نظر إليها هيليوس بعينين خاليتين من أي اهتمام. كان الغروب قد ابتلع الأفق سريعًا، ولم يبقَ سوى ضوء القمر الأبيض المنتشر بضبابية ليضيء الطريق. الوقت قد تأخر، والمضيّ قدمًا وحدها في مثل هذه الساعة ليس بالحكمة.
فلماذا هذا الإصرار؟
أدار بصره عن كتفي فيليا المتدليتين بإرهاق، ثم أسند جسده إلى المقعد وأغمض عينيه بهدوء.
“هذه المشاعر جديدة عليّ، ما زلت أتعلم كيف أتعامل معها، لكن ما أنا متأكدة منه هو…”
مهما كانت الكلمات التي أرادت قولها، لم يكن بحاجة إلى سماعها. لو أن الجملة اكتملت، لما نتج عنها سوى حوارٍ عقيم بلا معنى.
عندما بدأت تتلاشى في ذهنه بقايا صوت فيليا دو فيير، العالقة كأثرٍ طيفي، أحس بشيء ما في يده. كان الملمس ناعمًا، والدفء المتبقي فيه لطيفًا.
فتح عينيه نصف فتحة ليتحقق مما في يده: كانت وشاحًا أحمر.
ضغط بأصابعه على طرف عينه، وكأنه يزيح عنها بعض التعب، وزفر تنهيدة قصيرة، ثم أمسك بالوشاح وخرج من السيارة.
هل تذكّرت في اللحظة الأخيرة أنها نسيته؟ فيليا دو فيير كانت بالفعل في طريقها نحوه.
كانت تمشي نحوه بخطى سريعة، بل حادة، وكأنها تخترق الريح بإصرار، إلى أن وقفت أمامه بملامح حاسمة، شفتيها مضمومتين بإحكام.
تحت عينيها، كانت هناك حمرة خفيفة. “هل كنتِ تبكين؟”
“دوقي المحترم.”
جاء صوتها صافيًا وواضحًا، تنطق اللقب حرفًا حرفًا، دون أن تجيبه على سؤاله.
“الوقت الذي نمضيه مع أحد، لا يعادل دائمًا عمق مشاعرنا نحو بعضنا. حتى لو أعجبت بك في لحظة قصيرة، فهذا لا يعني أن مشاعري سطحية.”
بدا وكأنها جاءت إليه فقط لتتحدث عن الزمن والحب. ابتسم هيليوس ابتسامة مرهقة في وجه هذا الاعتراف المحرج. ظن أنها جاءت لأجل الوشاح فحسب، لكنه كان مخطئًا.
“آنسة فيليا، ما الذي…؟”
“لقد قلتَ قبل قليل… إن الأمر كان مزحة. لكنني لم أحاول خداعك أو اللعب بمشاعرك أبدًا. كل كلمة، كل فعل صدر عني حتى الآن، كان نابعًا من قلبي. أستطيع أن أُقسم على ذلك، بأمانة، على درب بريتشين هذا الذي نقف عليه الآن.”
لم تكن هذه المرة تستخدم إيفان أركاس كقربان لقسمها، بل اختارت درب بريتشين. ومن دون تردد، واصلت فيليا إيصال ما بداخلها من صدق.
“أنا أحبك، يا دوق. أحبك كثيرًا.”
كان الهواء المحيط بهما باردًا، لاذعًا، لكن اعترافها، المعبأ بدفء أول حب في قلب الشتاء، كان دافئًا، مشرقًا.
قبضتاها الصغيرتان كانت ترتجفان بخفة، والطرف الأبيض من معطفها كان يرفرف جنبًا إلى جنب مع خصلات شعرها البني الفاتح.
نظرت إليه بثبات، وعيناها لا تحملان أي تردد. ولأول مرة، بوجه خالٍ من أي ابتسامة، نظر إليها هيليوس مطولًا.
النظرة التي كانت تحت رموشها الدقيقة، كانت من النوع الذي لا يمكن وصفه بسهولة. لم يسبق له أن رأى أحدًا ينظر إليه بهذه الطريقة.
“ستخذلين نفسك، في النهاية.”
في سكونٍ مشوبٍ بالغموض، كان هيليوس هو من كسر الصمت أولًا. كانت كلماته ناعمة، خافتة، لكنها لم تخلُ من التحذير:
“لا، لن أندم.”
“ألم تسمعي عن الشائعات التي تدور حولي؟”
“لكن تلك الشائعات ليست حقيقة، أليس كذلك، دوقي؟”
لم يكن يعلم ما الذي رأتْه لتتحدث بهذه الثقة. لكن الشيء الوحيد الذي تأكد منه في تلك اللحظة، هو أنه كان مخطئًا، وهي، تلك المرأة، كانت على حق.
في هذه اللحظة بالذات، كان هيليوس يواجه صدق مشاعر فيليا دو فيير، بلا مواربة.
النجوم اللامعة تناثرت في السماء الداكنة، تتلألأ فوق رؤوس أشجار الحور على جانبي درب بريتشين. وفي ذلك الطريق الساكن، حيث حتى الأنفاس كان يمكن سماعها، خطا هيليوس خطوة واحدة إلى الأمام.
ثم قال ما كان بوسعه قوله الآن:
“سواء كانت مشاعرك صادقة أو مجرد مزحة، فلن يغيّر ذلك جوابي. دعينا نعتبر أنني لم أسمع شيئًا، هذه المرة أيضًا.”
لكن فيليا لم تتردد لحظة، بل اقتربت منه بخطوتين، تقلّصت المسافة بينهما حتى لم يتبقَ سوى شبر واحد فقط.
“حسنًا، إذًا دعها تمر كأنك لم تسمعها، هذه المرة.”
ثم أضافت، بثقة هادئة:
“لكن، في يومٍ ما، سأظل أقترب حتى تصل مشاعري إليك، يا دوق.”
كانت آنسة آل دو فيير، التي ترعرعت في قلب عائلةٍ غمرتها المحبة، ذات أحلام رومانسية أكبر من الحد. ربما لهذا السبب، كانت متيقنة بأن مشاعرها ستصل إليه يومًا ما.
حدّق هيليوس إلى الفتاة الواثقة التي أمامه، والتي توشك أن تصبح شوكة في خاصرته قبل خطوبته المقبلة هذا العام، ثم وضع الوشاح الأحمر، الذي ظل يحمله، بين يديها.
وعندما وقعت عينا فيليا على وشاحها الأحمر، الذي عاد إليها من جديد، رنّ صوت هيليوس، عميقًا وخافتًا:
“إذًا جرّبي. أي شيء. إلى أن تنهكي.”
رفعت فيليا رأسها ببطء. وابتسمت، كمن تشرق الشمس في وجهها في يوم ربيعي. الخجل الوردي الذي لطّخ وجنتيها أعاد لهما الحيوية.
“حسنًا!”
كان من الواضح أنها فهمت كلماته على غير معناها. ردها الصافي والمضيء، الخالي من أي ظل للريبة، أكّد له ذلك.
ضحك هيليوس ضحكة قصيرة، وكأنما لم يصدق ما حدث، ثم عاد إلى السيارة.
أما فيليا، فكانت تلوّح له بيدها مرارًا وهي تنظر خلفها، وكأنها لا ترغب بمغادرته. وقد استغرق منها الأمر ضعف ما تستغرقه عادة لمغادرة الدرب.
راقب هيليوس خطواتها المرحة، المختلفة تمامًا عن ذي قبل، وحين غابت عن ناظريه تمامًا، أمر سائقه بصوت هادئ:
“لنذهب.”
وفي اللحظة التي سحب فيها ربطة عنقه إلى الأسفل، انطلقت السيارة.
ظلّ هيليوس يحدّق من النافذة بصمت، وأحيانًا، كان يبتسم بسخرية دون صوت.
“الوقت الذي نمضيه مع أحد، لا يعادل دائمًا عمق مشاعرنا نحوه. حتى لو أعجبت بك في لحظة قصيرة، فهذا لا يعني أن مشاعري سطحية.”
كان لافتًا إلى أي مدى كانت الفتاة تختلف عن والدها، الكونت دو فيير، المعروف ببروده وعقليته الصلبة. كيف تحوّل ذلك العقل الصارم إلى أحلامٍ رومانسية في ابنته؟ خطر لهيليوس أن فيليا دو فيير قد ترى الزهور تتفتح في عزّ الشتاء، أو الثلج يتساقط في منتصف الصيف.
ومن خلال تفاصيل حياتها اليومية التي طالما كتبتها له في رسائلها، بدا أن هذا التصور لم يكن بعيدًا عن الواقع.
السيارة التي أقلّت هيليوس غادرت درب بريتشين، ومرت عبر غابة صغيرة تحيط بها أشجار الراتينج. سريعًا، تجاوزت حدود المدينة.
امتد الطريق المتصل بوينستل بمحاذاة مجرى نهر. وكان نهر فامويل، الذي غمره ضوء القمر، يتلألأ بلون الفضة، وينساب بهدوء.
أغمض هيليوس عينيه ببطء.
وفي الظلمة، طافت في ذهنه صورة عيني فيليا اللامعتين، اللتين أرهقتاه طيلة النهار بنظراتهما البنية الندية.
وبينما كانت عربته تمر بجانبها، كانت هناك عربة بريد، تحمل رسالة جديدة من فيليا دو فيير، تمر بمحاذاة سيارة دوق أرجين.
●●●●
“هل هدأتِ الآن قليلًا؟”
“نعم!”
أجابت فيليا بعد أن أخذت نفسًا عميقًا كردٍ على سؤال إيفان. لم يكن الأمر أكثر من رسالة. رسالة واحدة فقط، بل ولم تكن حتى من دوق أرجين الذي تنتظره، بل من كلونيت أرجين. وبرغم ذلك، كانت مفعمة بالفرح، سعيدة كطفلة، بسبب رسالة جاءتها من شخص لم تكن تتوقعه.
بعد أن ظلت تقفز في المكان طويلًا، عادت فيليا أخيرًا إلى حالتها المعتادة بعد ساعات من الحماسة. لكن حتى ذلك “الهدوء” لم يكن سوى وجه آخر لفرحتها.
أما إيفان، الذي كان يكتم توتره منذ لحظة الإعلان عن وصول رسالة من وينستل، فقد تنهد بارتياح وأخذ يهزّ رأسه.
“لكن، كيف عرفتك تلك السيدة؟”
“رأيتها صدفة في مكتبة هولت المستأجرة.”
“كنت أعلم أن تأخركِ في ذلك اليوم ليس عاديًا! هل تعلمين كم كان من المتعب أن أبرر تأخرك لعمي وخالتي؟ لا، لا، الأهم من ذلك… يوم واحد فقط، وبعده تبادل رسائل؟!”
“لقد تقربت من جدتها. وبيننا تناغم كبير.”
“تلك السيدة؟ المشهورة بالصرامة والتعقيد؟! هل أنتِ متأكدة أنكِ تعرفين من تتحدثين عنه؟ فيليا، لعلّك أخطأتِ في الحكم على الشخص.”
رمقها إيفان بنظرة تشكك وهو يُلقي نظرة سريعة على الرسالة.
“إنها سيدة رقيقة للغاية. كل كلمة تنطق بها مشبعة بالأناقة والرقي… لا يمكنك تخيل ذلك أبدًا. آه، أتمنى أن أشيخ يومًا كما تفعل هي، محتفظة في قلبي بذكريات ثمينة.”
راحت فيليا تُلقي بكلمات يصعب على إيفان فهمها، ثم تناولت سكين الورق الذي أحضرته الخادمة. جلست بشكل مستقيم نادرًا ما يُرى منها، وكأنها تستعدّ لمراسم مقدسة، تُضمر في قلبها قدسية خاصة لتلك اللحظة.
وضع إيفان الكتاب الذي كان يمسك به على الأريكة واقترب منها.
وبعد لحظات، وبينما كانت فيليا تقرأ الرسالة، أطلقت صرخة مفاجئة، ثم وقفت فجأة، وراحت تدور حول نفسها بسعادة. تطاير قماش فستانها المصنوع من الموسلين الأخضر الزمردي بخفة.
“إيفان، ماذا أفعل؟!”
“ما الذي كُتب فيها لتجعلكِ بهذه الحال؟”
تعثّرت قدم فيليا بطرف الطاولة، لكنها هوت على السرير وهي تعانق الرسالة وكأنها أثمن كنز، وانفجرت في ضحكة مكتومة. تدلّت خصلات شعرها المربوطة بشريط عاجي برقة من طرف السرير.
“على الأقل الآن أنا واثق أن محتوى الرسالة جيد، ما دمتِ بهذه الحالة.”
طبعت فيليا قبلة قصيرة على بداية الرسالة، ورفعتها عاليًا وهي تقول:
“إنها رسالة تُحقق أمنية طالما انتظرتها.”
“هل قال الدوق الوسيم شيئًا عنك لزوجته؟”
“لا، ولكن… ها، خذ واقرأها بنفسك. سأسمح لك وحدك، إيفان، أن تطّلع عليها.”
أخذ إيفان الرسالة، واتكأ على الحائط وبدأ يقرأ ببطء.
بدأت الرسالة بتحية دافئة وسؤال عن حالها، ثم انتقلت مباشرة إلى تحديد موعد عشاء رسمي، مع طلبٍ صريح بالحضور.
“ما هذا؟”
“ماذا تظن؟! لقد تمت دعوتي رسميًا إلى وينستل!”
غسل إيفان وجهه بكفيه كمن يحاول إزاحة الحيرة عن وجهه، ثم قطّب حاجبيه.
“هل تنوين فعلاً الذهاب؟”
“بالطبع.”
“هل تظنين حقًا أنكِ ستنجحين في نيل قلب دوق أرجين؟”
“بكل تأكيد.”
انتزعت فيليا الرسالة من يده وهي تدندن بنغمة فرحة، ثم طوتها بعناية وأودعتها في الدرج الأول من خزانتها، ذلك الدرج الذي خصصته لحفظ أثمن ما تملك.
هناك، بجانب حبة لؤلؤ صغيرة ومستديرة، وعملة تذكارية أُصدرت بمناسبة تتويج الملكة، وبطاقة بريدية تذكارية من معرض نباتات، وضعت رسالة كلونيت أرجين، لتكون جزءًا من ذكرياتها التي لا تُنسى.
ربما كانت مشاعرها تتأجج شوقًا للعشاء الرسمي القريب، وربما كان صدى كلمات الدوق الدافئة، تلك التي قالها وهو يسلّمها وشاحها، لا يزال يتردّد في صدرها.
أغلقت فيليا الدرج برفق، وجلست عند النافذة. رغم أن السماء الشتوية كانت رمادية قاتمة في هذا اليوم، إلا أن عينيها، اللتين امتلأتا بأمل الأيام القادمة، رأتا السماء بلون وردي باهت، كما لو أن الربيع يلوّح من بعيد.
وكما أن كل شيء يبدو جميلًا حين يذوب في غروب حالم، هكذا بدا العالم أمام عيني فيليا الآن، حالمًا، مترقرقًا، جميلًا بلا سبب.
“ألا تعلمين أن الحب الأول لا يكتمل أبدًا؟”
قال إيفان، الذي لم يتوقف عن بث التشاؤم منذ البداية، فأجابته فيليا بنظرة جانبية باردة، ولكن بكلمات ساخرة هادئة:
“أوه، حسنًا، هذا مطمئن إذًا. لأني أنا لستُ الحب الأول… بل الثاني.”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات