رددتُ بهدوء دون أن أتأثر بنظرته الحادة:
“حاولتُ أن أبقى مستيقظة.”
“حقًا؟”
“هل تعتقد أنني أحضرتُ الماء لألعب مع الرئيس؟”
“…..”
“لماذا تنظر إليّ بهذه الطّريقة؟”
“لأنني أعتقد أنّـكِ قادرة على ذلك.”
‘تيتيا! لماذا لا تستطيعين الرد’
“على أي حال، ذلك ليس صحيحًا.”
بعد نفيي المتكرر، تلقيتُ شكرًا مفاجئًا منه.
“شكرًا لكِ.”
تركها هذا الإمتنان المفاجئ في حيرة من أمرها، حتى ظهر جوشوا من خلفه و أخذ يطل برأسه.
“ألم أقل لك؟ يمكنكَ الوثوق بتيتيا!”
نظرتُ إلى جوشوا و السيد بيلت بالتناوب.
رفعَ السّيد بيلت نظارته، و رفع ذقنه بغطرسة
“السرية مهمة. و بصفتي صديق الرئيس المقرب و ذراعه اليمنى، لا يمكن ألا أعرف بمثل هذه الأمور. من الواضح أنني سأكون على علم بذلك. هل ظننتِ حقًا أنني لا أعلم؟”
أغلقتُ فمي متجنبة الرد، بينما حدّق كل من بيلت و جوشوا بي بنظراتٍ مثقلة.
تحت ضغط هذه النظرات، اعترفتُ أخيرًا:
“نعم، حقًا لم أكن أعرف.”
كنتُ أفكر فقط أن جوشوا يحافظ على السر جيدًا لتجنب اكتشاف السيد بيلت.
لم يكن لدي وقت للتفكير في التفاصيل بينما كان الرئيس مريضًا.
‘حسنًا، بما أن السيد بيلت يدير القصر، من المنطقي أنه يعرف بمرض الرئيس.’
بدأتُ أثرثر بالأعذار، قائلة إنني كنتُ أركز فقط على عملي دونَ التفكير بعمق.
“فمـكِ مغلق، إذن لقد نجحتِ. أرجو أن تستمري في الحفاظ على سرية صحّـة الرئيس.”
“حسنًا.”
سحب جوشوا تنورتي و هو يتفحص وجهي.
“ما الأمر؟”
“ألستِ منزعجة؟ لقد قمنا بخداعـكِ.”
“قبل أن أشعر بالإنزعاج، أتذكر المكافأة فأشعر بالسعادة.”
أومأ الجميع من حولنا كما لو أنهم يتفهمون شعور هذا النوع من السعادة.
****
اقترب يوم زيارة القديسة إلى قصر الدوق. أنهى الجميع استعداداتهم لاستقبالها، و وقفوا أمام المدخل.
انضممتُ إلى نهاية الصف.
سرعان ما وصلت عربة بيضاء برفقة فرسان مقدسين.
عندما فتح الباب، نزلت امرأة بمساعدة أحد الفرسان.
كان شعرها ورديًا غامقًا، و عيناها ذهبيتان، و شفتاها ورديتان فاتحتان، و وجهها النابض بالحياة مزينًا بابتسامة مشرقة.
‘تبدو رائعة…’
ربّما أتخيّل، لكن بـدا و كأن هناك هالة خفيفة تحيط بها، كما يليق بقديسة.
‘هل هذه هالة البطلة؟’
‘إنها مبهرة.’
قام السّيد بيلت بتحيتها بشكلٍ رسمي:
“هل استمتعتِ برحلة خطوبتكِ؟”
بـدا أن يوبيلين سعيدة بلقاء صديق قديم، فابتسمت بإشراق:
“شكرا لاهتمامك. لكن ألا تعتقد أن نبرتك رسمية جدًا؟ تحدث بأريحية كما كنتَ تفعل من قبل. ألسنا أصدقاء؟”
كانت مفعمة بالحيوية كما في الرواية، خالية من التكلف، لطيفة مع الجميع، و تنشر الابتسامة.
لكن السيد بيلت شدّد وجهه أكثر و رفعَ نظارته.
“نحن غرباء. هل ستعودين بعد لقاء الرئيس؟”
كان واضحًا أنه يكره القديسة.
“ربّما أبيت هنا لليلة.”
“سمو ولي العهد سيشعر بالغيرة.”
“كما لو أن هناك أي شيء سيجعله يشعر بالغيرة.”
ظهر تعبير منزعج على وجه بيلت بسرعة و اختفى.
“أنـتِ تعرفين حالة الرئيس جيدًا. من الأفضل أن تلتقي به و تغادري بسرعة.”
“كلما أصررتَ على رحيلي، زادت رغبتي في البقاء.”
ردت يوبيلين بخفّة و دخلت برشاقة. عندها فقط استقام الجميع من انحنائهم.
“أكرهها.”
تفاجأتُ بصوت قادم من الأسفل.
“يا إلهي، جوشوا.”
إذا تحدثتَ هكذا فجأة، سيظن الآخرون أنني مَـنْ قال ذلك.
قد يُخطئ البعض و يظنون أن صوته الناعم هو صوتي.
“أكره القديسة للغاية. إنّهـا مزعجة.”
لست بحاجة إلى تكرار هذه النقطة مرّة أخرى.
“أليس من الطبيعي أن يكون الملائكة و الشياطين أعداء بطبيعتهم؟”
حدق بي بوجه متجهم.
****
طقطقة.
تردد صوت كعب يوبيلين النشيط في الممر الواسع.
كانت تقفز بخفة و تنظر حولها بحماس.
لم تكبح سعادتها، و كأنها تشعر بالحنين لعودتها بعد غياب طويل.
“لقد تغيّر هذا المكان كثيرًا. أصبح أكثر فخامة.”
“أنـتِ لم تزوري هذا المكان منذُ عام، سيدتي القديسة.”
“هل مـر عام بالفعل؟”
ابتسمت يوبيلين بأسف، ممسكة بخديها، و تنهدت.
“آسفة. كما تعلم، أعمال المعبد كانت مزدحمة. ومع حفل الخطوبة، لم أجـد وقتًا.”
لم يكن حدثًا عاديًا، بل كان خطوبة للقديسة و ولي العهد. كانت الاستعدادات وحدها تُشغلها كثيرًا.
حتى أن رحلة خطوبتهما مرت بسرعة، مما جعل يوفلين تشعر بالإحباط قليلاً عندما عادا.
على الأقل ، بذل تيرينس قصارى جهده لتعزيتها.
احمرّ وجهها قليلاً. و بينما كانت لا تزال غارقة في ذكرياتها الجميلة، ألقت نظرة خاطفة على بيلت، و سعلت بخفة، ثم أضافت بنبرةٍ أكثر هدوءًا.
“جير بالتأكيد اشتاق لي و تذمر منـكِ.”
“لم يقـل شيئًا.”
“حتى لو أخفيتَ ذلك، أنا أعرف كل شيء.”
“إنها الحقيقة، و لا يوجد ما أخفيه.”
رسـمَ بيلت خطًا واضحًا ببرود، لكن يوبيلين واصلت دونَ اكتراث:
“أنـتَ تكـذب. جير كان محبطًا جدًا، أليس كذلك؟ هذا أمر بديهي حتّى من دون رؤيته. أنتَ فقط لا تحـبّ مدى قرب علاقتي بجير، لذا تحاول إخفاء ذلك.”
‘هاه.’
ضغط بيلت على جبينه.
كم مرة ستجعله يكرر نفس الكلام؟
منذُ البداية، لم تعجبـه هذه القديسة. ألهمت جيرفانت آمالًا زائفة، و هزتـه بوعود وهمية، ثم ذهبت و خطبت لرجلٍ آخر.
جيرفانت تُـرك من قِبل يوبيلين.
قد يقول الناس إن جيرفانت خسر أمام ولي العهد، لكن المقربين منه يعرفون الحقيقة.
يوبيلين تخلّـت عن جيرفانت.
و الآن ، لماذا عادت…
شعر بيلت بالغضب يغلي بداخله.
‘كان يجب أن أرفض طلب الزيارة.’
كان قد وافق من أجل جيرفانت، لكنه بدأ يشعر بالندم أثناء حديثه معها.
كانت يوبيلين ناضجة في العمر، لكن تصرفاتها طفولية و مزعجة.
“نعم، هذا صحيح، لكنني لا أختلق الحقائق. كما قلتُ من قبل، لم يذكر الرئيس اسمكِ لمرّة واحدة حتّى.”
“يا لكَ من غبي. جير مريض الآن، أليس كذلك؟”
في تلكَ اللّحظة ، أصبح وجه بيلت باردًا كالجليد.
“الرئيس ليس مريضًا.”
عندما وصل صوته البارد إليها، اعتذرت يوبيلين:
“آسفة. كنتُ أمزح…”
“هل تعتقدين أن مثل هذه الأمور موضوع للمزاح؟”
“…..”
عندما أصبح الجو متوترًا، نقرت يوبيلين على ذقنها، نظرت إلى بيلت، ثم تنهدت بعمق.
‘لا يزال صلبًا كالعـادة.’
فكرت في تغيير الموضوع، فتذكرت امرأة رأتها عند دخولها.
كانت في آخر الصف، لكن جمالها كان لافتًا: شعر أسود لامع، رموش كثيفة، أنف مرتفع، و خدود وردية.
شفتان كبتلات الورد، و نقطة صغيرة تحتها.
كان وجهها الجميل يبدو و كأن عبيرًا ينبعث منه، و كان تمامًا يناسب ذوق يوبيلين.
“هل وظفتم شخصًا جديدًا؟ أنتم لا تقبلون أشخاصًا جددًا، خاصة داخل القصر.”
أجاب بيلت بهدوء:
“وظفنا واحدة هذه المرة.”
“لماذا؟”
“إنها شؤون تخصّ نقابة إكليبس. حتى الأمور البسيطة لا يمكن كشفها للغرباء.”
نظرت يوبيلين إليه وهو يرسم خطًا، و ابتسمت بعبوس.
منذُ أن أغلق جيرفانت نفسه في غرفته، أصبح بيلت أكثر قسوة معها. كانا صديقين مقربين، لذلك تفهّمت موقفه، لكنه كان يعاملها ببرودة أكبر مما يعامل بها الآخرين.
“أنا لم أقبل جير لأنني أحبّ تيرينس. لهذا السبب أنـتَ…”
“ليس لدي سبب للتدخل. أعرف ذلك، ولا أنوي التدخل. لذا، أرجوكِ، ضعي حدودًا واضحة مع الرئيس.”
تجنبت يوبيلين الرد.
“هل تلكَ الخادمة التي تحدثتُ عنها ضرورية حقًا؟”
‘كما توقعت.’
أومأ بيلت بلا مبالاة:
“نعم.”
“ألا يمكنكَ إعطائها لي؟”
“ماذا قلـتِ؟”
على الرّغمِ من صدمة بيلت، غرقت يوبيلين في أفكارها:
“إنها جميلة جدًا. تلائم نوعي المفضل. إذا لم أستطع الحصول على إيلا، فأعطني تلكَ الفتاة.”
“الناس ليسوا أشياء، سيّدتي القديسة.”
هزت يوبيلين كتفيها ردًا على توبيخه:
“مع ذلك ، عندما تتمّ معاملة الناس كأشياء لا أحد يقول شيئًا!؟”
“هل تقصدينني؟”
“العالم كله يفعل ذلك….آه، لا يزال المكان مظلمًا هنا.”
غيرت يوبيلين الموضوع بسلاسة و وقفت أمام غرفة جيرفانت. لوّحت لبيلت بابتسامة:
“اذهب. سأغادر بنفسي بعد انتهاء الحديث.”
“سأنتظر هنا.”
كان موقف بيلت ثابتًا، فوضعت يوبيلين يدها على خصرها و عبست قليلاً:
“حتى لو أمرتـكَ بصفتي القديسة؟”
“نعم. أنا تابع للرئيس.”
“كما هو متوقع، أعضاء نقابة إكليبس لا مرونة لديهم. جامدون و مملون.”
“و هل يضاهون المعبد؟”
“حسنًا، هذا صحيح.”
ضحكت يوبيلين بمرح و كأن شيئًا لم يكن، و صاحت:
“جير، سأدخل!”
فتحت الباب و دخلت بخطوة واثقة. رأت جيرفانت في الظلام.
كان يبدو متناغمًا تمامًا مع هذا الظلام.
جسده الكبير القوي أصبح هزيلًا بشكلٍ لا نهائي. اختفى كبرياؤه و غطرسته.
اقتربت يوبيلين منه بخطوات لا سريعة ولا بطيئة، راسمة ابتسامة يحبها الناس.
بصوتٍ المعسول كالحلوى التي تذوب على اللسان، همست له:
“مرحبًا، جير. لقد مرّ وقت طويل.”
تقابلت أعينهما في الهواء. خفّت حدّة نظر يوبيلين و اتسعت ابتسامتها.
ارتجفت قبضتاه من شدّة المشاعر المكبوتة. عندما رأت يوبيلين يده المرتجفة، تعمقت ابتسامتها أكثر.
“هل كنتَ بخير طوال هذا الوقت؟”
على الرّغمِ من علمها أنه لم يكن كذلك.
هذا السؤال البسيط جعل جيرفانت يبدو أكثر بؤسًا.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"