بدأ العشاء الرسمي بعد أن غربت الشمس تمامًا. وبما أن الظلام كان قد لفّ الأرجاء، فإن الثريا الكريستالية المتدلية من السقف أشرقت ضياءً أكثر من المعتاد.
“شلال من الضوء…” هكذا أطلقت فيليا على الثريا اسمًا جديدًا من اختراعها، بينما كانت تحدق فيها بانبهار.
وفي تلك اللحظة، ظهر أخيرًا هيليوس، الذي لم يُرَ له أثر منذ وصولهم إلى وينستل.
كان أنيقًا، بملابس رسمية مرتبة تعكس مكانته.
“دوقي العزيز!” كانت فيليا، وكما هو متوقع، أول من انتبه لحضوره. قفزت من مقعدها بابتسامة مشرقة، وصوتها مفعم بالمرح وهي ترحب به.
لم يعد ذلك المشهد يثير الاستغراب. بادلها هيليوس التحية بكلمات مناسبة من حيث الاحترام، وبتعبير هادئ:
“أعتذر على تأخري في التحية. مضى وقت طويل، أليس كذلك؟”
ضوء الثريا المنسكب انعكس داخل عينيه العسليتين، فأضفى عليهما بريقًا ناعمًا.
“نعم! هل مرت حقًا أسبوعان؟ لقد اشتقت إليك… كثيرًا!”
وجه فيليا دوفير المضيء تحت الأضواء بدا صافيًا ومكشوفًا تمامًا. كانت فتاة لا تعرف كيف تُخفي مشاعرها؛ إذا فرحت أظهرت الفرح، وإذا حزنت كان الحزن ظاهرًا عليها دون مواربة.
تمامًا كما كانت على ذلك الممر في ذلك اليوم.
“وأنتَ، دوقي؟”
لم يجد هيليوس ما يقوله، فاكتفى بإيماءة طفيفة برأسه، وابتسامة غامضة على شفتيه.
ألقى نظرة حوله، فرأى ديون يعضّ على شفتيه، يكاد ينفجر من الضحك وهو يحاول التماسك.
يبدو أنك تستمتع بذلك كثيرًا، أليس كذلك؟ رمقه هيليوس بنظرة باردة عابرة جعلت ديون يهز كتفيه ويتظاهر بالبراءة.
كان من الواضح أن ديون، ما إن يعود إلى غرفته بعد انتهاء العشاء، سيبدأ بسرد “رواية جديدة” كاملة من نسج خياله، انطلاقًا من مجرد عبارة قالتها فيليا وإيماءة رأس من هيليوس.
ففي الآونة الأخيرة، أصبحت فيليا دوفير مصدر تسلية لا يُقدّر بثمن بالنسبة لـ ديون.
الشخص الوحيد الذي لم يُخفِ امتعاضه من هذه الأجواء كان إيفان أركاس، الذي تبادل تحية قصيرة مع هيليوس، ثم جلس الأخير في المقعد المتبقي… إلى جوار فيليا دوفير.
لم يكن له خيار. من المؤكد أن ليفييل أرجين هي من رتبت جلوسهم مسبقًا بهذه الطريقة. وحين التقت نظراتها بنظرات ابنها، رفعت حاجبيها بخفة وابتسمت ابتسامة ودودة.
هل هناك مشكلة؟ هكذا نطقت عيناها السوداوان، المشابهتان لعينيه.
هيليوس، وهو ينظر إلى أمه صاحبة النوايا الواضحة، اكتفى كالعادة بابتسامة سطحية، ثم أدار وجهه عنها.
على المائدة، كان هناك ما لا يُحصى من الأطباق: لحم الضأن المشوي، شرائح الخاصرة، بط مطهو على البخار، ديك رومي، لوبستر، فطيرة باللحم، وبيض مسلوق بطريقة “بوشت”… تشكيلة مدهشة تعكس مدى الجهد الذي بذلته ليفييل أرجين لتحضير هذا العشاء تكريمًا لابنة عائلة دوفير.
كان ذلك مختلفًا تمامًا عن زيارة روزين الصيف الماضي، حين قوبلت ببرود في أول دخولها إلى وينستل.
“لا بأس… إن لم أكن ضيفة مدعوّة، فعليّ تحمّل بعض الإزعاج.”
تذكّر هيليوس كلمات روزين الصامدة في وجه المعاملة الباردة، بينما كانت صورة من ذكراها تطفو بخفة.
وفي تلك الأثناء، تحدثت كلونيت أرجين، السيدة التي جمعت هذا الحضور كله، بصوت صادق مليء بالامتنان:
“شكرًا لتلبيتكم دعوتي. أتمنى أن تكون هذه أمسية سعيدة للجميع.”
رنّ صوت تصادم كؤوس النبيذ برقة في الهواء. وبعد كلماتها، بدأ الجميع في تناول الطعام. في الوضع الطبيعي، كان الصمت سيخيم بسرعة وينتهي العشاء خلال دقائق… لكن وجود فيليا دوفير جعل الليلة مختلفة.
ضحك كثير وحديث كثير.
جلس هيليوس يتأمل هذا المشهد غير المعتاد، حيث الحوارات تتقاطع والأصوات تتداخل، وكلها تدور بطريقة أو بأخرى حول شخص واحد: فيليا دوفير.
كانت هي مركز هذا التغيير.
لم أكن أعلم أنكم بهذه الدرجة من الحديث.
ألقى نظرة على جدته كلونيت وأمه ليفييل، ثم أعاد وضع كأس النبيذ على الطاولة ببطء، وأدار وجهه نحو مقعده المجاور.
كانت فيليا تمضغ الطعام وتضحك، وتعود لتشاركهم أمنيات طفولية لا تُفهم، ثم تعود لتضحك مجددًا، حتى حين التقت عيناها بعينيه، ابتسمت ببساطة.
كانت مشرقة… بطريقة مفرطة.
كنسيم الربيع، وأوراق الزهور المتراقصة، والمياه المتلألئة المتكسرة تحت الشمس، وسهول خضراء يافعة. كانت عيناها تحمل كل هذا في داخلها… لكنها كانت تنظر بهما مباشرة إليه، إلى هيليوس.
“بالمناسبة، فيليا. هل أنهيتِ قراءة تلك الرواية التي استعرْتِها مني مؤخرًا؟”
سألتها كلونيت أرجين فجأة.
عندها فقط انتبهت فيليا وأعادت تركيز نظرها إلى السيدة.
أما هيليوس، فقد استخدم المنديل القماشي في حجره ليمسح فمه، وعدّل جلسته. وفي خضم ذلك، تلاشت ابتسامته المعتادة بهدوء، دون أن يلاحظ أحد.
“إذا كنتِ تقصدين صباحات أرييل، فقد أنهيته الأسبوع الماضي!” “حقًا؟ أها، إذن؟” “المشهد الذي تلتقي فيه أرييل صدفة بـ هاردن، الرجل الذي كانت تحمله في قلبها منذ الصغر، كان حقًا… رومانسيًا للغاية. وجدت نفسي أحبس أنفاسي دون أن أشعر! وحين قررت مغادرة قريتها متوجهة إلى المدينة، قلبي أنا أيضًا بدأ بالخفقان معها!”
كانت كلونيت أرجين تصغي إلى فيليا بانتباه، وعينيها تلمعان بإعجاب وهي تتابع حماس الفتاة في سردها.
“لكن، لا أستطيع أن أتفق مع رأي أرييل في أن الحياة في الريف مملة وعديمة القيمة. لو أنها عرفت كم من الأمور الرائعة يمكن للمرء أن يفعلها وسط الغابات، لكانت غيّرت رأيها بالتأكيد!”
ضحكت كلونيت بلطف: “أفكارك تشبه تمامًا ما كنت أفكر فيه وأنا شابة. على أي حال، يبدو أن عناء ركوبك لعربة البريد حتى تصلين إلى مكتبة الاستعارة لم يذهب سدى، أليس كذلك؟”
جالسة إلى جانبهما، لم تستطع ليفييل أرجين أن تتابع المحادثة تمامًا، لكنها شهقت بدهشة حين التقطت جملة “ركوب عربة البريد”.
“أوه، عربة البريد؟! هل ذهبتِ وحدك، دون خدم؟” “نعم… كان هناك ظرف خاص.”
قالت فيليا ذلك وهي تحكّ خدها بخجل، فضحكت ليفييل ضحكة عالية ملأت قاعة العشاء الرسمية بدفء ناعم.
“أوه، آنسة فيليا هي فتاة تواكب جيلها تمامًا! قوية، ومباغتة… أحب هذا النوع من الفتيات! أليس كذلك، هيليوس؟”
》》》》》
“يبدو أنكِ لستِ بحاجة إلى المال، إذن ما سبب هذا الإصرار على الجلوس بجوار هيليوس؟ حتى لو تغير العالم، لا بد من احترام بعض الحدود، أليس كذلك، روزين؟”
جملة قالتها ليفييل أرجين يومًا ما، بصوت مفعم بالعتب الواضح. أعادها الزمن إلى ذهن هيليوس فجأة، مع تلميحاتها الواضحة الآن.
ابتسم ابتسامة جانبية قصيرة، ووضع أدوات الطعام على الطاولة برفق قبل أن يجيب، بصوت هادئ:
“لا أدري.”
》》》》》
في غرفة الجلوس، حيث كانت تجلس فيليا برفقة إيفان وحدهما، أطلق هذا الأخير ضحكة قصيرة ممزوجة بالضيق، وهو يمرّر أصابعه بعصبية في شعره:
“لا أدري؟! هل هذا كل ما قاله؟ هل حقًا تحبين دوق أرجين، يا فيليا؟!”
كانت فيليا مستلقية على مسند الأريكة، تنظر بصمت عبر النافذة إلى الظلام الذي ابتلع الحديقة.
همست كما لو أنها تتحدث إلى نفسها:
“أظنه لم يستطع أن يقول بأنه يحبني، لأنه لا يفعل. لو كنتُ مكانه، لربما لم أتمكن من الإجابة أيضًا، من شدة المفاجأة… لكن لا، هذا ليس صحيحًا. أنا، فيليا دوفير، كنت لأجيب مئة مرة بنعم.”
كان إيفان يراقبها، فتنهد وقد رأى فيها تلك الصدق البريء الذي يأبى أن يكفّ عن التمسك بأوهامه.
“انسَي أمر القدر وكل هذه الخرافات. أنتِ أروع من أن تضيّعي وقتك عليه. تزوجيني بدلًا منه. أنا على الأقل أفضل من هذا الأحمق، ووالداي سيستقبلانك بذراعين مفتوحتين!”
ابتسمت فيليا بخفة، ثم تمتمت:
“أهلك رائعون… لكنك كزوج؟ لا أدري.”
“لا أدري؟!”
ضحكت فيليا، ولكن سريعًا ما خمدت ضحكتها وتهدلت ذراعاها.
كانت عيناها تتلألأ تحت ضوء النجوم المبعثرة على قمم أشجار الأرز. عادةً، كانت تتوق لأن تستلقي على الحقل العريض، وتبدأ بعدّ النجوم واحدة تلو الأخرى. لكن الليلة، لم يشغل بالها سوى تلك الكلمة الوحيدة: “لا أدري.” التي قالها دوق أرجين بصوت جامد.
الوقوع في الحب من طرف واحد يشبه الطيران بجناحين هشّين؛ ترتفع ثم تسقط، وتعاود الارتفاع ثم تسقط من جديد. كانت تلك الحقيقة التي بدأت فيليا تتقبلها مؤخرًا، أو ربما منذ مدة طويلة دون أن تعترف بها.
لكن، لم تكن تريد أن تصف هذا الألم بأنه مجرد “ألم”.
إنه ألم رومانسي… ربما إن أطلقت عليه هذا الاسم، سيكون أخف وطأة.
قالت فجأة: “إيفان… برأيك، هل دوق أرجين لا يحب الفتيات اللواتي يركبن عربات البريد وحدهن، ويهربن من منازلهن خفية للذهاب إلى مكتبة استعارة الكتب؟ لكن… تلك الفتاة هي أنا.”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات