“ألا تعلمين من يكون ذلك الرجل؟ ألم أخبركِ من قبل؟ لا ينبغي لكِ الاقتراب من دوق أرجين أبدًا. ومع ذلك، ما إن التقيته حتى عرضتِ عليه الزواج؟ بل ولم تكوني تعرفين حتى اسمه؟ هل يعقل هذا؟”
تدفقت كلمات إيفان بغضب مكبوت، وكأنه كان ينتظر اللحظة المناسبة لينطق بها، ثم ضغط أصابعه على جبهته المتألمة.
“لقد قلتُ لكِ إنه ليس الرجل المناسب لكِ. ذلك الرجل…”
لكنه لم يستطع إكمال جملته، وكأن الشائعات القبيحة التي تحيط بالدوق كانت أثقل من أن تُقال أمام فيليا، فعضّ على شفتيه مرارًا.
“أنا أعلم ما الذي يقلقك.”
راقبته فيليا بعينين ثابتتين وسط الظلام، ثم أجابته دون تردد، دون أن تدع مجالًا لأي صمت بين كلماتهما. كان صوتها المشرق على غير العادة هادئًا، ونظراتها الحادة تنطق بعزيمة لا تلين.
“لكن هذه حياتي، إيفان. ثم إنني لا أصدق أن رجلاً بصوت دافئ ونظرات حانية قد يكون بطلًا لتلك الشائعات الفاسدة.”
“أجل، صوت دافئ ونظرات حانية… الدوق يبدو مثاليًا من الخارج. لكن أولئك الذين تتعفن أرواحهم، غالبًا ما يكون مظهرهم بلا عيب.”
“ليس هذا فحسب. لقد كان رجلًا حكيمًا بما يكفي ليرفض طلبي المفاجئ للزواج بكل وضوح. لو كان كما تقول الشائعات، لكان قد قَبِل به على الفور.”
تحدثت فيليا بما رأته وعرفته بنفسها، وأيقنت به من نظراتها إليه. ورغم أنها أصغت إلى قلق إيفان الصادق، إلا أنها بدت كغصن قوي لا ينحني ولا ينكسر.
مرر إيفان يده على وجهه، كأنما يحاول تبديد إحساس الاختناق الذي اعتراه.
“إذن، أنتِ تدركين كم كان عرضكِ هذا غير معقول؟”
“إلى حدٍّ ما. لكنني شعرتُ أنه إن لم أقلها حينها، فلن تسنح لي الفرصة لقولها مجددًا. على أي حال، إيفان، أنت تعلم جيدًا أنني لستُ من النساء اللواتي يقعن في الحب عند النظرة الأولى بشخص غريب. أليس كذلك؟”
تعاقبت أصوات عجلات العربة المتعثرة بين كلماتهما المتقدة، فيما استمرت الخيول في سيرها البطيء، مخترقة الطرقات المغطاة بالثلوج، مرورًا بالمدرسة الداخلية للنبيلات، فالكاتدرائية العتيقة، ثم المراعي التي أكل عليها الدهر وشرب.
طوال الرحلة، ظل إيفان يحاول إقناعها بلا جدوى، بينما كانت فيليا تفند كل كلمة يقولها بحجة أقوى.
وحين تساءل إن كان بينهما تلك “الصدف الثلاث التي تصنع الحب الحقيقي”، أجابت بأنها لم تعد بحاجة إليها. وعندما سألها: “ألستِ ترغبين في رجل ودود؟” ردت قائلة: “إنه ودود بما يكفي.”
“فيليا، أنتِ لا تعرفين شيئًا.”
كان حديثهما يبدو كمعركة لا نهاية لها، حتى حسمته فيليا حين لاذت بالصمت أخيرًا.
ظن إيفان أن هذا الصمت إقرار منها بأنها أخذت كلامه على محمل الجد.
ولكن في صباح اليوم التالي، حين قضى ليلته في قصر عائلة درفيير، أدرك كم كان مخطئًا.
—
أثناء الفطور، وأمام أفراد عائلة درفيير، قَضمت فيليا قطعة من خبز التوست المدهون بمربى البرتقال، ثم نطقت بثبات قاطع:
“أودّ أن أتحدث في أمر مهم.”
رفع الجميع أنظارهم إليها، بينما ارتشف إيفان رشفة من شايه، قبل أن تجعله كلماتها التالية يختنق فجأة.
“أرغب في الزواج من دوق أرجين.”
شعر إيفان للحظة أن العالم من حوله قد تجمد. ورغم أنه كان يعرف هذه الفتاة منذ سنوات، إلا أنه في تلك اللحظة، أدرك مجددًا حقيقة لا جدال فيها: تغيير رأي فيليا درفيير أصعب من تغيير مجرى نهر.
لا، بل ربما كان تغيير النهر أسهل بكثير.
في تلك اللحظة، انزلقت فنجان الشاي من بين أصابع الكونت درفيير، وسقط على الأرض. لم ينكسر، لكن السائل الأحمر الدافئ تسلل ببطء على السجادة، ملوّنًا أطرافها.
“ما الذي تقولينه بحق السماء؟”
حدق فيليا في بقع الشاي الزاحفة عند قدميها، ثم وضعت التوست جانبًا، وأخذت تمسح شفتيها بمنديلها بهدوء.
“تمامًا كما سمعتَ، والدي.”
“لا بد أنني أخطأتُ السمع، صحيح؟”
ارتجفت زاوية شفتي الكونت، محاولًا أن يرسم ابتسامة غير مستقرة.
“سأسألك مجددًا. مع من قلتِ أنكِ تريدين الزواج؟”
“مع دوق أرجين.”
كان وقع الاسم واضحًا، كأنما انغرست حروفه في الأذان كخنجر حاد.
بوصفه مستثمرًا، كان الكونت درفيير رجلاً عقلانيًا، لا يسمح للعواطف بالتحكم في قراراته.
لكن كأب وزوج، كان مختلفًا تمامًا.
كان رجلاً ذا طبيعة صارمة وقوية، إلا أنه أمام أسرته، كان مثل ثمرة خوخ ناضجة، لينة وسهلة الكسر.
فما بالك، إذًا، عندما يسمع أن ابنته المدللة، التي اعتبرها أثمن ما في حياته، قررت الزواج؟
وكان المصيبة الأعظم… أن يكون ذلك الرجل هو دوق أرجين نفسه؟
بالنسبة للكونت درفيير، كان وقع هذا الخبر أشبه بصفحة رئيسية في جريدة “ذا ديلي”، تحمل عنوانًا كفيلًا بجعل أي شخص يصاب بالإغماء من الصدمة.
تبعثر صوت ارتطام الفضيات بالأرض حين أسقطها الكونت من يده المرتجفة.
وبعد أن تلاشت الدهشة الأولى، لم يحدّق في ابنته، بل أدار نظراته نحو إيفان، وكأنه يبحث عن تفسير عقلاني وسط هذه الفوضى.
كلما أقدمت فيليا على تصرف جنوني، كان الكونت درفيير يعتمد على إيفان ليجد له سببًا منطقيًا لما لا يمكن تفسيره.
لكن اليوم، لم يكن لدى إيفان ما يقوله.
لم يفعل سوى أن هزّ رأسه يائسًا، ثم خفض بصره، كأنه يتنصل من تحمل مسؤولية هذا القرار المستحيل.
كان ذلك يعني شيئًا واحدًا فقط:
فيليا كانت جادّة.
ولم يكن ما قالته مزحة أو لعبة طائشة.
أمام زوجها الذي بدا وكأنه فقد القدرة على استيعاب ما يسمعه، وضعت ديانا درفيير فنجانها بهدوء، وحدّقت في ابنتها بعينين باردتين.
“إذن… تقولين إنكِ ستتزوجين دوق أرجين؟ متى بدأت علاقتكما؟”
“البارحة. التقينا للمرة الأولى في الحفل.”
“ماذا؟ هل يعقل أن الدوق عرض عليكِ الزواج فور لقائكِ؟”
رغم صدمتها، حاولت ديانا الحفاظ على رباطة جأشها.
لكن كلمات ابنتها التالية، جعلتها تدرك أن المحافظة على هدوئها لم تعد خيارًا متاحًا.
“لا، أنا من تقدّمت بطلب الزواج. العالم يتغير، ويمكن للمرأة أن تتقدّم بعرض الزواج أولًا متى شاءت، أليس كذلك؟ صحيح أن الأمر ليس شائعًا بعد، لكن إن نظرنا إليه بإيجابية، فقد أكون ببساطة في طليعة هذا التغيير.”
“يا إلهي، فيليا! أتقولين إنكِ تقدّمتِ للزواج من رجل التقيتِ به للمرة الأولى؟”
“نعم. لقد كان شخصًا رائعًا بما يكفي ليجعلني أقع في حبه من النظرة الأولى. كلما تحدث، كانت عيناه السوداوان تتلألآن كنجمتين تضيئان طريقًا غامضًا. وتساءلت، كم يا ترى ستكون روحه جميلة في الداخل؟ لو رأيتموه، لفهمتم ما أعنيه.”
تسرّبت أشعة الشمس الصباحية عبر النافذة المواجهة للجنوب، مائلة على وجه فيليا، فتوهّجت ملامحها بحيوية لم تكن مألوفة من قبل، وكأن استرجاع ذكريات الأمس أضفى على محياها بريقًا خاصًا.
ظلّ الكونت درفيير جالسًا في ذهول، يحدّق في ابتسامة فيليا المشعّة، قبل أن يستعيد وعيه فجأة عندما وصلت إلى مسامعه عبارة لم يسمعها من قبل في حياته: “دوق أرجين يملك روحًا جميلة.”
وقف فجأة من مقعده وكأن صاعقة أصابته.
كان هيليوس أرجين شابًا وسيمًا، ينحدر من سلالة نبيلة عريقة، ويتمتع بثروة لا تُضاهى. لم يكن مجرد دوق، بل كان مستثمرًا بارعًا، رجل أعمال ذكيًا، ومالكًا لإقطاعية شاسعة ورثها عن والده الراحل. لا جدال في ذلك.
لكن الأمر كان يقف عند هذا الحد.
لم يكن الرجل الذي سيجعل فيليا سعيدة. بل العكس تمامًا.
كان على الكونت درفيير أن يمنع هذا بأي ثمن. وعلى ما يبدو، فقد كان يتشارك ذات الأفكار مع إيفان أركاس، إذ صرخ بغضب:
“هذا الطلب مرفوض! لن يُؤخذ به. يجب عليكِ التراجع عنه فورًا!”
“اهدأ يا عزيزي.”
حاولت ديانا درفيير تهدئته، لكنها لم تفلح.
“ديانا، ما لم تكوني ترغبين في رؤية ابنتنا تتحول إلى فيليا أرجين، فلا تحاولي منعي! سأعود قبل غروب الشمس، ولكن عليّ الذهاب فورًا!”
أصدر الكونت أوامره للخادم ليجهّز له السيارة بدلًا من العربة التقليدية، إذ لم يكن لديه وقت ليضيعه. كان عليه أن يتوجه مباشرة إلى قصر الدوق في وينستل، ويُنهي هذه المهزلة قبل أن تستفحل.
أن يصبح هيليوس أرجين صهره؟ لم يكن الأمر مستبعدًا فحسب، بل كان كابوسًا لا يريد حتى تخيّله.
كانت الشائعات تحيط به منذ الصيف الماضي، والآن، لا شك أن ذلك “الثعلب الماكر” قد نجح في إغواء ابنته.
أسرع الكونت درفيير نحو باب غرفة الطعام بعجلة، لكن قبل أن يتمكن من مغادرتها، أوقفه صوت إيفان الحازم:
“عمّي، لا داعي لأن تذهب إلى وينستل.”
توقفت خطوات الكونت دفعة واحدة عند هذه الكلمات، وأدار رأسه ببطء نحو إيفان.
“دوق أرجين رفض عرض زواج فيليا.”
جاء الخبر مفاجئًا تمامًا. تبادل الزوجان النظرات، ثم عاد تركيزهما إلى إيفان.
“ورفضه مباشرة، دون تردد.”
التفت الكونت نحو فيليا، متأملًا إياها بعناية، وسألها بصوت متردد:
“هل هذا صحيح؟”
أومأت فيليا برأسها ببساطة، ولم يكن على ملامحها أثر لأي حزن أو خيبة أمل. بل على العكس، ظلت مشرقة، حتى أن الشريط الأزرق الذي يزين شعرها ارتجّ برقة مع حركة رأسها.
“صحيح. للأسف، فكرة زواجي من الدوق لا تزال مجرد رغبة في نفسي وحدي.”
أدرك الكونت أن الأمر لم يعد مشكلة على الإطلاق. على الرغم من اعتياده على تصرفات ابنته الغريبة، إلا أن هذه المرة، فاجأته لدرجة جعلت الدم يتجمد في عروقه. جلس بجانب زوجته مجددًا، متنهّدًا براحة.
ولكن مهلاً، هل قال إيفان إن الدوق رفض العرض؟
كان من المفترض أن يشعر بالارتياح، ولكن لسبب ما، لم يكن ذلك الشعور الذي انتابه. بل، على العكس، تسلل إليه إحساس غريب ومزعج.
رفع حاجبه في حيرة، محاولًا استيعاب هذا التناقض في مشاعره، بينما فتحت ديانا عينيها ببطء، وسألت ابنتها بنبرة هادئة:
“إذن، أنتِ من عرضتِ الزواج، والدوق هو من رفض؟ أليس هذا يعني أن الأمر قد انتهى؟”
“لا. لم ينتهِ بعد.”
“ماذا تعنين، فيليا؟”
“سأواصل الاقتراب من دوق أرجين. سأعرّفه على نفسي جيدًا، ثم سأطلب يده مجددًا. أردت فقط إخباركم الآن حتى لا تتفاجؤوا لاحقًا، كما تفاجأ إيفان.”
تألقت ابتسامتها الواسعة، وارتسمت غمازتان لطيفتان على وجنتيها، فيما شعر الكونت أن أعصابه تحترق بالكامل.
كان من الصعب أن يغضب وهو يرى وجه ابنته المبتسم بهذا الصفاء، ولكن إن لم يغضب الآن، فمتى؟
خفض الكونت صوته بحدة، مقترنًا بنظرة صارمة لم تكن مألوفة لديه:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات