعرف؟ يعني… فيليا مسموح لها البقاء، أما أنا فلا؟”
“إذا كان هذا يزعجك، فحاول أن تأسر قلب جدتي كما فعلت هي.”
ديون، الذي يعرف جيدًا مدى صرامة كلونيت أرجين، لم يجرؤ على خوض تحدٍ لا طائل منه. وبدلًا من الرد، راح يشيح بنظره نحو الأفق خلف النافذة ويغيّر الموضوع بلا مبالاة.
“آه… لكن، ألا ترى أن سماء الفجر اليوم جميلة للغاية؟ أليست كذلك؟”
ولدهشة ديون، نجحت جملته في إحداث أثر ما، إذ ارتسمت على شفتي هيليوس ابتسامة خفيفة.
لكن تلك الابتسامة لم تكن من النوع الذي يحتفظ به بشكل روتيني، ولا كانت ابتسامة سخرية موجهة إلى صديقه الذي يحاول تجنب الطرد من المنزل.
لا. كانت ابتسامة ناعمة، صادقة، جعلت طرفي شفتي هيليوس الحمراوين ينحنيان بلطف. ابتسامة لا تشبهه على الإطلاق.
“ما الأمر؟”
سأل ديون وهو يضيّق عينيه بدهشة، وقد استبد به الفضول فجأة.
“كلامك ذكرني بشخص ما… دون قصد.”
“من؟”
لكن هيليوس لم يُجب. بل ابتلع الاسم الذي خالج ذهنه، وأبقى نظره متوجهًا إلى الأمام.
كان الضوء يتسلل تدريجيًا، يزيح العتمة المتبقية من الليل، ويمنح الأشياء شكلًا ومعالم.
وفي الأفق، بين أشجار التنوب التي تغطي تلة الغابة الكثيفة، كانت شمس الصباح تشرق ببطء، كاشفةً عن ملامح العالم، ومعه… ربما، عن ملامح قلبٍ غامض لا يزال لا يعرف أحدٌ ما يخفيه.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات