اضطرّت ليفييل آرجين لبذل جهدٍ لا يُستهان به في محاولة ردع الكونت دوفيير الذي كاد أن ينطلق حالًا للبحث عن فيليا.
يا لها من سِمَة مشتركة بين جميع الآباء الذين لديهم بنات! لدرجة أن إرسال ابن مركيز آركاس وزوجته لم يكن كافيًا، بل وافق على إقامتهما معًا كشرطٍ للسماح لها بالتعافي في وينستل. كان ذلك كافيًا لفهم كل شيء.
حتى الكونت دوفيير، المعروف ببرودته وسمعته القوية، لم يستطع الصمود أمام ابنته.
ولِمَ لا؟ فكيف له أن يترك فتاة مثل فيليا وحدها؟
مدّت ليفييل آرجين يدها بأناقة وأمسكت بلطفٍ بساق زهرة كانت تتأملها بعينين نصف مغمضتين. وردة حمراء قانية تفتّحت ببريق على راحتها وبدأت تدور ببطءٍ بين أصابعها.
كانت تلك الوردة قد قدّمتها لها فيليا، التي قالت إنها مرت بالبيت الزجاجي قبل الإفطار هذا الصباح.
“ما هذه؟” “طلبت من البستاني أن يحصل عليها لي. كانت بتلات الورد ترتجف برقة… شعرت وكأنني أسمع صوتك من خلالها.”
الناس الذين يثرثرون بكلام لا طائل منه يثيرون اشمئزازها. فقد سمعت من أمثالهم بما يكفي في قصر إيرنيل، وبعد أن أصبحت دوقة وجاءت إلى وينستل، ظل أولئك المتملقون يحيطون بها محاولين كسب ودّها.
لكن ما تقوله وتفعله تلك الفتاة، فيليا، لم يكن يحمل أي غرض أو نية. وقد أدركت ذلك خلال الأيام القليلة الماضية.
كل كلمة نطقت بها، وكل تعبير في عينيها الصافيتين، كان ينبع من قلبها الصادق.
ولو اعتبر أحدهم هذا الكلام تملقًا، فإن ما قالته في تلة غابة الصنوبر في وينستل لا يُعد تملقًا بل مديحًا يفوق الوصف.
أراحت ليفييل آرجين ابتسامة ناعمة على شفتيها وهي تضع الوردة جانبًا.
ورغم أن تصرفاتها أحيانًا كانت بعيدة عن رزانة السيدة النبيلة، فقد بدأت تفهم سبب تلك الابتسامة التي لا تُفارق شفتي كلونيت آرجين كلما نظرت إلى فيليا.
ولذا لم يكن من الصعب عليها أن تتفهم أيضًا مشاعر الكونت دوفيير المبالغ فيها.
فهي فتاة لا يمكن إلا أن تُحب.
طق طق.
صدر صوت خافت لطرق الباب، فأمرت كلونيت آرجين، التي كانت معها في غرفة الجلوس المطلة شمالًا عبر نافذة، بالدخول.
دخل الطبيب الذي أجرى فحصًا لفيليا، وانحنى لهما باحترام.
“كيف حالها؟” سألت كلونيت آرجين بقلق.
وقد بدا الطبيب مبتهجًا وهو يهم بإيصال الخبر السار.
“تحسنت حالتها كثيرًا منذ أن بدأت بأخذ الدواء الأسبوع الماضي. الحمى انخفضت أيضًا. يمكنها الآن العودة إلى بريتشن بكل أمان…”
“لكن من الأفضل أن تبقى لبضعة أيام إضافية، أليس كذلك؟”
قاطعته ليفييل آرجين، قبل أن يُكمل.
وضعت يديها فوق ركبتيها بانضباط، وأعادت السؤال: “أليس كذلك؟”
كان الطبيب سريع البديهة، فسعل بخفة وعدّل كلامه سريعًا.
“نعم، بالطبع. لا شك أن الراحة ستفيدها أكثر.”
“وأنا أوافقك الرأي. شكرًا لك يا سيد بيتر، يمكنك الانصراف الآن.”
غادر الطبيب بعد أن انحنى لهما انحناءة قصيرة محترمة. وحين خرج، لم تستطع كلونيت آرجين كتم فضولها تجاه نية كنتها، والتي بدا أنها دفعت الطبيب لتغيير قوله.
ليفييل، التي تعرف تمامًا مدى صرامة شخصية حماتها، اقتربت منها قليلًا وهمست بنبرة هادئة وعذبة:
“ألا تعجبك الآنسة فيليا؟”
“بالطبع. إنها كصديقة لي.”
“تخيلي لو أصبحت رفيقة لهيليوس. لتحقيق تلك الأمنية، أردت أن أبقيها في وينستل لأطول وقت ممكن.”
كانت عينا ليفييل تتألقان تحت نور الصباح، المتدفق من النوافذ، مفعمتين بالحماسة.
وإذ كانت كلونيت آرجين تشاركها الرغبة نفسها، فقد فهمت أخيرًا دوافع كنتها لإقناع الطبيب، فأومأت برأسها موافقة.
“صحيح، من الأفضل أن نُبقي الشباب قريبين من بعضهم البعض قدر المستطاع.”
***
“فيليا”
“لا أظن أن وينستل كانت بهذا القدر من الحيوية من قبل.”
“صحيح. أتمنى لو تبقى الآنسة معنا هنا دائمًا.”
“آه، لقد رأيت الآنسة فيليا قبل قليل!”
“حقًا؟ أين؟”
“هناك… كانت عند مجرى النهر، أظن.”
يبدو أن لديها الآن معجبين متحمسين بحق.
هذه الأيام، أينما ذهبت، لا أحد يتحدث إلا عن “فيليا دوفيير”. بخلاف روزين، التي مرّت ذات صيف كأنها شبح ثم اختفت، فإن تلك الفتاة قد أثارت من الجلبة ما لم يُرَ مثله في وينستل من قبل.
كانت توزع أزهار البيت الزجاجي على سكان وينستل – بإذن من السيدة كلونيت آرجين – وتجعل من وسط الحديقة الكبرى مرسمًا تنصب فيه حامل الرسم وتغرق في ألوانها، بل إنها اعتادت رواية الحكايات الطريفة التي مرّت بها في حياتها لخادمات القصر الصغيرات.
حقًا، لم يكن يمرّ يوم واحد بهدوء منذ قدومها.
ولذلك، بدأ الناس يطلقون عليها “حيوية وينستل”.
رسائل فيليا دوفيير لم تكن تحوي ذرة كذب واحدة. وكان هذا ما تأكده الأحداث يومًا بعد يوم.
مرّ هيليوس من بين الخادمات الصغيرات الصاخبات وهو يشد لجام فرسه. كان الغبار الأبيض يتصاعد من الأرض اليابسة تحت وقع حوافر الحصان المسرع عبر الحقول، ثم بدأ يخف تدريجيًا حين دخل غابة الصنوبر، إلى أن توقّف تمامًا.
هبط هيليوس من على صهوة الجواد بخفة، وثبّت الحصان تحت ظل شجرة، ثم جلس عند الجذع وخلع قبعته الفروسية.
كان البرد ما يزال حاضرًا، لكن أشعة الشمس التي تساقطت فوق رأسه بدت أكثر دفئًا من ذي قبل.
أغمض عينيه بهدوء، وأخذ نفسًا عميقًا. الهواء، رغم برودته، كان نقيًا، ومع كل شهيق، هدأ لهاثه شيئًا فشيئًا.
نسمة لطيفة مرّت بين خصلات شعره بلين، وامتزج صوت عصفور شتويٍ ثرثار بذلك النسيم العابر.
ثم، فجأة، ظهرت صورة في ذهنه جعلت حاجبه الأيمن يرتفع بتعجب.
فيليا دوفيير.
الفتاة التي لا تتوقف عن الحديث، التي تتنقّل في أرجاء وينستل بكل حيوية، ولم تلتقِ به وجهًا لوجه بشكل حقيقي ولو لمرة.
كانت تلاحقه كما لو أنها ظله، والآن… لماذا تهرب منه؟
بدقة، منذ مأدبة العشاء الرسمية. منذ ذلك الحين بدأت تتفاداه. وباستثناء اليومين اللذين قضتهما طريحة الفراش بسبب سوء حالتها الصحية، فقد استعادت نشاطها بسرعة وظلت تتجول بحرية، لكن كلما صادفته مصادفة كانت إما تختبئ أو تفر هاربة.
وقد رآها تهرب منه أكثر من مرة.
لا يدري ما سبب ذلك، لكنه لا يستطيع تجاهل أنها تظهر له دائمًا، في كل مكان، وهذا ما كان يزعجه بشدة.
وفي تلك اللحظة بالضبط، التقط سمعه صوت حركة حذرة وسريعة خلف إحدى أشجار الصنوبر القريبة. صوت الأوراق اليابسة وهي تتكسر تحت الخطوات كان واضحًا للغاية.
لم يكن يمكن أن يكون غزالًا أو أرنبًا.
فتح هيليوس عينيه ببطء، وأنزل ذراعيه من فوق ركبتيه.
“آنسة فيليا.”
كما توقّع تمامًا، ظهر له ظهرٌ صغير لشخصٍ توقف فجأة كمن فاجأه النداء. كتفاها ارتجفا من الذهول.
هاه. توقفت فيليا دوفيير في مكانها، ثم استدارت نحوه ببطء مع ابتسامة متوترة.
ضيّق هيليوس عينيه وهو ينهض من مكانه بهدوء.
“لماذا تهربين؟ هل فعلتُ لكِ شيئًا خاطئًا؟”
“أ، أنا لم أهرب!”
هرب؟! هزّت فيليا رأسها بعنف وهي تنكر.
هل هناك من يهرب من شخص يحبه؟ على حد علمها، لا.
ثم إن من يهرب، لا يحدّق في وجه من يحبّه خلسة ثم يُصدم حين يُكشف أمره.
“إذًا، ما الذي يحدث؟ منذ العشاء وأنتِ تتجنبينني باستمرار.”
“إذا أردت قول الحقيقة، فالأمر ليس هروبًا بقدر ما هو…”
بدأت فيليا تحرّك أصابعها بتوتر وتشيح بنظرها يمنة ويسرة.
تحت قدميها، أخذت الأعشاب اليابسة تصدر صوتًا خافتًا وهي تتهتز، وربطتها الحمراء، المربوطة حول طوق معطفها البني، كانت تتمايل مع النسيم.
“ليس هروبًا؟”
“إنه فقط… أقرب لشيء يشبه فترة راحة!”
“ماذا قلتي؟”
أمال هيليوس رأسه إلى الخلف، وتنهد بنبرة فيها شيء من السخرية. السماء الصافية التي ظهرت بين أوراق شجر الصنوبر المدببة دخلت في عينيه الواحدة تلو الأخرى.
لماذا يضحك؟
لم تستطع فيليا فهم سبب ابتسامة الدوق. وربما، حتى بعد مرور سنوات، لن تدرك معناها.
لكن الشيء الوحيد الذي كان واضحًا تمامًا هو أن صورة الدوق آرجين، التي انعكست في عينيها الآن، كانت أجمل من أي وقت مضى.
هيليوس، الذي وقف مستندًا إلى شجرة صنوبر خضراء، بدا وكأنه جنّي الشتاء الذي كانت تبحث عنه في طفولتها.
صحيح أنه بدا أكثر صلابة من أن يكون جنّيًا، لكنه في عينيها لم يكن أقل سحرًا.
عندما التقت نظراتها بعينيه السوداوين، وتراقص الضوء على خطيّ فكه وانحناءة ابتسامته الهادئة، أدركت أنها حين تكون ممتلئة جدًا بالمشاعر، فإنها تشعر بالفراغ في آنٍ واحد.
وإن أصبحت في يومٍ ما حبيبته، وسارت معه على دربٍ في غابة أوائل الصيف حيث تتمايل الأوراق بنعومة، وتشبكت أيديهما خفية… فهل يمكن لذلك الشعور الغامر أن يخطف أنفاسها حقًا حتى لا تعود قادرة على التنفس؟
غاصت فيليا في أفكارها للحظة، ناسِية تمامًا أن عليها الرد.
الشخص الوحيد الذي استطاع أن يُوقظ فيليا دوفيير من شرودها كان هو، هيليوس.
“هل يمكنك أن تشرحي لي بنفسك ما تعنينه؟ لأني حقًا لا أفهم شيئًا مما تقولين.”
استفاقت فيليا على صوته كمن يُنتشل فجأة من الحلم. صفعت خديها بخفة مرتين، ثم رمشت سريعًا وحدّقت فيه بعينين متسعتين.
“المشاعر بيني وبينك، يا سيدي الدوق، ليست متساوية… ولهذا فكّرت أن من الأفضل أن يكون لك وقت هادئ، بدوني. وقت تخلو فيه إلى نفسك. مع مرور الأيام، وكلما أضيف عام إلى عمري، أصبحتُ أكثر حذرًا في كل شيء.”
سكتت لحظة، ثم تابعت بارتباك متعجل:
“آه، وطبعًا، هذا لا يعني أنني فكرت هكذا بسبب ما قلته في مأدبة العشاء. لا، أبدًا! ليس لهذا السبب على الإطلاق!”
ما قالته في البداية لم يكن إلا ذريعة، لكن كلماتها الأخيرة حملت حقيقة مشاعرها الصادقة.
نعم، لقد كانت كلمات الدوق في تلك الأمسية تثقل قلبها وتمنعها من الاقتراب.
ولهذا السبب كانت تختبئ، ولهذا السبب كانت تهرب.
إنها لا تنوي أن تغيّر نفسها من أجل من تحب، لكنها أيضًا تخاف أن يكرهها من تحبه على ما هي عليه.
لذلك، لم يكن وهمًا أن بدا صوتها أكثر إصرارًا عند نهاية كلامها، بل كان امتدادًا لمشاعرها التي حاولت جاهدة أن تُبقيها مخفية.
“آه، تلك الكلمات…”
قالها وهو يراقب وجهها بتأنٍ، ثم مال برأسه قليلاً، وظهر على شفتيه شيء يشبه الابتسامة الساخرة، الرقيقة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات