“هذا الطريق هو ممرّ قصر بريتشن، الذي غطّته ظلال رمادية في المساء… نعم. أنا الآن أسير فيه.”
وفي كل مرة كان فيها زجاج النافذة يصطدم بريح قوية فيصدر طنينًا، أو تتمايل أغصان الزعرور اليابسة وتلقي بظلالها السوداء على جدران الممر، كانت فيليا ترفع رأسها أكثر، تتمالك نفسها وتهمس:
“لست خائفة أبدًا.”
وكانت لا تنسى أن تضيف تلك الجملة دائمًا، كأنها تعويذة لا بد منها.
“فيليا”
“إيفان، هل أنت هنا؟”
في مكان سكنه الصمت من كل الجهات كأنما غمرته مياه عميقة، كان صوت الخطوات يتردد بوضوح.
راحت فيليا تتخيل في رأسها أشجار الحور التي تصطف على جانبي الطريق الضيق في يوم صيفي تحبه حبًا لا نهاية له، ونجومًا تتلألأ على صفحة السماء الزرقاء الداكنة، بينما كانت عيناها تمسحان المكان بدقة متناهية. حتى أنها ألقت نظرة من النافذة في الممر، عسى أن تلمح شيئًا.
لكن لم يكن هناك أي أثر لإيفان. فقط نور باهر يلمع من بعيد، يمتد بشكل مشوش كبياضٍ ساطع لا شكل له.
وحين استدارت عند نهاية الممر بعد أن تجاوزت الزاوية، اعترض بصرها جدار كبير عُلّقت عليه زينة غارلاند.
لم يكن إيفان هناك. وعندما تأكدت من ذلك أخيرًا، بعد أن وصلت إلى هذا الحد من البحث، كانت فيليا على وشك أن تستدير عائدة، حينها تمامًا، سُمع صوت احتكاك ملابس وهمسات خطوات ثقيلة قادمة من وراء الباب في نهاية الممر.
توقفت فيليا فجأة في مكانها، وأنصتت بعناية إلى هذا الصوت الغامض.
“هل يمكن أن يكون إيفان؟”
طرقت الباب بخفة، لكن لم يأتِها أي رد.
“لكني سمعت صوت شخص بوضوح…”
بحذر، أدارت فيليا مقبض الباب. ومع انفتاحه ببطء، انساب من خلال الشق نور دافئ خافت.
ثم ظهر الجسد العاري للرجل. صدر قوي مفتول العضلات لم يكن بالإمكان أن يكون لإيفان أبدًا. شهقت فيليا لا إراديًا وسارعت لتكميم فمها بيدها.
انتقلت نظراتها من الكتفين العريضين إلى الظهر المشدود بالعضلات، مشهد لا يصدق كأنه لوحة حية أمامها. أحمرّ وجهها حتى أذنيها.
كان ينبغي أن تعتذر على الفور، أن تحني رأسها وتنسحب بلطف، أن تقول شيئًا على الأقل يبرر الموقف، لكن ولسوء الحظ، لم تكن تملك أي خبرة سابقة في مثل هذه المواقف، ولسانها لم يطاوعها على النطق بكلمة.
أمسكت فيليا شفتيها بإحكام، تحاول تهدئة قلبها الذي خفق بعنف.
“تصرفي بهدوء وبسرعة، اخرجي من هنا دون صوت.” هكذا رأت فيليا أنه الخيار الأفضل، بل أقنعت نفسها أنه الخيار الوحيد الممكن في هذه اللحظة. هذا هو الصواب.
لم تملك الجرأة لتعتذر وهي تحدق في رجل نصف عارٍ، ولا حتى أن تعتذر مغمضة العينين، فذلك سيكون أسوأ.
بيدين متخشبتين، مدت يدها لتعيد الإمساك بمقبض الباب. لكن للأسف، كان الرجل قد أدرك وجودها بالفعل، واستدار نحوها.
ومن بين شفتيه، اللتين بدتا بلون أحمر متضاد بوضوح مع بشرته، خرج صوت هادئ رزين:
“ما الذي تفعلينه؟ ادخلي.”
رمشت فيليا بعينيها عدة مرات، ثم تساءلت بغير وعي:
“ماذا؟”
“قلت لك، ادخلي.”
الخطة التي وضعتها بهدوء وسرعة، لتغادر دون أن تُحدث أي جلبة، انهارت تمامًا.
“فما العمل الآن؟ هل يجب أن أدخل حقًا؟”
مرّ طوفان من الأفكار في رأسها. لم تستطع أن تلوم الكريسماس، لكن يمكنها أن تلوم إيفان أركاس، الذي جلبها إلى هذا المكان، على هذه الليلة تحديدًا.
سادت لحظات من الصمت الغريب. وعندما بقيت فيليا جامدة في مكانها دون حراك، لم يحتمل الرجل هذا التردد، ففتح الباب على مصراعيه.
وفي تلك اللحظة، أظلمت الدنيا أمام عينيها.
“اين الملابس؟”
“أنا أعتذر حقًا! لم أكن أقصد التلصص أو شيئًا من هذا القبيل، أبدًا! أرجوك صدقني. أستطيع أن أقسم باسم صديقي الأقرب، إيفان أركاس، أنني لم أقصد… ماذا؟ اي الملابس؟”
أدركت فيليا، متأخرة، ما الذي كان يطلبه الرجل بطريقة غريبة، فرفعت عينيها التي كانت قد أسدلتهما بخوف وبسرعة.
وفور أن التقت عيناها بعينيه، نسيت فيليا كل شيء.
كانت هناك كلمات كثيرة أرادت قولها، بل كانت مستعدة لها، لكنها لم تتذكر شيئًا. كان أمرًا غريبًا بحق. عقلها الذي كان دومًا مكتظًا بالأفكار، خالٍ تمامًا لأول مرة، وكأنه صفحة بيضاء نُسيت عليها الحروف.
“كنت أعني الملابس التي سأبدل لها، ألم تحضريها؟”
اقترب منها بخطوة، حتى صار واقفًا أمامها مباشرة. فاحت منه رائحة عطرة خفيفة، ممتعة.
ومن بين خصلات شعره المنسدل، ظهرت عيناه السوداوان. دافئتان كليلة عيد الميلاد في قلب الشتاء، لكن تحتهما برودة غريبة. كان ذلك غير منطقي… لكنه كان حقيقيًا.
“آه…”
شعر الرجل بشيء غريب في تصرفات فيليا، فتأملها من رأسها حتى قدميها. فستان حريري بلون العاج، لا يمكن بأي حال أن يكون لباس خادمة. وحتى يداها الناصعتان، الخاليتان من أي أثر للعمل الشاق، كشفتا الكثير.
“هل انت أيضًا هنا تحت إحدى طلبات والدتي هذه المرة؟ آه هذا الأسلوب، يزعجني للغاية.”
كانت كلماته محيّرة، وغير مفهومة، لكن نبرته التي صاحبتها ابتسامة لطيفة لم تكن تنسجم مع معناها الغريب. ومع ذلك، واصلت فيليا النظر إلى عينيه بهدوء.
لم يتوقف خفقان قلبها، بل على العكس، ازداد شدة وارتجافًا.
كان هذا، حقًا… أمرًا عجيبًا. غريبًا للغاية…
“لا تقولي لي… أنك تنوين البقاء واقفة هناك على هذا النحو كثيرا؟”
أسند الرجل جسده إلى إطار الباب، وأمال رأسه قليلًا، ناظرًا إليها.
“يا لجمال عينيه…” فكّرت فيليا، وفي تلك اللحظة تمامًا، خطر على ذهنها المشتت مقطع من رواية قرأتها الليلة الماضية رغم التعب والسهر:
“في الحقيقة، منذ اللحظة الأولى التي رأيتك فيها في بلاط ناتالي، كنت أعلم… أعلم أنني وقعت في حبك من النظرة الأولى، وأننا سنصبح يومًا ما عاشقين. لم يكن بالإمكان أن أخطئ، فقد شعرت حينها وكأن أنفاسي توقفت حين التقت أعيننا.”
لم تكن هذه بلاط ناتالي، ولم تكن أنفاسها قد توقفت، ومع ذلك، بدأت فيليا تدرك ببطء ما هو هذا الشعور الغريب الذي يفيض بداخلها.
لقد كان الحب.
لم يكن بالإمكان أن يكون شيئًا آخر، بهذا الارتجاف والفيض الساحق الذي اجتاح صدرها. لا شك في الأمر.
رأت فيليا لون الروح الذي ينسجم تمامًا مع لون روحها. تمامًا كما فعل بطلا الرواية، حين أدركا مصيرهما من أول نظرة.
حتى لو قال أحدهم إنها فقط وقعت في حب مظهره، فهذا لا يهم. فذلك، أيضًا، حقيقة لا يمكن إنكارها.
“الحب الحقيقي بحاجة إلى ثلاث مصادفات” — تلك القناعة الراسخة التي كانت تؤمن بها دومًا، بدت الآن تافهة وعديمة الجدوى. اللقاءات المصيرية، في الحقيقة، تحدث بهذه الطريقة العابرة، وبهذه السرعة. دون مقدمات، دون تحذير.
ومن خلف الرجل، ومن خلال النافذة الزجاجية الكبيرة، بدأت أشياء ناعمة ومتلألئة تتساقط واحدة تلو الأخرى.
كانت ندفًا من الثلج الأبيض.
لحظة بدت كأنها كذبة… لكن كل شيء فيها كان مشرقًا وجميلًا.
الشتاء، والكريسماس، والحفلة الراقصة، واللقاء المصيري، والثلج… كانت ليلة تشبه الحلم. أمنيتها بأن تحظى بأكثر كريسماس رومانسية في حياتها تحققت بالكامل، فقط برحمة إله الشتاء ومصادفة وحيدة.
“هلّا خرجتِ الآن؟”
عندما بلغها صوته المنخفض الموجّه لها، استعادت عيناها العسليتان اللامعتان بريقهما.
قد يسخر منها إيفان أركاس طويلًا بسبب هذا، لكن فيليا دوفيير… وقعت في الحب من النظرة الأولى.
وكان ذلك مع رجل لا تعرف اسمه حتى.
لم تشك في مشاعرها. لم يكن هذا الشعور شيئًا آخر غير الحب، ولم تجد وصفًا آخر يمكنه تفسير ما تشعر به.
رفعت نظرها إلى الرجل الذي لا يزال واقفًا أمامها دون حراك، وأغلقت قبضتها الصغيرة بعزم.
“أوه، إن لم يكن من الوقاحة قول شيء في موقف كهذا… فأنا أود أن أقول لك شيئًا.”
“في موقف كهذا، أعتقد أن كل ما يُقال يكون وقاحة. ألم تسمعي ما قلت؟ طلبت منك أن…”
“هل يمكنني أن أطلب يدك للزواج؟”
كانت نظرة فيليا أكثر جدية وصفاءً من أي وقت مضى.
ساد بينهما صمت هادئ، صمت بدا أبديًا.
غصن شجرة مهتز بفعل البرد راح يطرق على زجاج النافذة. وبدت فيليا وكأنها تسمع صوت ندف الثلج وهي تهبط برقة، رغم أنه لم يكن هناك أي صوت في الحقيقة. كان ذلك مجرد وهم.
واختفت الابتسامة الهادئة، المرسومة كلوحة، عن وجه الرجل.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات