“لماذا تقولين إنها المرة الثانية؟” “لأني وقعت في حب دوقي العزيز مرتين. مرة عندما التقينا أول مرة، ومرة أخرى حين صادف أن التقيته مجددًا عندما زرت جدته في المرة الماضية..”
ابتسمت فيليا بمكر وهي ترفع إصبعين مشكّلة بهما علامة النصر. “فيليا، أنتِ!… لا، لا بأس.”
وضع إيفان يده على جبينه وأغمض عينيه بإحكام، ثم بدلًا من أن يلتقط الكتاب الذي كان يقرؤه، سحب الكرسي المقابل لمكان جلوسها وجلس عليه. جلست فيليا مستندة بذقنها على يدها، تحدق من جديد في النافذة وكأن نظرات إيفان الثاقبة لا تعني لها شيئًا. كانت ملامحها حينها تشبه تلك التي ارتسمت على وجهها عندما فتحت الصفحة الأولى من رواية استعارتها مؤخرًا من مكتبة الإيجار قبل بضعة أيام.
“فيليا.” ناداها، لكنها لم تجبه، وكأنها كانت غارقة في أفكارها.
اقترب إيفان برفق، وأمسك بخدها وجذب وجهها إليه، ثم قال شيئًا بدا مفاجئًا تمامًا: “دعيني أذهب معك إلى العشاء الرسمي القادم.” “ماذا؟ لا!”
صرخت فيليا كأنها سمعت شيئًا لا يُصدّق، ودفعته بحدة وهي تهز رأسها بعنف. طلب إيفان هذا لم يكن يقل جنونًا عن أن يقول لها أحدهم: “لقد وجدت نبتة نادرة من البرسيم بأربع أوراق، دعينا نقسمها بيننا.”
لكن إيفان لم يُعر رفضها الصريح اهتمامًا، واتكأ إلى الوراء براحة تامة، وهو يعيد ترتيب أزرار كم قميصه بتروٍ وثقة.
“من يدري؟ هل يمكنك حقًا أن ترفضي؟ إذا لم أذهب معك، هل سيوافق والدك على الأمر؟ هذا هو السؤال. أراهن أنه سيختلق لك عذرًا آخر ليمنعك من الخروج في ذلك اليوم. لكن إن كنتِ حقًا لا تريدينني، فلا بأس، لن أُجبرك.”
كان إيفان يعلم أن الكونت دوفير لم يمنع ابنته رغم أنه كان على علم تام بعدد الرسائل التي كانت ترسلها إلى دوق أرجين. وكان ذلك بسبب ما قالته ديانا أثناء الإفطار في أحد الأيام. ديانا كانت تفهم فيليا جيدًا، وكانت سريعة البديهة في قراءة المواقف، ووولتر دوفير كان يثق تمامًا بزوجته. ومع ذلك، لم يكن يخفي استياءه من دوق أرجين، وهذا ما كانت فيليا تدركه، ولو على نحو غير مباشر.
لذلك، ما قاله إيفان لم يكن بعيدًا عن الحقيقة. فأن تُدعَى إلى عشاء رسمي في وينستل يختلف تمامًا عن إرسال رسائل إلى هناك. توقفت فيليا لحظة، ثم رمقته بنظرة جانبية وهو يرفع كتفيه بلا مبالاة أمام عينيها.
***
“لسنا متأخرين، خذي وقتك وانزلي بهدوء.”
لكن نصيحة إيفان ذهبت أدراج الرياح. تردد صدى خطواتها الحماسية وهي تنزل درج الجوز في أرجاء المكان. كانت الكشاكش المزينة لفستانها المتأرجح مع كل خطوة، تتمايل بخفة وانسجام مع حركتها. أما القلق من أن تتعثر أو تسقط، فقد كان من نصيب إيفان وحده.
ولحسن الحظ، وصلت فيليا إلى أسفل السلم دون أن تعلق قدمها بثوبها أو تنزلق. تنهد إيفان براحة وهو يتفحّصها من رأسها حتى قدميها. كانت تسريحة شعرها المضفورة بلُطف ومعطفها الذي يناسب فستانها دليلاً واضحًا على ذوق ومهارة الخادمة التي ساعدتها.
لكن شيءًا واحدًا فقط أفسد المشهد: الوشاح الأحمر الملفوف حول عنقها. “أنتِ الوحيدة التي قد تستعد لعشاء رسمي أكثر مما تستعدين لحفلة رقص. لكن… أليس من الأفضل ألا ترتدي هذا الوشاح؟” “هذا… آتشوو!”
خرجت منها عطسة مفاجئة. مال إيفان برأسه مستغربًا، ثم وضع يده على جبينها بقلق. “هل أنتِ مريضة؟” “مجرد عطسة.”
بعد أن تأكد من أن حرارتها طبيعية، أنزل يده، لكنه بدلًا من أن يزيل الوشاح كما فكّر، قام بلفه حول عنقها بإحكام. فركت فيليا أنفها دون أن تكمل كلامها، ثم أمسكت بمعصمه وسحبته معها نحو الخارج شبه راكضة.
إذا خرجا الآن، سيصلان قبل بدء العشاء بوقت طويل. لم يكونا متأخرين كما قال إيفان، لكن قلبها كان يسبق خطاها.
وما إن خرجا من الباب حتى غمرتهما أشعة شمس الصباح. تفتّح فوق رأس فيليا قبة من السماء الزرقاء، وكانت الغيوم البيضاء، كريش الطيور، تسبح بهدوء كما لو كانت تنزلق على سطح الماء الراكد.
كان يومًا نادرًا من صفاء الطقس.
تنهدت فيليا بعمق، متأثرة بجمال الجو. صحيح أن الهواء لم يكن دافئًا كأيام الربيع، لكنه كان نقيًا ونفاذًا يتخلل جسدها من كل جانب.
“فيليا!”
أمام العربة المنتظرة، لوّح الكونت دوفير وزوجته بأيديهما بحماسة عند رؤيتهما لابنتهما قادمة برفقة إيفان. ركضت فيليا بخفة وهي تبتسم بابتسامة مشرقة تشبه صفاء السماء ذلك اليوم.
“انتبهي، لا تركضي كثيرًا.” قال الكونت دوفير وهو يفتح ذراعيه ويحتضنها بقوة، يربّت برفق على رأسها بحنو.
“سأعود بسلام.” رفعت فيليا رأسها قليلًا، وهي تنظر بتناوب إلى والديها، وقد ظهرت نبرة الإثارة والفرح في صوتها بشكل واضح. رؤية وجهها بهذه الحماسة جعلت الكونت دوفير لا يستطيع تركها بسهولة، وكأنه يودّعها وداعًا أبدياً، وظل يحتضنها بعينين يغشاهما الحزن.
لم تحتمل ديانا ذلك المنظر، فعاتبته بلطف: “عزيزي، دعها الآن، ستختنق ابنتنا إن بقيت ممسكًا بها هكذا.” أرخى الكونت ذراعيه على مضض، وعيناه لا تزالان مشبعتين بالأسى والحنين.
ربما فكّر حتى الليلة الماضية في حجج يختلقها أمام سيدات منزل أرجين، كأن يقول إن عجلات العربة تعطّلت أو أن الأحصنة أصيبت بعسر هضم.
“عودي بخير، وتصرفي كما يليق بسيدة. لا تسببي المتاعب لسيدات أرجين، مفهوم؟” بعدما عانقت ديانا، صعدت فيليا بسرعة إلى العربة.
في تلك الأثناء، تبادل إيفان دفقات سريعة من النظرات مع الكونت دوفير، مذكّرين نفسيهما بالوعد الذي قطعاه في الليلة الماضية، بأن يراقب إيفان جيدًا كلاً من فيليا والدوق. ولأن الكونت وافق على هذه الرحلة مستندًا إلى ثقته به، لم يكن له أن يعتمد على أحد سواه.
“اصعد بسرعة! ماذا تنتظر؟” “أوه، حسناً.” صعد إيفان أخيرًا إلى العربة بعد أن تبادل نظرات التأكيد مع الكونت.
انطلقت العربة وسط سحابة من الغبار. ومع مرورها بين الأشجار، تساقطت أنماط الضوء المتباينة على سطحها، كأنها لوحات تتبدل باستمرار.
استمعت ديانا إلى صوت سنابك الخيل يتلاشى تدريجيًا وهي واقفة في مكانها، وعندما غاب المنظر عن ناظريها تمامًا، وخزت جانب زوجها بكوعها، وعبست قليلًا.
“أنت أيضًا، لا تتغير.” كان واضحًا أنها أدركت منذ زمن وجود اتفاق سري بين إيفان أركاس وويلتر دوفير.
“أنا قلق، لا يمكنني منع نفسي من ذلك.” انخفضت كتفيه العريضتين، وبدا على الكونت بعض الكآبة. في المقابل، تلألأت عينا ديانا البنفسجيتان بوضوح وهي تنظر إليه.
“حتى أنا لا أثق كثيرًا في دوق أرجين الذي يتغاضى عن تلك الشائعات السيئة. لكن، رؤية فيليا تتصرف بهذه الحماسة يجعلني أتساءل، هل هناك جانب آخر من الدوق لا نعرفه؟” “ديانا، هذا لأنك لم تريه بنفسك.” “ليس من السهل إطلاق الأحكام. لذا، دع الأمر بيد الأولاد. يبدو أن الدوق ما زال غير مهتم بفيليا، ولا توجد مشكلة مباشرة في الوقت الحالي. ثم، دعني أخبرك، الفتيات لا يحببن هذا النوع من التدخل. حتى عندما قابلتك، والدي…”
تنحنح الكونت بسرعة، وأمسك يد ديانا برفق، مقاطعًا حديثها. “دعينا نكمل هذا الحديث داخل المنزل. أو يمكننا تغييره تمامًا، لا بأس.”
كان الكونت دوفير، الذي ذاع صيته كرجل صارم وبارد، يبدو عاجزًا فقط حين يتعلق الأمر بحكايات والد زوجته. أما ديانا، التي كانت ذات يوم إحدى جميلات إرنيل البارزات، ابتسمت ابتسامة خفيفة تليق بسمعتها وقالت:
“كما تريد، عزيزي.”
***
عادت ليفييل أرجين.
الرحلة التي بدأتها غاضبة من هيليوس استمرت أطول مما توقعت، لكنها كانت ممتعة على طريقتها. في البداية كانت تنوي البقاء حتى نهاية الشتاء، لكن موعد عودتها تقدم فجأة. وعادت تمامًا في اليوم التالي للقاء كلونيت أرجين مع فيليا، وكأن التوقيت قد قُدر بعناية مدهشة.
عندما وطأت أقدامها قصر وينستل، بدا أنها نسيت كل الغضب الذي شعرت به ذات يوم عند قراءتها رسالة روزين. واجهت هيليوس بوجه مشرق، كما لو أن شيئًا لم يكن.
ولم يكن السبب سوى أمر واحد: في رسالة الخادمة التي كانت توافيها بأخبار قصر وينستل، ورد ذكر فيليا دوفير، الابنة الوحيدة لعائلة دوفير.
وكانت ليفييل أرجين هي من أقنعت كلونيت أرجين بتقديم موعد العشاء الرسمي، الذي كان من المقرر إقامته في أوائل الربيع، ليُعقد اليوم تحديدًا.
“آه، ضعه هناك من فضلك.” أشارت ليفييل أرجين إلى وسط الطاولة التي نُظمت عليها أدوات المائدة الفضية بدقة. وضع البستاني المزهرية التي كان يحملها برفق وتراجع بهدوء.
بدأت ليفييل تدندن بلحن خفيف وهي تداعب بتأنٍّ بتلات الورود الرقيقة المزروعة في الدفيئة.
“تبدين في غاية البهجة. أكثر حتى من يوم تتويج عمتك كملكة.”
***
في تلك اللحظة، كان ديون وهيليوس يمران صدفة بجوار قاعة العشاء الرسمي، فشاهدوا ذلك المشهد بأعينهم. بدأ ديون بإلقاء تعليقاته التافهة كعادته، غير مصدق لما يحدث، وقد عبر عن دهشته بالكلمات التي تتدفق من فمه بلا توقف، أما هيليوس، فلم يُبدِ أي اهتمام يُذكر.
كان يتجاوز الخدم المنهمكين في التحضيرات لاستقبال الضيفتين الكريمتين، متوجهًا بخطى ثابتة نحو غرفته. وقع خطوات حذائه المنتظمة التي تتردد في الرواق كانت توحي بهدوءٍ يتعارض كليًا مع الضوضاء التي ملأت القصر منذ ساعات الصباح.
كلما صادف أحد الخدم، بادره هؤلاء بالتحية، فيكتفي بهز رأس خفيف، ردًا مهذبًا بطريقته المعتادة: لطيف، لكن دوماً بحاجز واضح لا يُخطئه أحد.
“يا للروعة، آنسة فيليا مذهلة بحق! لقد استطاعت أن تكسب رضا جدتك وتُدعى رسميًا إلى العشاء؟”
ظل ديون يتحدث حتى بعدما وصلا إلى باب الغرفة، ولسانه لا يهدأ. “واو، حقًا؟! لا أصدق!” كلمات إعجابه كانت في معظمها تمجيدًا لـ”فيليا دوفير”. قال، بنبرة توحي بأنه يرى فيها فتاة غير عادية، منذ اللحظة التي عرضت فيها الزواج على رجل تراه لأول مرة.
لكن هيليوس، كعادته، تجاهل كل هذا الهراء، ودخل الغرفة بهدوء.
كانت الشمس تغمر المكان، ونورها الساطع يعكس ذرات الغبار التي راحت تتطاير من فوق جهاز الموسيقى والطاولة، متلألئة في الهواء.
أمسك هيليوس بساعة الجيب الموضوعة على الطاولة الجانبية. في تلك الأثناء، أشعل ديون سيجارة وسار نحو النافذة.
“لكن، دعني أسألك… لماذا لا يوجد أي حديث عن آنسة فيليا في مغامراتك العاطفية؟ الجميع في وينستل لا يتحدثون سوى عنها هذه الأيام.”
“لقد منعت ذلك.”
جاء الرد من هيليوس، ببساطة باردة، على سؤال طرحه ديون دون نية جادة.
“ماذا؟”
“المقال… أوقفته.” قالها وهو مستلقٍ بكسل على الأريكة، مسندًا ذراعه على المسند الجانبي.
“…ماذا؟” أنزل ديون السيجارة التي لم يشعلها بعد، وقد تجمدت ملامحه لوهلة كأنه لم يستوعب ما سمعه للتو. ثم، بعد برهة، ارتسمت على وجهه ابتسامة ذات مغزى غريب، ابتسامة خبيثة خافتة لا تخطئها العين.
“أنت غريب جدًا، حقًا. الجميع كنت راضٍ تمامًا بأن تستخدم أسماؤهم في إشاعاتك العاطفية، فلماذا وحدها الآنسة فيليا استثناء؟”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات