لماذا؟ حين سُئل هذا السؤال، لم يحتج هيليوس سوى لحظة واحدة وهو يتذكر فيليا دوفير عندما التقاها في السابق، ليصل إلى أبسط استنتاج ممكن.
“لأنها كانت صادقة.”
“هذا كل شيء؟”
كان الرد أقل إثارة مما توقع، فلم يستطع ديون أن يُخفي خيبة أمله. وإن كان هناك سبب آخر، فربما هو الحفاظ على علاقة طيبة مع الكونت دوفير، لا أكثر. أما ما كان ديون يتطلّع إليه من حكاية شيّقة، فببساطة، لم يكن لدى هيليوس ما يقدّمه.
“هذا ممل… ما الذي أعجبها بك أصلاً؟ الوسامة ليست كل شيء، كما أن المكانة أو المال ليسا كل شيء أيضًا.”
“وماذا يتبقى بعد نزع كل ذلك؟”
“الشخصية، مثلاً… أو ربما…”
كان هيليوس قد أخذ بضع أوراق من كومة المستندات المبعثرة فوق مكتبه. كانت الوثائق تتعلق بالاستثمار في معاهد التدريب المتخصصة، وأخرى تلخّص العائدات غير الفعلية للسنة الماضية. عيناه استقرتا على الأوراق، وكأن الحديث قد انتهى عند هذا الحد.
أما ديون، الذي بدأ يتذمر بصوت خافت، فقد عاد إلى مضغ سيجارته، محوّلاً نظره نحو النافذة. وعندها لمح عربة تحمل شعار عائلة دووفير.
كانت العربة قد اجتازت التلّة المكسوة بأشجار الأرز، تتباطأ تدريجيًا عند طريق تحيط به أشجار الأكاسيا المصفوفة كالنفق، ثم دارت حول الحديقة وتوقفت عند تمثال من الجص.
سرعان ما فُتح الباب، ونزل منه إيفان أركاس تليه فيليا دوفير.
بدا إيفان منشغلاً تمامًا بتفاصيل مرافقتها: سلّمها القفازات التي نسيتها، ورتّب لها وشاحها الأحمر بعناية. تضيق عينا ديون وهو يراقب المشهد من أعلى، ثم يفتح النافذة إلى نصفها، ويشعل سيجارته، ويتمتم بصوت مسموع:
“ها هي آنسة فيليا وصلت أخيرًا.”
لكن حتى مع دخول تلك الفتاة، التي أصبحت مؤخرًا محط حديث الجميع في منزل أرجين، لم يظهر على هيليوس أيّ رد فعل. كانت أصابعه الطويلة تقلّب الصفحات بأناقة، وتفاصيل وجهه الهادئ الغارق في التركيز توحي بجمال جامد، لا يتفاعل مع شيء.
ألقى ديون نظرة إلى الوراء، متأملاً برود صديقه، ثم أسند ذراعه على حافة النافذة ونفث سحابة من الدخان الأبيض.
وفي تلك اللحظة، تسلل صوت ضحكة بريئة، متناقضة تمامًا مع السكون الذي يلف المكان.
كان هيليوس على وشك أن يقلّب الورقة التالية، لكنه رفع نظره ببطء.
انعكست أشعة الشمس الساطعة على عينيه الداكنتين بوضوح، ومع ضوء الريح القادمة من النافذة، تطايرت إحدى صفحات الوثائق.
***
“فيليا!”
ناداها إيفان، لكن فيليا، التي قفزت من العربة بحماسة، لم تسمعه، وراحت تجري بخفة عبر الحديقة الكبرى. غمر وجهها خدود وردية، وتشكّلت على خديها غمازات صغيرة، وكانت ضفائر شعرها المتشابكة تتمايل بمرح مع طرف وشاحها الأحمر.
أنفاسها الدافئة تصاعدت في الهواء الشتوي كضباب أبيض، متناثرة بخفة. الفرح الذي شعرت به منذ لحظة دخولها تلّة الأرز لم يهدأ، بل استمر حتى مرّت عبر ممر الأكاسيا، الذي بدا وكأنه سيغدو جنة في فصل الربيع، إلى أن وصلت مدخل القصر.
“هيا، أسرع!” لوّحت بيدها لـ إيفان وهي تلتفت حولها بانبهار. أول ما لفت نظرها هو التنسيق الطبيعي للحدائق، الذي لم يكن يبدو مصطنعًا إطلاقًا. حتى الأشجار العارية في الشتاء كانت أغصانها ممدودة بشكل فني كأن يداً خفية من الجنيات رتبتها. وحتى سقف القصر ذو اللون السماوي الباهت نال إعجابها.
“هل هناك شيء في منزل أرجين لا يتّصف بالجمال؟” هكذا فكّرت في نفسها، حين اقتربت منها خادمة بهيئة رسمية ووقار.
وفي اللحظة ذاتها، كان إيفان قد لحق بها، يلهث قليلاً من الجري خلفها.
قدمت الخادمة نفسها بأدب، ثم أخبرتهما أن “السيدتين” في انتظارهما، وأخذتهما إلى الداخل على الفور.
امتد سقف المدخل العالي برسومٍ مزخرفة، تتبعته فيليا بعينيها وهي تسير، رأسها مرفوع إلى الأعلى. وكان إيفان يسير خلفها، يوجهها بهدوء كلما انحرفت قليلاً عن الطريق.
“هل اسم هذه اللوحة ‘رقصة الربيع’؟” سألت فجأة وهي تشير إلى السقف. بدا على الخادمة بعض التردد، ثم أجابت بعد لحظة من التفكير:
“عذرًا، آنستي… لا أعرف اسم اللوحة، فقط أعلم أنها من أعمال السيد ‘درايس’.”
“آه، فهمت… لو كنت مكان السيد درايس، لاخترت اسم ‘رقصة الربيع’ لهذه اللوحة!” “هل تودين أن أنقل رأيك للسيدة الكبيرة؟”
لكن إيفان تدخّل، وهو يومئ للخادمة بعدم الحاجة:
“لا تهتمي… إنها فقط إحدى أفكار فيليا الخاصة.”
“مع ذلك…”
“ربما سيحدث الشيء نفسه عشرات المرات اليوم. ثم، ألا يبدو غريبًا أن نطلق على معركة بين محاربين ذوي أجنحة يقاتلون فوق السحب اسم ‘رقصة الربيع’؟”
قالها إيفان بنبرة هامسة، ملحقًا كلماته بابتسامة خفيفة، وهو يسرع ليخطو بجانب فيليا.
أما فيليا دوفير، التي كانت مندهشة والتي بدا لها ان المحارب الممسك برمح في السقف وكأنه يرقص، فلم تكن قد سمعت همس إيفان. كانت تمشي بخفة، وتتحرك كأن الهواء نفسه يرفعها.
صوت فستانها الطويل كان يهمس بخفة وهو ينساب على الأرض.
وعندما وصلا أمام غرفة الضيوف، أبلغهم كبير الخدم بوصول الزوّار.
“تفضّلا بالدخول.”
جاء الصوت من خلف الباب، رقيقًا وعذبًا، يحمل في نبرته نغمة تشبه عبير الورد، حتى أن فيليا شعرت كأنها شمّت عطرًا دون أن يُفتح الباب بعد. ثم انفتح الباب بهدوء، رغم ثقله.
كانت غرفة الضيوف مزينة بذوق رفيع، بعيدة عن المبالغة كما عن البساطة المفرطة، وفيها من الفخامة ما يليق بمكانة العائلة.
تجلت أجواء الغرفة بوضوح على السيدتين الواقفتين هناك، بابتساماتهما الهادئة، وهما تستقبلان الزوّار.
“مرّ وقت طويل يا فيليا.”
وضعت كلونيت أرجين الكتاب المقدس الذي كانت تمسكه جانبًا، وعلى وجهها ظهرت علامات الفرح الصادق.
“أنا سعيدة جدًا بلقاء جدتي مجددًا بهذه السرعة.”
قالتها فيليا دون تردد، وعبرت عن مشاعرها بحرية، ثم انحنت لتقبّل يد كلونيت أرجين الرفيعة. حتى حفيدها هيليوس أرجين لم يسبق له أن تعامل معها بمثل هذه الألفة.
كان من الصعب التصديق أن الاثنتين لم تلتقيا إلا ليوم واحد في الماضي. بدا واضحًا أن العلاقة بينهما أعمق مما توقّعه الجميع، حتى الخدم المحيطين، بل وحتى ليفييل أرجين، فوجئوا بذلك.
ضحكت كلونيت ببهجة نادرة، وقد تخلت عن صرامتها المعتادة ولو للحظة.
أما ليفييل أرجين، فكانت تنظر إلى فيليا بنظرة مفعمة بالرضا والقبول.
وبينما كانت كلونيت توجه تحية رسمية نوعًا ما إلى إيفان، الذي كان واقفًا بخلفية محترمة، قامت ليفييل من مكانها وتقدّمت نحو فيليا بخطى رشيقة. صوت كعب حذائها تردّد بوضوح في الغرفة الهادئة.
“تشرفت بلقائك، أنا فيليا دوفير.”
رغم أنها استخدمت أسلوبًا رسميًا في التحية، فإن طبعها المرح ونفسها الحيوي لم يُخفيا عن وجهها أو حركاتها.
ابتسمت ليفييل ابتسامة خفيفة، وأمسكت يدها برفق:
“مرحبًا بكِ. كنتُ في انتظارك.”
***
فيليا دوفير أسرت قلوب آل أرجين دفعة واحدة.
بينما كانت ضحكاتها المرحة تتردد أحيانًا في أرجاء القصر، فكّر هيليوس هكذا.
وإلا، فكيف يمكن تفسير كل هذا الصخب غير المعتاد في قصر وينستل، في ساعة متأخرة من بعد الظهيرة، حين تبدأ الشمس في الغروب؟
كان هيليوس مستلقيًا على الأريكة، رفع يده التي كانت تحجب عنه الضوء، وفتح عينيه ببطء.
الغرفة كانت قد خيّمت عليها ظلال الشفق الأولى، وانخفضت الحرارة شيئًا فشيئًا.
أعاد زرّ أكمام قميصه الذي كان قد حلّه، ثم التقط سترته المعلّقة وارتداها. لم يكن في الغرفة أحد سواه، حتى ديون اختفى، من المؤكد أنه لحق بـ فيليا دوفير هو الآخر.
فكّر: لا عجب أن الضجيج كان أكثر من المعتاد.
مرّر يده عبر شعره ليعيده إلى مكانه، ثم التقط حزمة الأوراق من أمامه، ووضعها على الطاولة قرب النافذة.
حينها، لمحت عيناه ظرفًا أبيض يبرز قليلاً من الدرج الأول.
كانت رسالة من فيليا دوفير.
لقد ازداد عدد رسائلها حتى أصبح عليه أن يخصص درجًا جديدًا لها.
لم يكن محتوى الرسائل يتقلص، بل على العكس، كان دائمًا مليئًا بالتفاصيل، كأن في ذلك الرأس الصغير عالمًا لا ينتهي من الأفكار.
سحب طرف الظرف بخفة. التاريخ أسفل الصفحة دلّه على أن هذه الرسالة كانت قد وصلت بعد يومين بالضبط من لقائهما على ممر بريتشن.
كانت تشبه سابقتها، ما عدا الجزء الأخير منها، حيث فسّرت بإسهاب سبب اضطرارها لمغادرة الممر فجأة.
“أنزلني هنا، من فضلك.”
لم يستطع كتم ضحكة خفيفة، تمامًا كما فعل عندما قرأها أول مرة.
السبب الحقيقي الذي جعلها تستعجل النزول، والذي أخفته في صوتها القلق آنذاك، لم يكن سوى رواية مستعارة من مكتبة التأجير.
ذلك السبب الساذج والمثير للسخرية جعله يبتسم رغماً عنه.
فتح درجًا جديدًا ووضع الرسالة فيه بلطف.
في البداية، لم يستطع رمي رسائلها فقط لأنها ابنة الكونت دوفير. ثم لاحقًا، بات الأمر مجرد كسل منه. أما الآن، فلم يعد يرغب في التخلص منها على الإطلاق.
كان الأمر مسليًا فحسب. أن يستمع إلى تفاصيل الحياة اليومية التي ربما، من خلال الأحلام والمُثل التي تحملها تلك الفتاة، يمكن تحقيقها بشكل أو بآخر—كان ذلك بحد ذاته مثيرًا للاهتمام. ولم يكن هناك ما هو أكثر من ذلك. مع ذلك، لم يكن قد نوى قط أن يحتفظ بكل تلك الرسائل المتراكمة على هذا النحو.
استدار هيليوس وتقدم نحو النافذة. وفيما تحرك، تمايلت سلسلة ساعة الجيب المتدلية على صدره فوق صدارته، ولمعت بخيطٍ ذهبي دافئ.
ربما لو كان ديون هنا الآن، لرمقه بنظرة غريبة، لكن هيليوس لم يكن ليكترث لذلك.
فضول. بهذه الكلمة البسيطة، كان يستطيع أن يشرح مشاعره بدقة تفوق أي شخص آخر. كل ما في الأمر أنه كان فضوليًا تجاه تلك الفتاة، التي لا يمر يوم في حياتها دون حدث مثير أو زاوية جديدة. لم يكن هناك أي شعور أعمق من ذلك.
علاقة لم يقترب منها أبدًا، لذا لم تكن هناك حاجة لوضع مسافة فاصلة. لو أن فيليا دوفير شعرت بالتعب في وقت ما، وانسحبت بنفسها، لانتهى كل شيء بسهولة. ولم يكن ليمنح لتلك العلاقة أي معنى يتجاوز ما هي عليه.
حتى الحب الذي يهمس بصدقه لا يمكن له أن يدوم إلى الأبد. منذ البداية، ذلك الشعور الذي يجعلك تعتقد أنك قادر على تقديم كل شيء، ليس إلا وهمًا لحظيًا. لذا، ستتوقف هي أيضًا عمّا قريب، عن مشاعرها.
على الأقل، حتى ذلك الحين، ستستمر الرسائل بالتراكم. وحين يأتي وقت التخلّص منها، فلن يكون الأمر مزعجًا على الإطلاق.
فيليا دوفير. كان اسمها يخطر بباله يوميًا، ثم يختفي بسهولة. واليوم لم يكن استثناءً.
امتدت أمام عيني هيليوس صورة الحديقة وقد غمرتها حمرة الشفق القرمزية، لوحة خاطفة لا تدوم سوى لحظات عند الغروب، لكنها لحظات تملك جمالًا لا يُضاهى.
اجتاحت الريح الحديقة، مكتسحة الأشجار بهديرها. وللحظة، أنصت إلى صفيرها الذي يشبه صفير الرياح أو صفارة حادة تخترق السكون.
عندها، طرق أحدهم الباب.
كان كبير الخدم، جاء لينقل له رسالة من كلونيت أرجين.
“سيدي، لقد انتهت التحضيرات للعشاء الرسمي. يرجى مرافقتنا إلى الأسفل.”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات