حين سمعت فيليا تلك الكلمات، شكّت في أذنيها أولاً. لا يمكن أن يكون الدوق… مستحيل. وحين استدارت لترى، شكّت هذه المرة في عينيها. لا، لا يمكن أن يكون هو.
لكن… حين ابتسم، لم تعد تملك أي شك. عندها فقط، استطاعت أن تُسلّم بالحقيقة: الرجل الذي يقف أمامها هو دوق أرجين. فما من شخص آخر في هذا العالم يبتسم بتلك الطريقة سواه.
حين تصبح الأمنية حقيقةً أمام ناظريك، يصبح أول ما يطرق القلب ليس الفرح، بل الخوف… الخوف من أن تكون هذه الحقيقة مجرد حلم. فيليا اختبرت هذا الشعور اليوم للمرة الأولى، ولهذا استغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تستوعب أنها مستيقظة بالفعل.
“ألَم أقل لك؟ لا أحد يعرف دوق أرجين كما يعرفه حفيدي.”
في تلك اللحظة، انفرج وجه فيليا الذي ظلّ جامدًا قليلاً، واتسعت ابتسامتها حتى ظهرت الندبة الصغيرة عند خدها. وغاصت غمازتاها بعمق، ترسمان على ملامحها بهجة خالصة.
“كيف يمكن أن تحدث مصادفة كهذه؟”
“لست أدري إن كانت مصادفة… أم قدَرًا. لا بد أنها إحدى الاثنتين.”
كلونيت أرجين، تلك السيدة العجوز المهيبة التي تحوّلت اليوم إلى صديقة قلبها، نهضت ببطء وابتسامة هادئة على شفتيها.
“اسمي كلونيت أرجين. تذكريه، فيليا. كنت أودّ أن نتحدث أكثر، لكنني أشعر بالإرهاق، ويجب أن أعود الآن. لقد سعدت كثيرًا بوقتي معكِ… يا له من شعور جميل أن تجدين صديقة تتناغم روحك معها بهذا الشكل.”
“وأنا أيضًا، بالطبع! كلما مررت في شوارع ديربيانا من الآن فصاعدًا، سأتذكركِ بالتأكيد يا جدتي.”
نظرت كلونيت أرجين إلى حفيدها، ثم إلى فيليا التي أظهرت حزنًا واضحًا لسماع خبر مغادرتها، ثم أعادت ترتيب قبعتها بعناية.
“بدلاً من وداعٍ سريع، سأوجه إليكِ دعوة رسمية للعشاء. نلتقي مجددًا قريبًا ونتحدث عما تبقّى.”
نظراتها التي أرسلتها من تحت ظل قبعتها كانت دافئة كما كانت دومًا. فوجئت فيليا بالعرض، واتسعت عيناها:
“أنا… أنا؟ إلى العشاء؟”
“نعم، طبعًا. كضيفتي الخاصة. عليكِ أن تأتي، يا فيليا.”
وربتت كلونيت أرجين على يديها بلطف، مرتين، وكأنها توثّق وعدًا بين صديقتين. ما الذي يحدث؟ لا تعرف تمامًا، لكنها حصلت اليوم على فرصة لرؤية الدوق مرة أخرى، ووجدت صديقة تشعر وكأنها كانت تعرفها منذ زمن… بالتأكيد، لا بد أن الحظ ابتسم لها أخيرًا.
حين أومأت فيليا برأسها موافقة، ارتسم على وجه كلونيت أرجين تعبير من الرضا الممزوج بالفخر. لكن في أثناء ذلك، كانت فيليا لا تكفّ عن التحديق خلسة في هيليوس.
أما هو، دوق أرجين، فلم ينطق بعد التحية بكلمة واحدة. صمته هذا، وسط لهفتها، جعل اللقاء يبدو أقصر وأبرد مما تمنت.
وإن كانت هي وحدها من يشعر بالشوق، فإن هذا النوع من اللقاءات نادرًا ما يطول.
لكن رغم ذلك، كان الأمر جيدًا. فكل لحظة خافتة تترك شوقًا أكثر، وترقّبًا أكبر للقاء القادم.
لا حاجة للحزن يا فيليا دو فيير! قالت لنفسها بصمت.
كانت تظن أن نظرتها لن تطول، لكنها بقيت معلقة بوجهه، تقرأ ملامحه بصبرٍ كأنما تحفظه للغد. وقد لاحظت كلونيت أرجين ذلك جيدًا. ابتسمت، ثم قالت بنبرة هادئة، لا تخلو من العبث:
“آه، بالمناسبة يا عزيزتي… لست بحاجة لركوب عربة السفر مجددًا.”
“عذرًا؟”
“هيليوس، خذ فيليا معك وأوصلها جيدًا.”
ثم غمزت كلونيت أرجين بعينها، وهي ترفع حاجبها بخفة. فهي التي تناغمت مشاعرها مع فيليا بهذا الشكل، كانت تعرف تمامًا ماذا تفعل.
●●●●
أضاءت مصابيح السيارة الشارع الذي بدأ يكتسي بعتمة المساء. جلس هيليوس أرجين مستندًا بذقنه إلى يده، وعيناه تتبعان بصمت المشهد المنساب خارج النافذة طوال الطريق إلى بريتشن.
كان المساء يعلن عن قدومه بهدوء، والمصابيح الغازية تبدأ في التوهج واحدة تلو الأخرى. بعكس حيوية ساعات العصر، كانت هذه الساعة تحديدًا تفيض بسكون خاص، وعذوبة دافئة تسري في الطرقات.
وحين مرّوا بمحطة نهر فومويل، تناهى إلى أسماعهم من بعيد صوت صافرة قطار بخاري، خافتًا لكنه مميز. وفي الخلفية، كان حفيف الرياح التي تهزّ الأغصان يملأ السيارة بصوت متزن، لا يزعج ولا يطغى… مجرد ضوضاء خفيفة تليق بذلك الصمت الرقيق.
كانت فيليا تعبث بأزرار معطفها دون سبب واضح، ثم رفعت نظرها للحظة، تحاول أن تتابع هي الأخرى ما ينظر إليه هيليوس خارج النافذة.
لكن في النهاية، لم تستطع عيناها إلا أن تعودا لتستقرا عليه… حيث كان دائمًا.
الرجل الذي رسمته آلاف المرات في خيالها، منذ يوم لقائهما الأول، كان الآن يجلس بجانبها.
حبست نظراتها على جانبه، على وجهه المألوف الذي لم تشبع منه بعد. شارع ديربيانا، الذي كان دومًا مثيرًا في عينيها، بدا اليوم بلا طعم، بلا نبض، ما دامت الجالسة بجانبه.
لو كان للثلج الأول الذي يهطل في عزّ الشتاء روح، ولو أن تلك الروح اتخذت جسدًا… فلا شك أنه سيكون مثل هذا الرجل.
من الخط المستقيم لأنفه، إلى شفتيه المطبقتين في نعومة، راحت نظراتها تنزل ببطء، عندما…
“إن كان لديكِ ما تودين قوله، فقولي. لا تكتفي بالنظر إليّ هكذا.”
فُتحت شفتاه المصبوغتان بحمرة خفيفة فجأة. لم يلتفت إليها، ولا زال يحدق في الخارج، لكن صوته كان واضحًا.
فزّت فيليا كأنها التُقِطت متلبسة.
“كيف عرفتَ أنني أنظر إليك؟”
“من المستحيل ألا أعرف.”
كان جوابه ناعمًا… وقاطعًا.
آه، صحيح… من المستحيل ألا يعرف. ردّدت ذلك بصوت منخفض، بينما استدارت بكامل جسدها نحوه هذه المرة، وقد امتلأ وجهها بعفوية لا يمكن إخفاؤها.
“في الواقع… كنت أظن أن لدي الكثير لأقوله حين أراك مجددًا. لكن لما رأيت وجهك… نسيت كل شيء. والشيء الوحيد الذي أستطيع قوله الآن هو أنني سعيدة جدًا… لأنك تذكرت وجهي.”
قالت إنها نسيت، لكنها قالت الكثير. جملتها كانت طويلة، غنية، مليئة باللهفة التي حاولت إخفاءها. وحين انتهى صوتها العذب، التفت إليها هيليوس ببطء، وابتسم بخفة.
“كيف لي أن أنسى؟ أنتِ السيدة التي طلبت يدي في أول لقاء لنا.”
غمرت ملامحه أشعة الشفق البنفسجية التي عبرت من خلال زجاج السيارة، حتى بدا كأنه مغلف بضياء مسائي هادئ.
رغم أنه لم يكن أكثر من نظرة، لمسة بصرية فقط، إلا أن شيئًا ما في الهواء تماوج، كأن نسيمًا عبر القلب فجأة.
“ثم…”
رأت فيليا عربة بريد تمرّ بسرعة بجانب نافذتهم، فالتفتت إليه مجددًا، وعيناها تتلألأ كنجمة ساطعة.
“هل… هل وصلت رسائلي إليك؟”
“آه، تلك الرسائل.”
“لقد أرسلتُ عددًا لا بأس به منها!”
“نعم، وصلت. جميعها، في الواقع. لكن يا آنسة فيليا…”
كان في نبرته لطف، لكنه أيضًا ممزوج بزفرة خفيفة وابتسامة غامضة.
“… ألا ترين أن الوقت قد حان للتوقف عن هذه المزحة؟ أنا لست غاضبًا، لكن… أن أستمر بتلقيها هكذا يجعلني أشعر ببعض الضيق.”
“ماذا…؟”
تجمد عقلها.
ما الذي يقصده؟ أي مزحة؟
كان على فيليا أن تفكر طويلًا، تقلب كلماته في عقلها مرارًا حتى تفهم ما قاله. وفي النهاية، فهمت.
هو يظن أن كل ما شعرتُ به… كان مجرد لعبة.
هيليوس ابتسم بلطفه المعتاد، تمامًا كما يفعل دائمًا، وقال:
“أحتمل هذه الوقاحة فقط لأنكِ ابنة كونت دو فيير. لكن حتى لهذا السبب، هناك حدٌ لا يمكنك تجاوزه… أليس كذلك؟”
كان يعتبر مشاعرها الحقيقية مزاحًا. وتجاهل تمامًا مدى جدّية كل حرف كتبته له، مدى نقاء نيتها.
كيف؟ كيف أمكنه أن يسيء فهمها هكذا؟ هل السبب كان في طريقة اعترافها المفاجئة؟ أم هل كتبت في رسائلها شيئًا يمكن أن يُفسّر على أنه تهريج؟
“ماذا تعني بكونها مزحة؟ هذا غير معقول.”
“إذا لم تكن الكلمات والتصرفات التي تقومين بها الآن، آنسة فيليا، مزاحًا… فما تكون إذن؟”
“ربما أنا خرقاء لأن هذه المشاعر جديدة عليّ أيضًا، لكن الشيء الوحيد الذي أنا واثقة منه هو—”
“كفى.”
“لكن لا زال لدي ما أريد قوله—”
“كفى، قلت. لم نكن شيئًا من الأساس، والحديث عن حبك بهذه الطريقة يجعل الامر يبدو مضحكًا لا أكثر.”
قاطعها هيليوس فجأة، كما لو أن كلماته قُطعت بسكين. كان وجهه يحمل ابتسامته المعهودة، القصيرة، المهذبة، الباردة… ثم صرف نظره عنها، وأعاد بصره إلى النافذة.
كان يطلب الصمت. وفيليا، التي تلعثمت وترددت، لم تجد بدًا من الرضوخ لرغبته. لم تكن غاضبة، ولم تكن حزينة تحديدًا… لكن ألمًا غريبًا سرى في صدرها، وحرارة غير مفسّرة تسللت إلى حلقها.
كانت هذه أول مرة تختبر فيها هذا النوع من المشاعر، ولم تستطع حتى أن تجد لها اسمًا. شدّت قبضتها حول الوشاح الذي كانت قد خلعته، وكأنها تتشبث بشيء يمنعها من الانهيار.
كان عليّ أن أشرح له. أن أوضح. لكن أمام شخص يبتسم بتلك الطريقة، لم تستطع قول شيء، كما تفعل عادة. أحست بالضيق، فقط… ضيق صامت.
اندفعَت السيارة بسرعة أكبر، متجاوزة حدود ديربيانا نحو حقول بريتشن، تخترق المراعي الواسعة تحت أفق مائل للغروب، بصمتٍ ثقيل.
مر الوقت، وساد السكون الطويل حتى خيّم المساء، وفجأة، قطع السائق ذلك الصمت بعبارة حذرة:
“لقد اقتربنا من وجهتنا.”
رفعت فيليا رأسها بسرعة، وكأنها استيقظت من حلم، ثم نظرت حولها بسرعة وقررت:
“من فضلك… توقف هنا.”
“هنا؟!” سأل السائق بدهشة.
حتى هيليوس، الذي بقي صامتًا طوال الطريق، قطب جبينه قليلاً وحدق إلى الخارج. كان هناك طريق ريفي صغير، تحفه أشجار الحور على الجانبين، يغرق في عتمة مبكرة.
“آنسة فيليا، يمكنني إيصالكِ حتى باب المنزل.”
عرض عليها بلطف، لكنها كانت قد ثبتت نظرها أمامها وأجابت بهزة رأس حاسمة.
ربما كان سيظن أن تصرفها هذا عناد أو انفعال جرّاء كلماته السابقة، لكنها في الحقيقة كانت تحاول التستر على أمر لا يمكنها البوح به الآن—لقد كانت في مكتبة استعارة، ولا يجب أن يُكتشف أمرها تحت أي ظرف.
لذا، احتضنت الكتاب المخبأ في معطفها بقوة.
نظر إليها السائق متسائلًا بعينيه، منتظرًا توجيهًا من هيليوس، لكن الأخير أومأ بصمت، دون أن ينبس بكلمة، فتوقفت السيارة أخيرًا.
“شكرًا لكم. أرجو أن تنقلوا تحياتي لجدّتكم.”
“سأفعل.”
تبادل الاثنان كلمات وداع مقتضبة. فيليا كانت بالكاد تنظر في وجهه، تحدق بالأرض معظم الوقت، بينما كان هيليوس ينظر إليها مباشرة دون أن يحيد ببصره. كان الوحيد الذي بدا محافظًا على هدوئه وثباته المعتاد.
نزل السائق أولًا وفتح الباب لها.
خرجت فيليا من السيارة دون أن تلتفت، وبدأت تسير على الطريق المظلم. كانت الرياح باردة، تتسلل بين أغصان الحور وتلسع وجهها، فعاد الدفء المؤلم إلى عينيها.
مررت بكفّها على عينيها، تمسح تلك السخونة التي لا تفارقها، وهي تتابع خطواتها فوق الطريق الذي طالما أحبّته.
هذا هو دربي المفضل في بريتشن… ومع ذلك، لا أشعر بأي سعادة اليوم.
كان في داخلها شيء غير مستقر. شعور بأن الأمور لم تمضِ كما ينبغي.
وحين بلغت منتصف الطريق المنحدر، لم تزل تلك الغصة، ولا الرحيل القاسي للسيارة التي لا تزال متوقفة، تلقي بأضوائها على ظهرها. ظلالها الطويلة كانت تمتد تحت قدميها، وكأنها تثقل خطواتها أكثر.
فتوقفت.
أن أستدير الآن… هو ما كانت ستفعله فيليا دو فيير الحقيقية.
هناك كلمات لا تحتمل التأجيل. فللكلمات عمر، وإذا مرّ أوانه، فإنها تفقد معناها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات