“في الحقيقة… أنا جئت بعربة مستأجرة. لأني هربت سرًا. ولو اكتشفوا خروجي اليوم، فمصيري سيكون أن أحبس في المكتبة، لأقرأ مجلدات مملة بلا نهاية.”
قالت فيليا وهي تمضغ قطعة كبيرة من كعكة توت العليق بالرمل، ضاحكة بوجه يشعّ براءة لا تعرف الخوف مما قد يأتي. رغم حديثها عن الخوف من العقاب، لم يكن في ملامحها سوى صفاء الطفولة.
ضحكت السيدة العجوز، التي كانت ترتشف من فنجان شايها ببطء، ضحكة ناعمة من جديد. ومنذ جلوسهما في المقهى، لم تتوقف الأحاديث الخفيفة بينهما، مفعمة بالبهجة والطاقة.
رغم أن سؤال السيدة كان بسيطًا للغاية: “لماذا أتيتِ إلى هنا بمفردك؟”، إلا أن الأحاديث تشعبت وتدفق منها ما لا يُتخيل، وكأنهما صديقتان قديمتان. كان مشهدًا لا يمكن تصوره في بيت ساكن بالكاد يتنفس.
“لماذا يكره البالغون هذا النوع من الكتب؟ أعتقد أنها تساعد الخيال أكثر بكثير من كتب التعليم .”
“كنت لا أفهم ذلك أيضًا عندما كنت صغيرة. ولهذا، كنت أدخل إلى غرفة الخادمات وأقرأ مثل هذه الكتب خفية.”
لبّت السيدة العجوز طلب فيليا بأن تتحدث إليها دون تكلف، وشاركتها رأيها بابتسامة متفهمة، ثم أرسلت نظرة نحو غلاف الكتاب الذي كانت فيليا تمسكه، والذي يحمل عنوانًا شديد الحلاوة.
وما إن لمحته، حتى ارتسمت ابتسامة خافتة على طرف شفتيها.
“حين قرأت ذلك الكتاب، سهرت الليل بطوله… ثم غلبني النوم أخيرًا.”
“حقًا؟! قرأتِ هذا الكتاب؟”
“طبعًا، إنه من الروائع الخالدة. ما زال عندي الطبعة الأولى منه في مكتبتي.”
نسيت فيليا طعامها تمامًا، وقد استغرقتها القصص المنبعثة من فم السيدة العجوز، كأنها تشرب من نهر دافئ من الذكريات. نظرت السيدة إلى السماء عبر طرف قبعتها المزينة، واستأنفت حديثها بهدوء:
“حين أقرأ الكتب التي كنت أحبها في طفولتي، تعود بي الأيام. حينها، كان أكبر همي أن أفكر في الفستان الذي سأرتديه غدًا، وأن أترقب الحب القادم. وحين أعود إلى تلك الذكريات الآن، أجدها أيامًا نابضة… يافعة… ومليئة بالخفق. صحيح أنني كبرت الآن، لكن قلبي ما زال يتمنى أن يبقى شبابي محفوظًا بين صفحات هذا الكتاب.”
عدّلت السيدة جلستها، ورفعت بصرها نحو انعكاس وجهها في بؤبؤ عيني فيليا الصافيتين.
كانت تشارك أمام هذه الفتاة الصغيرة، التي لم ترها من قبل، حكايات لا تعرفها حتى عائلتها، وأفكارًا احتفظت بها طيلة حياتها. لا بد أن لهذه الطفلة سحرًا خاصًا، يفتح القلوب ويُسقط الحواجز.
“بالطبع سيكون كذلك. مجرد فكرة أن كتابًا يحمل أمنية خالدة كهذه… هذا مدهش حقًا! حين أكبر، أريد أيضًا أن أمتلك شيئًا يحمل داخله ذكريات ثمينة كهذه. هل يمكنني أن أستعير عبارتك الأخيرة؟ أريد أن أستخدمها يومًا ما.”
ضحكت السيدة ضحكة كبيرة، صافية، زلزلت سكون هذا العصر المتثاقل. ضحكتها كانت مليئة بالحياة، حتى أن الطيور التي كانت تنقر أغصان الشجرة العتيقة قفزت في الهواء بأجنحة تخفق.
“هاها! بالطبع، استخدميها كما تشائين.”
تلك العينان، التي تلألأت كنجمة فجر، أسرتا البصر. وكل تلك القصص المرحة التي خرجت من بين شفتيها كانت تدخل إلى القلب برفق. أن تهرب فتاة من بيتها لتزور مكتبة استعارة؟ ربما لا يعرف المرء كيف يصنّفها في خانة النبل، لكن المؤكد أنها فتاة ساحرة بكل ما تعنيه الكلمة.
وكانت السيدة العجوز تعرف جيدًا… أن هذا النوع من السحر، البريء والمضيء، أغلى بكثير من كل مظاهر الرقي والزينة المصطنعة.
“حقًا؟ شكرًا لكِ! أنا دائمًا ما أفكر أن لا شيء في العالم يدوم إلى الأبد… لكنني أرجو في قرارة نفسي أن يدوم شيء ما، كطريق الكرز المتفتح، أو شمس يوم ربيعي، أو حتى الحب. واليوم، أضيف أمنية أخرى… أتمنى أن يدوم قلبك الجميل إلى الأبد أيضًا، جدتي!”
كانت الرومانسية التي محاها الزمن منذ وقت بعيد تتلألأ بفيضٍ ناعم في عيني تلك الفتاة، وكأنها تكاد تفيض.
“شكرًا لكِ على قولك هذا.”
“لا أعلم لماذا، لكن أشعر أنني وأنكِ متفاهمتان تمامًا. وأنا أستطيع أن أعرف ذلك من أول نظرة.”
“يا لحسن الحظ أن هذا الشعور ليس من طرفٍ واحد.”
احتست السيدة العجوز رشفة من الشاي الأسود، فانتشر عبقه العميق في فمها، ورغم رقة حلاوته المعتادة، فقد بدا لها اليوم ألذّ وأطرب.
“لكن… لماذا لم تأتِ مع حفيدك؟ لماذا كنتِ تنتظرين وحدك؟”
“لقد نام حتى وقت متأخر، ولم أشأ أن أوقظه. صحيح أنه تصرف وقح أن ينسى موعده، لكنني سامحته. فقد ظل مشغولًا منذ حفلة نهاية العام.”
وضعت السيدة العجوز فنجانها دون أن تُصدر صوتًا، ولفّت الشال الأسود على كتفيها.
“حفلة نهاية العام؟ هل تعنين حفلة عيد الميلاد التي أُقيمت في قصر البارون أسروَا؟”
أومأت برأسها بخفة، فاقتربت منها فيليا بحماسة لا يمكن كبحها، وقد احمرّت وجنتاها بحمرةٍ وردية ناعمة.
“إذًا… هل حفيدك يعرف دوق أرجين أيضًا؟”
“من تقصدين؟”
سألتها السيدة متظاهرة بعدم الفهم، بينما رفعت نظارتها التي كانت تستقر أسفل أنفها.
“دوق أرجين، هيليوس أرجين. في الواقع، لقد وقعتُ في حبه من أول نظرة، وقد تقدمتُ له بطلب زواج في حفلة عيد الميلاد.”
“…من طلب من؟”
“أنا! أنا طلبت الزواج من الدوق!”
يا للسماء…
حمدت السيدة العجوز ربّها أنها لم تكن تحتسي الشاي لحظتها، وإلا لأطلقت الرشفة كلها من فمها في مشهد كارثي.
زواج؟ ومن دوق أرجين؟!!
لكنها تماسكت، وسألت بنبرة هادئة، وجهها لا يُظهر أي اضطراب:
“وماذا حدث بعد ذلك؟”
فروت لها فيليا القصة كما كانت، دون أن تحذف شيئًا:
“رُفضت على الفور، ومنذ ذلك الحين وأنا أرسل له رسائل، لكنه لا يردّ أبدًا. كنت فقط أرغب في معرفة أخباره، ولكن لا أحد من حولي يعرفه، لذلك خطر لي أن أسألكِ.”
“دوق أرجين، إذًا…”
حدّقت السيدة في خدّي فيليا اللذين توردّا كالتفاح، وظلت صامتة للحظات، تفكر بعمق، ثم قالت ببطء:
“لكنني سمعت أن لهذا الدوق سمعة سيئة. ألستِ خائفة؟”
“أبدًا. لا أحد في هذا العالم أطيب أو أجمل من دوق أرجين.”
“جميل وطيب؟”
“نعم تمامًا!”
أجابت فيليا بكل ثقة، فما كان من السيدة إلا أن أغمضت عينيها بقوة، تعضّ على شفتيها لتمنع نفسها من الضحك، لكن البسمة غلبتها وتسللت من بين شفتيها على أي حال.
نظرت إليها فيليا بدهشة، وهي تميل برأسها قليلًا في حيرة، وفي تلك اللحظة، زفرت السيدة العجوز تنهيدة طويلة، ثم فتحت عينيها التي لا تزال فيهما آثار ابتسامة، وقالت:
“أدركت للتو… أننا نتحدث منذ كل هذا الوقت دون أن نعرف أسماء بعضنا البعض.”
“آه، اسمي فيليا. فيليا دو فيير.”
“هل يمكنني أن أناديكِ باسمك، دون ألقاب؟”
“بالطبع! نحن صديقتان الآن، أليس كذلك؟”
“منذ زمن طويل لم أسمع كلمة صداقة. كم أصبحت جميلة في أذني.”
في تلك اللحظة، كانت السماء في الشرق تتلوّن تدريجيًا بلون وردي لطيف. وصوت السيدة، التي جلست وظهرها لذلك المشهد، كان ناعمًا كظلاله.
انعكست أشعة الشمس المتأخرة، التي تسللت من بين أغصان الشجرة الوارفة فوق قبعتها المزيّنة، فارتجف الضوء على حوافها بلطف.
وبينما كانت فيليا تنظر إلى عينيها السوداوين من تحت ظل قبعتها، شعرت فجأة أن ابتسامتها تشبه ابتسامة شخصٍ ما تعرفه…
لكن ما قالته السيدة بعدها بدّد ذلك الشعور:
“فيليا، في الحقيقة… حفيدي يعرف دوق أرجين معرفة وثيقة جدًا. بل، أظن أنه لا يوجد أحد في هذا العالم يعرفه كما يعرفه حفيدي.”
●●●●
تحقق هيليوس أرجين من ساعة الجيب الفضية التي يضعها، ثم نزل من السيارة بخطوة خفيفة واثقة، تخطو بها ساقاه الطويلتان بخفة لا تصدّق.
كان مثالًا للكمال من رأسه حتى أخمص قدميه، لا عيب ولا خلل، ولا شيء يمكن انتقاده في مظهره أو حضوره. قلة هم أولئك الذين يجمعون هذا القدر من الجاذبية دون أن ينقصهم شيء، لكن ما جعل منه أكثر إثارةً للاهتمام كان تمازجٌ دقيق بين الغطرسة والرقة في هالته، شعور مبهم يجذب الأنظار رغماً عنها.
اقترب منه على الفور بعض خدم آل أرجين الذين كانوا في الانتظار على مقربة.
“وجدتم السيدة الكبيرة؟” سأل هيليوس، بينما كانت عيناه تتنقّلان بهدوء من بوابة متجر “إنديز” حتى الجسر حيث تنتظم مصابيح الغاز التي لم تُضاء بعد.
أحد الخدم أشار باحترام نحو أحد الاتجاهات.
“إنها هناك يا سيدي.”
نقل هيليوس نظره إلى حيث أشار. كانت هناك شرفة صغيرة لمقهى، تحت شجرة عملاقة وارفة.
“هناك؟”
“نعم، يا سيدي.”
كان المكان غير متوقع تمامًا. فالضجيج والملل من الأماكن العامة، كانا من أكثر ما تكرهه السيدة كلونيت أرجين. لم يكن هذا من الأماكن التي تختارها طواعية.
هل كانت تمرّ بتبدل في مزاجها اليوم؟
لم يُكثر من الأسئلة، بل بدأ في السير. ومع كل خطوة، كانت مقدمة حذائه اللامع تعكس ضوء الشمس المائلة في آخر النهار.
وما إن اقترب بما يكفي من شرفة المقهى، حتى لمح كلونيت أرجين جالسة في أحد المقاعد الخارجية.
كان وجهها يضيء بابتسامة مشرقة، حتى كاد يبدو غريبًا عليه… ومع ذلك، كان مألوفًا في جوهره. ثم… خلفها مباشرة، ظهرت له هيئة أنثوية مألوفة بشكل مقلق.
رفع حاجبه الأيمن بخفة، في حركة لا إرادية، وفي اللحظة ذاتها، رفعت كلونيت أرجين رأسها.
“ها هو، هيليوس.”
قالت وهي تلوّح له بخفة، ترمقه بنظرة مباشرة. ابتسامة طريفة، لم يرها من قبل على وجه جدته، ارتسمت بهدوء على شفتيها، مفعمة بالأناقة والعبث اللطيف في آنٍ واحد.
هيليوس.
ما إن نطق اسمه، حتى اهتزّ كتف الفتاة الجالسة أمامها. الفتاة التي كانت تُريه ظهرها فقط، استدارت فجأة.
فيليا دو فيير.
كان الأمر أقرب إلى المزحة لو لم تكن هي فعلًا.
عيناها البنيتان، التي احتضنت ألوان السماء المتقلبة، اتسعتا بدهشة.
“د… دوق أرجين…؟”
تعلقت نظرتها به، كأنها لا تصدق، والدهشة تفيض من كل ملامحها. هبّت نسمة خفيفة، لامست وجنتيها بلطف، وراحت تمرّ على مفرش الطاولة وأغصان الشجرة الضخمة، قبل أن تصل إليه.
هل كانت تنوي تسليم الرسالة بنفسها، بدلاً من الاعتماد على مكتب البريد المزدحم؟ لكن، بالنظر إلى تعبيرها، لم يكن من الممكن أن تكون هذه مصادفة مفتعلة. الدهشة التي على وجهها لم يكن يمكن اصطناعها.
استأنف هيليوس خطواته التي كان قد أوقفها للحظة. كانت فيليا تحدق فيه بثبات، تتابع اقترابه دون أن ترمش تقريبًا.
“ها نحن نلتقي مجددًا، أليس كذلك؟”
قالها بابتسامة خفيفة، مؤدبة، وهو يقف أمام طاولتهما في شرفة المقهى.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات