ضيّق عينيه وانكمشت ملامحه بين حاجبيه. فكررت كلامها :”سألتك إن كان يمكنني أن أتقدم لك بطلب زواج.” “هاه.” كان طلبًا جريئًا بشكل لا يُصدق. الرجل، الذي مرر يده بين خصلات شعره ليصحح وضعه وكأنه يحاول استعادة رباطة جأشه، أطلق ضحكة قصيرة مليئة بالذهول. أما فيليا، التي ضحكت معه، فقد بدت مشرقة بكل براءة.
لم يتكلم إلا بعد مرور وقت ليس بقصير. “ماذا عساي أفعل؟ لا أريد ذلك.” “إذن، ما رأيك أن نكون حبيبين؟” توجهت نظراتها اللامعة، التي لم تفقد بريقها، نحو الرجل الواقف بانحراف.
“أين بحق السماء وجدت والدتي هذه الفتاة…؟” حين بدأ يُدرك أن هذا الموقف غير المعقول هو في الحقيقة واقعٌ ملموس، تحوّلت ضحكته القصيرة إلى قهقهة مكتومة. سمع صوت ينادي “فيليا” تردد في الهواء، تقريبًا في اللحظة ذاتها.
بمجرد أن لمح ايفان الشكل الضخم الواقف أمام فيليا، تسارعت خطواته هو الذي كان يسير بهدوء. وحين أدرك أن صاحب هذا الشكل هو دوق أرجين، هرع نحوها وكأن قلبه سيسقط من بين ضلوعه.
كانت فيليا تنظر إلى الدوق بثبات دون أن ترمش، ولم تلاحظ اقتراب إيفان إلا عندما أصبح على مسافة قريبة جدًا، فلوحت له بيدها وسط الظلام الخافت. كان مظهرها بريئًا إلى درجة أنها لم تكن تدرك حتى من هو الرجل الواقف أمامها. وكانت سلسلة ساعته المتدلية من جيبه تتراقص مع خطواته العجلة، وكأنها الوحيدة التي تشعر بقلقه.
“دوق أرجين، مضى وقت طويل منذ آخر لقاء بيننا.” حاول إيفان، وهو يلتقط أنفاسه المتقطعة، أن يُلقي التحية على هيليوس بنبرة هادئة ومتماسكة. وتعمد أن ينطق اسمه بوضوح لعلّ فيليا تتذكر ما أوصاها به في وقت سابق من هذا اليوم.
لكن الأجواء بين الاثنين كانت غريبة بعض الشيء. لا، بل غريبة للغاية. “لقد مر وقت طويل فعلًا.” توقف هيليوس عن الضحك، ومسح دموعًا تجمعت عند طرفي عينيه، ثم ردّ على تحيته.
وما إن لاحظ إيفان أن هيليوس كان شبه عارٍ، حتى سارع بالوقوف أمام فيليا ليحجب عنها رؤية الدوق ويقطع ما بينهما. ما الذي جرى بينهما؟ لم يعرف إن كانت المشكلة من طرف فيليا أم من طرف هيليوس، لكن المؤكد أن ما حدث لم يكن أمرًا بسيطًا.
“علينا أن نغادر من هنا أولًا.” كانت تلك أول فكرة خطرت في بال إيفان. البقاء قرب رجل يُثير الشائعات بمثل هذه السرعة لم يكن في مصلحة فيليا على الإطلاق.
“فيليا، هيا بنا. سننصرف الآن…” “انتظر!”
دفعت فيليا يد إيفان التي كانت تحاول سحبها، وتقدمت خطوة إلى الأمام. تأملها هيليوس من الأعلى، بنظرة امتزجت فيها الدهشة ببعض التسلية، وكأن ما حدث لم يكن أكثر من عرض غير مألوف.
طلب الزواج في اللقاء الأول؟ وإن لم يُقبل، تعرض عليه أن يكونا حبيبين؟ لم يكن يخطر بباله أبدًا أن والدته قد تكتب مثل هذا الحوار في أحد سيناريوهاتها القديمة.
عيناها العسليتان، المضيئتان منذ البداية، كانت تحدقان به بثبات. وعلى الرغم من أنها قالت كلامًا مزلزلًا دون أن يرف لها جفن، فإن عينيها بقيتا نقيتين، تحملان براءة صادقة.
“ما الذي تفعلينه؟ قلتُ لكِ لنذهب بسرعة!” “مهلًا، إيفان…! هل هذا الرجل الجميل هو حقًا دوق أرجين؟ أحقًا؟”
ارتفع صوت فيليا، وقد بدا عليها الذهول قليلًا. أما إيفان، فقد احمر وجهه وحده، متأثرًا بكلمات المديح التي خرجت منها بعفوية تامة. لكن الشخص المعني، هيليوس، لم يتفاعل مع المديح، بل أبدى استغرابًا من شيء آخر تمامًا.
“ألم تكوني تعرفين من أكون؟” “لا، لم أكن أعلم.”
اذا لم يكن هذا الأمر بأمرٍ أو خطة من والدتها. “إذًا، لماذا تقدّمتِ لي بطلب زواج؟” “لأنني وقعت في حبك من النظرة الأولى، دوقي.”
“مـ… مهلًا لحظة، طلبت الزواج؟!” عند تلك العبارة، التي نطقتها فيليا بجسارة لكن بخجل خفيف في نبرتها، شعر إيفان بدوار حاد وأغمض عينيه بقوة. قبل قليل، كان وجهه متوردًا من الحرج، أما الآن، فقد أصبح شاحبًا بشكل واضح.
“إذاً، يا دوق…” “أعتذر، سنأخذ طريقنا الآن.” قاطعها إيفان بسرعة، وألقى على هيليوس تحية مهذبة، ليقطع الطريق على فيليا قبل أن تفرغ المزيد من الكلام.
طلب الزواج الغريب هذا من فتاة يراها للمرة الأولى، لم يكن أكثر من مزحة عبثية في نظره. أما هيليوس، فلم يكن يملك سببًا فعليًا لإبقائهما، فاكتفى بابتسامة اجتماعية خفيفة وهو يومئ برأسه. “حسنًا، انصرفا. وسأتظاهر بأني لم أسمع ذلك الاعتراف قبل قليل.”
إيفان، الذي ظل يحذر هيليوس منذ البداية، لم يتمكن من استرخاء تعابير وجهه حتى وهو يدير ظهره. أما فيليا، فرغم أن ملامحها أوحت بأن في جعبتها الكثير مما تريد قوله، فإن إيفان، بعزم لا يقل عن موقفه داخل العربة، أمسكها من معصمها وأخذها معه دون تردد.
ارتفع صدى خطى سريعة لأحدهما، تتخللها خطى أبطأ لشخص يُجبر نفسه على اللحاق، مع نظرات خاطفة إلى الخلف، في الممر الطويل. “دوقي! سنتحدث مجددًا في المرة القادمة!” ارتفع صوت فيليا صافحًا الرواق قبل أن تختفي خلف الزاوية.
عن ماذا بالضبط؟ في العتبة الملبدة للنافذة التي امتدت على طول الردهة التي اختفيا منها، تراكمت طبقة خفيفة من الثلج بصمت. المكان الذي اكتسحته عاصفة من الفوضى، عاد إلى هدوئه من جديد. وإن لم يدم هذا الهدوء طويلًا، بطبيعة الحال.
“هيليوس!” “لِمَ أنت الذي أتيت بالقميص؟” ظهر ديون بعد لحظات من انعطافه عند الزاوية التي اختفى منها الآخرون، وهو يسلّم هيليوس القميص والسترة التي يحملها معًا، مطالبًا بتفسير.
“الآن ليس هذا هو المهم! لماذا كنتم أنتم الثلاثة معًا؟ ولماذا أنت وحدك نصف عارٍ؟” “ولمَ تظن أنني كنت كذلك؟”
دخل هيليوس الغرفة أخيرًا، ووقف أمام المرآة التي تعكس جسده كاملًا، رافعًا ذقنه قليلًا بينما بدأ يزرر قميصه من الأعلى إلى الأسفل. ثم ربط ربطة عنقه، والتقط أزرار الأكمام التي كان قد وضعها مؤقتًا على رف الموقد. حركاته كانت هادئة إلى حدّ يُخفي أثر الفوضى التي عصفت به للتو.
“هل كان عرض زواج؟ لا أعلم. على كل حال، كانا يتحدثان عن شيء من هذا القبيل وهما يغادران.”
ديون، الذي كان يتبع هيليوس كظلّه، نطق أخيرًا بالكلمة المثيرة للاهتمام التي سمعها عابرًا من المحادثة التي دارت بينهما.
“لا تقل لي أنك تلقيت عرض زواج؟ من إيفان أركاس؟”
توقف هيليوس للحظة وهو يعدّل ياقة قميصه، ثم استدار ببطء نحو ديون، ينظر إليه بهدوء.
“أنتِ… حقًا بلا أي تحامل أو أحكام مسبقة.” “لا، لا يمكن لفتاة تراها لأول مرة، وفوق ذلك تكون الابنة الوحيدة للكونت دوفيير، أن تتقدم فجأة بطلب زواج! لا سيما منك، وأنت المعروف بأن داخلك حالك السواد! إيفان أركاس هو خيار أكثر منطقية، إن قورن بها.” “انتظر.” “ماذا؟” “ابنة الكونت دوفيير؟ تلك الفتاة؟”
قطّب هيليوس حاجبيه بخفة. أن تكون تلك الفتاة، التي ألقت بكلمة ‘زواج’ وكأنها تمزح، هي ابنة الكونت دوفيير؟ لم يكن فيها أي شبه من صرامة والدها الصلبة المعروفة.
صحيح، تلك الفتاة ذات الإشراقة المفرطة، الغريبة الأطوار إلى حد لا يُصدق… لم يكن يُمكن مقارنتها بأي شخص يعرفه.
“لم تكن تعرف؟ آه، صحيح، لم تلتقِ بها من قبل. لا، انتظر! إذًا… صحيح ما سمعته؟ آنسة فيليا بالفعل عرضت عليك الزواج؟”
“لا يُعقل! شيء أكثر إثارة مما يحدث على طاولة القمار كان يجري هنا أمام أعيننا. كان قرار خروجي من القاعة صائبًا!”
وبدأ ديون، الذي لم يبدو أبدًا أنه يفكر في العودة إلى غرفة الاستقبال حيث كانت ألعاب الورق على أشدّها، بتحليل أسباب تقدّم فيليا دوفيير بطلب زواج إلى هيليوس أرجين. ربما السبب… وجهه؟ وطرحت احتمالات متعددة، لكن في النهاية كانت النتيجة واضحة.
فالرجل الذي يثير حوله الكثير من الشائعات، ما يملكه ويُجمع عليه الجميع كأمر لا يُضاهى… هو وجهه. لذا بدا هذا التفسير معقولًا تمامًا.
هيليوس، الذي أتمّ ارتداء سترته، صار الآن في هيئة دوق أرجين المثالية. ابتعد عن المرآة واتكأ على أريكة جلدية بجانب النافذة.
لم يكن ينوي العودة إلى قاعة الحفل. قد ظهر بما فيه الكفاية، وظن أن انسحابه الآن سيكون أفضل للجميع.
كانت رقاقات الثلج، التي ازدادت كثافة عما سبق، تتساقط هناك بعيدًا على شجرة التنوب الكبيرة، المزينة بشجرة عيد الميلاد. في وضح النهار، بدت تلك الشجرة العملاقة مزعجة للنظر، أما الآن، وقد لفّها الثلج، فقد انسجمت تمامًا مع مشهد الشتاء.
تجاهل هيليوس ثرثرة ديون الذي واصل حديثه بمفرده متأثرًا بالصدمة، وأغمض عينيه المتعبتين وهو يحوّل بصره عن النافذة.
العيون العسلية اللامعة التي برزت بوضوح أمامه منذ قليل، عادت تطفو في ذاكرته فجأة. ليس لشيء، فقط لأن الموقف كله كان سخيفًا لدرجة يصعب تصديقها.
وانفرجت شفتاه المغلقتان بابتسامة غير متوقعة، فخرجت منه ضحكة خفيفة، خالية من السبب.
“زواج، وعلاقة حب…” حب هذه الفتاة، الذي كان خفيفًا إلى درجة نطقت فيه تلك الكلمات دون تردد، بدا له أشبه بالنكتة.
إن كان هذا هو الحب، فربما يستطيع أن يصف خطبته المرتقبة مع روزين، والتي ستتم في أحد فصول السنة القادمة، بأنها “حب حقيقي” أيضًا.
حينها، قد يُعتبر حبه هو، خاليًا من أي شوائب، أنقى أنواع المشاعر.
وحين بدأت صورة فيليا دوفيير تتلاشى من ذهنه، أوقف تيار أفكاره وفتح عينيه من جديد. وفي اللحظة نفسها، توقف ديون أخيرًا عن إطلاق سيل تعجباته.
تأمل ديون هيليوس أرجين، الذي بدا رائعًا في بذلته الرسمية، وقد بدأت عيناه تضيقان ببطء وهو يحدّق به.
“ولكن، هل صحيح… أنك تلقيت عرض الزواج وأنت شبه عارٍ؟”
●●●●
هزّت نسمات الليل الباردة أغصان أشجار التنوب المصفوفة على جانبي الطريق. وكانت الريح، كلما عبرت بين الأغصان، تُصدر صفيرًا خافتًا كصفير إنسان.
أضاءت مصابيح الغاز المثبّتة على العربة الطريق المغطى بطبقة خفيفة من الثلج. بعكس فترة ما بعد الظهيرة، بدا أن العربة بالكاد تتقدم الآن وهي تمر على جسر نهر بومويل.
ربما بسبب الطقس، ساد العربة جو بارد ومتوتر.
كانت فيليا تُشيح بوجهها عن نظرات إيفان، تحدّق بصمت في الخارج من خلال النافذة. تلتصق بلورات الثلج بالزجاج، ثم تذوب بسرعة تاركة أثرًا باهتًا.
“فيليا.” حين سمعته ينطق باسمها بصوت خافت وعميق، ارتجفت قليلًا، ثم بدأت تفرك الزجاج المغبش ببخار أنفاسها بأطراف أصابعها.
هي لم ترتكب خطأً، لكنها كانت تدرك تمامًا أن إيفان غاضب. ومع ذلك، أقسمت بين نفسها: لم أرتكب خطأ. إطلاقًا.
“فيليا دوفيير.” باستثناء تلك المرة حين كسرت ساقها أثناء تسلقها شجرة، لم ينادِها إيفان بتلك الجدية من قبل.
وأخيرًا، وبعد صمت طويل، زفرت فيليا بهدوء، ثم التفتت نحوه. “تكلّم.”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات