“سأعود مرة أخرى!” رنّ الجرس المعلق على الباب بصوت صافٍ وواضح. بينما كانت تتبادل أطراف الحديث مع السيد هولت حول الكتاب الذي استعارته في المرة الماضية، كانت شوارع المدينة قد اغتسلت بالفعل بأشعة الشمس الذهبية.
شوارع المدينة ظلت حيوية كما لو أن الوقت لا يزال في بدايات بعد الظهر. ضحكات الأطفال المفعمة بالحيوية كانت تتردد في أرجاء الحديقة، وكثيرون كانوا يجلسون في المقاهي المكشوفة يحتسون الشاي في هدوء وراحة.
“من المؤسف أن أعود هكذا مباشرة.”
في الحقيقة، فيليا كانت قد قررت مسبقًا، حتى قبل وصولها إلى مكتبة الاستعارة، أنها لن تعود مباشرة. وضعت الكتاب الجديد تحت ذراعها وسارت في شوارع ديربيانا، حيث تصطف المتاجر والمرافق العامة على جانبي الطريق. وكانت أنفاسها الناعمة، التي تسربت من بين شفتيها، تتبدد في الهواء البارد كنفحات بيضاء خفيفة.
العالم كان يتغير بسرعة، وكانت شوارع ديربيانا تتقبل هذا التغيير بأسرع وتيرة. وكما كان من الممتع تأمل الأشجار الكثيفة التي تشكل غابات بْريتشِن الصيفية، كان لتأمل المباني المختلفة المشيدة في المدينة طعمه الخاص.
فكرت فيليا، لو أن أحدهم لا يعرف هذه الشوارع إلا من داخل عربة خيل، فلا بد أنه سيعض أصابع الندم يومًا ما، حين يشيب رأسه. مرّت بطريق الكرز ذي الأشجار المتعانقة، التي تتشابك أغصانها العارية لتشكل قوسًا في أعلى الطريق، طريق لا يبدو مبهرًا الآن، لكنه في الربيع يتحول إلى مزارٍ ساحر تتساقط فيه بتلات الكرز المتفتحة. وحين يدفأ الطقس، كانت تلحّ على إيفان ليمشيا معًا فيه من حين لآخر.
استعادت فيليا في ذاكرتها رائحة الأزهار الحلوة الممتزجة برائحة العشب، وصوت أوراق الأشجار الخضراء وهي تحتك برقة بجسدها.
وقد بدا أن نهاية الشتاء تقترب، إن كانت تتوق إلى الربيع بهذا التكرار مؤخرًا.
“أتُرى، كيف سيكون شعوري لو مشيت مع دوق أرجين في مثل هذا اليوم من أيام الربيع؟” هذا الخيال الجميل الذي راودها كثيرًا، لم يكن يخلو من صورة هيليوس أرجين.
‘أوه، آنسة فيليا، هذه البتلات تشبهك… ربما لهذا السبب شعرت أن الزمن توقف فوق طريق الكرز هذا.’
لو أن الدوق قال هذه الكلمات وهو واقف في منتصف الطريق، يتأمل عينيها من تحت أغصان الأزهار المتدلية التي تحجب السماء، لما تمنت أمنية بعدها.
قهقهت فيليا بخجل، وهي تضع اسمها في جملة أثّرت بها بشدة في ربيع العام الماضي حين سمعتها في مسرحية. تحت جسر أكني – في تلك المسرحية، قالت البطلة إنها شعرت وكأنها تطير في السماء حين سمعت تلك العبارة. وإن جرت الأمور معها كما جرت مع البطلة، فهي أيضًا ربما تستطيع أن تطير.
دفنت وجنتيها المتوردتين من البرد في وشاحها، وابتسمت بخفة.
“أعتقد أن عليّ أن أكتب عن الربيع القادم في رسالتي اليوم.”
“لو كان للحب من طرف واحد لون، لكان بلون بتلات الكرز اللبنية.” خطرت هذه الجملة لتوها ببالها، وستبدأ بها رسالتها، ثم تكتب عن المواقف الطريفة التي حدثت في ربيع العام الماضي. وبذلك، يمكنها أن تذكر مسرحية تحت جسر أكني للدوق بطريقة طبيعية، فقد حدث أمر مضحك جدًا في اليوم الذي ذهبت فيه لمشاهدتها.
“وماذا عن الرد؟” سؤالها الدائم ذاته، يقابله هز رأسٍ بالنفي من الخادم، فينخفض كتفاها من الخيبة.
لكن، رغم خيبة الأمل في عدم تلقي أي رد، لم يخفت شعورها تجاه هيليوس أرجين، بل إنها أحبت ذلك الشعور الأول، الذي سُمّي حبًا.
ولهذا، كان بالنسبة إلى فيليا دي فيير، كتابة الرسائل إلى دوق أرجين عملاً ممتزجًا بشيء من القلق، والكثير من السعادة. فهو السبيل الوحيد الذي بقي لها لتتخيله منذ ليلة عيد الميلاد التي كانت أشبه بالحلم، والتي لم تره فيها بعد ذلك أبدًا.
كان ذلك السبب وحده كافيًا لتستمر في كتابة رسائل لا يأتِ ردٌّ عليها.
كلما اقتربت من متجر “إنديز” الكبير، ازداد عدد الناس بشكل ملحوظ. واصلت فيليا السير، تتأمل الأزواج الذين يمرّون بجانبها ممسكين بأيدي بعضهم البعض بلطف، ومن خلفهم تمضي العائلات في مشاهد يومية هادئة.
شعرها البني الفاتح، الذي غمرته أشعة الشمس الخفيفة، بدا أكثر إشراقًا من المعتاد. وبينما كانت أفكارها تتوالى وتتقاطع، وصلت إلى مدخل المتجر، وفجأة انطلقت دراجة هوائية بسرعة تقطع الهواء، مارّة أمامها.
إحدى السيدات المسنّات الواقفات إلى جانبها فزعت فجأة، وضغطت على صدرها من الرعب.
“هل أنتِ بخير؟” لم تستطع فيليا أن تمر دون أن تسأل، فأومأت السيدة برأسها بإيماءة قصيرة وابتسامة رقيقة تطفو على وجهها.
شعرت فيليا بالاطمئنان، وما إن همّت باستئناف سيرها حتى لاحظت أن السيدة أغلقت عينيها للحظة وفتحتها ببطء، ثم عبست كما لو أصابها دوار، وبدأ جسدها يترنح.
كانت فيليا الأقرب إليها، فأسرعت وأمسكت بها لتسندها، وسقط الكتاب الذي كانت تحمله على الأرض إلى جانب القبعة التي أفلتتها السيدة.
هرع الخدم المرافقون، وتجاوزوا فيليا بسرعة ليتفقدوا حالة السيدة.
وجدت فيليا نفسها وقد دُفعت بعيدًا قليلًا عن المشهد، لكنها بقيت تنظر إليها بقلق، ثم التقطت قبعتها المزينة بالريش وشرائط “تويل” الأنيقة، ورفعت كتابها عن الأرض.
السيدة، التي كانت تضع يدها على جبينها، استقامت بعد قليل، ونظرت من حولها بنظرة ثابتة مهيبة، ثم أمرت خدمها بنبرة هادئة لكنها حازمة:
“أنا بخير، تراجعوا.”
ما إن تنحى الخدم جانبًا، حتى اقتربت السيدة من فيليا، وقد خفتت من حولها تلك الهالة الرسمية، وتحدثت إليها بلطف لا نهائي:
“شكرًا لكِ.”
ناولتها فيليا القبعة باحترام، وهزت رأسها بقوة وهي ترد:
“لا داعي للشكر. هذا أقل ما يمكن فعله. لو لم يبقَ في العالم مثل هذه المحبة والعناية البسيطة، لما بقيت حتى شجرة واحدة واقفة.”
ضحكت السيدة بخفة، وقالت:
“يا لك من شابة متواضعة! لكن، هل تسمحين لي أن أرد الجميل؟ أظن أن من الواجب رد المعروف حتى وإن كان تعبيرًا بسيطًا عن المحبة والرعاية. أليس كذلك؟”
كانت ترتدي فستانًا مخمليًا بلون أزرق باهت، تتلألأ فيه لمحات الذوق الرفيع والكرامة. نظرت إلى فيليا بهدوء، وابتسامة خفيفة تعلو شفتيها. شعرها الفضي المرتب بعناية، وتلك العينان السوداوان اللامعتان، زادتا من وقارها الذي لا يُخفى حتى في أدق حركاتها.
فأجابت فيليا، وهي تُثبت خصلة من شعرها المتطاير خلف أذنها بسبب الرياح الشتوية:
“إذًا، سأعتبر امتنانكِ هو المقابل، يكفيني ذلك.”
وكان على ملامحها ابتسامة ناعمة، تفيض بالعذوبة، تنبع من شفتيها برقة.
حدّقت فيها السيدة طويلًا، ثم قالت بهدوء:
“إذًا، هل يمكنني أن…”
لكن صوتًا غير متوقَّع قطع كلامها. صوت معدة أحدهم يقرقر فجأة في توقيت غير مناسب. بدت السيدة متفاجئة للحظة، ثم ضحكت بخفة حقيقية، خرجت من صدرها بكل عفوية.
احمرّ وجه فيليا أكثر من ذي قبل. الآن فقط أدركت أنها لم تأكل شيئًا منذ الإفطار، وأنها ظلت تمشي طوال هذا الوقت بلا طعام.
ابتسمت في خجل، وما إن رأت السيدة ذلك حتى اعتدلت بنبرتها، وسألت من جديد:
“كنت بانتظار حفيدي، لكن… آنستي، هل لديك وقت الآن؟”
●●●
استفاق هيليوس من نومه وهو يلهث بأنفاس متقطعة، ثقيلة. كانت صرخات روزين المروعة لا تزال ترنّ في أذنه، وأثر الدماء الغزيرة على يده لم يفارقه بعد. مشاهد متعددة عادت إلى ذهنه بحدة لا ترحم، لكنه، رغم ذلك، استطاع أن يشعر بملمس الملاءة تحت أطراف أصابعه، وعرق بارد يتصبب من جبينه، يخبره أن كل ذلك لم يكن سوى… حلم.
حلمٌ متشبثٌ بإصرار مَرَضي.
رغم مرور سنوات، ظل ذلك اليوم حيًا في ذاكرته كما لو كان البارحة. الفيلا في هارنيل، المهاجم المندفع نحوه بنية القتل، روزين وهي تتصدى له، والنصل الذي انغرس في فخذها…
الذكريات التي بدت أوضح مما ينبغي، كانت تقذفه بلا رحمة إلى ذلك اليوم القاسي من صيف بعيد.
أشعة شاحبة من الشمس انسدلت بشكل مائل فوق حدقتيه السوداوين، تخبره أن منتصف النهار قد مرّ بالفعل. ألقى نظرة هادئة، لكنها فاحصة، على أرجاء الغرفة، ثم مرّر أصابعه في خصلات شعره المتدلية على جبهته. استيقظ متأخرًا عن المعتاد، لكنه بدا متماسكًا.
إلا أن عينيه، القاطعتين كالشفرة، كانتا لا تزالان تبثّان برودة غريبة.
“هل ناديتني، سيدي؟”
بعد لحظات، دخل الخادم برفقة أحد الحاشية، إثر رنين الجرس. وضع الحاشي كوب الماء وانصرف، بينما ظل الخادم في مكانه، كما لو أنه لديه أمر يودّ إبلاغه.
ارتطم الثلج ببعضه في الكوب، فأصدر صوتًا نقيًا وشفافًا في سكون الغرفة. رشف هيليوس القليل من الماء، يرطّب به حلقه الذي كان يحترق عطشًا، ثم رفع رأسه أخيرًا:
“ما الأمر؟… آه، هل هي رسالة من الآنسة فيليا دو فيير؟”
تفاجأ الخادم قليلًا من ذكر الاسم، وكأن الرسالة لم تخطر بباله أصلًا، لكنه سرعان ما أجاب بجديّة:
“تأخرت عملية إيصال البريد، سيدي. من المتوقع أن تصل الرسالة غدًا. إن كنتم بانتظارها، يمكنني أن أبعث من يجلبها فورًا.”
“لا.”
لم يكن هناك أي داعٍ لتكليف أحد. مجرد مضيعة للوقت.
ردّ هيليوس باختصار قاطع، ثم مسح شفتيه من بقايا الماء، وتابع بنبرة ثابتة:
“لا حاجة لذلك. إذًا، ما الأمر الذي أردت قوله؟”
كان هيليوس يتحدث بوجه باسـم، هادئ، تلك الابتسامة التي يضعها كقناع، تشبه تمامًا ما يعرفه الجميع عن دوق أرجين، الرجل المتعجرف بنعومة.
رغم آثار الحلم الثقيل الذي لم يتلاشَ بعد من داخله، لم يظهر شيء من ذلك على ملامحه.
“السيدة الكبرى كانت بانتظارك، لكنها خرجت قبلك.”
“خرجت؟”
“نعم، كان من المفترض أن تذهبا معًا إلى شوارع ديربيانا اليوم…”
“آه…”
ها قد تذكّر. موعد نسيه تمامًا وسط ازدحام جدوله اليومي. وضع كوب الماء مجددًا على الطاولة الجانبية.
“هل قالت شيئًا قبل أن تخرج؟”
“قالت إنها ستسبقك، وطلبت منك اللحاق بها بأسرع ما يمكن.”
“حسنًا.”
هزّ هيليوس رأسه بخفة، ونهض من سريره.
“سأستحم وأخرج، فحضّر لي ما يلزم.”
وبينما يصدر أمره ببساطة، استدار بخطاه الهادئة وتوجه نحو النافذة، حيث كانت الستائر قد أُزيحت. رفع ذقنه، وألقى نظره على العالم المغمور بالنور في الخارج، بينما انسكب فوق رأسه ظلّ رمادي باهت.
روزين ليبيرن. ذلك الاسم الذي طفا في ذهنه بلا سبب، لم يكن إلا ذكرى عالقة، مرة المذاق، تعكر صفو الصدر.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات