* * *
كان جوشوا يعلم أن تيتيا طيبة.
رائحة معظم البشر كانت مقزّزة بالنّسبة له، لكن رائحة تيتيا كانت منعشة مثل الفواكه.
عادةً، البشر ذوي الرائحة الطيبة يكونون طيبين.
و الأهم، كانت تيتيا متسامحة حتى مع التنمر. لم تحاول حتى معرفة مَنٔ يكون الجاني.
كان من المفترض أن تغضب من لسعة النحلة، لكنها كانت تتجوّل بحيوية بعينيها المتورمتين، دونَ أن تهتمّ بمظهرها أمام الآخرين.
حتّى إنها أحبّـت الشارب!
عندما لم يستطع جوشوا كبح نفسه و ظهر أمامها، لم تتفاجأ، بل جعلته يعترف بما فعله بهدوء.
بدلاً من توبيخه، سألته عن اسمه بلا مبالاة…
حتّى لو كان تنمره تافهًا!
“لماذا لا تغضب؟ هل هي غبية؟ ألا تفكّر؟”
“هي فقط طيّبة.”
“صحيح.”
“……”
ارتخى كتفا جوشوا. جلس التوأم القرفصاء أمامه.
تحركت عضلاتهما مع حركتهما، فنظر إليهما جوشوا بحسد.
“لو كنتُ قد أكبر قليلاً، لما اضطر جير إلى العيش كمنعزل.”
“ليس ذنبك، جوشوا.”
“نعم.”
“إنه ذنبي! لهذا رفضتـه القديسة أيضًا…!”
“ليس كذلك. الرئيس… همم، فقط ، لم يكن الرئيس من نوع القديسة المفضّل.”
فاجأ صوت غريب جوشوا، فانتفض شعره من الخوف. لم يستطع الصراخ، و نظر إلى تيتيا التي ظهرت من خلف جيسيكا.
“لا أعرف ما الأمر، لكنني لا أعتقد أن طفلاً مثل جوشوا يمكن أن يؤثر كثيرًا على حياة الرئيس العاطفية.”
“أنتِ، أنتِ، كيف…!”
“ظهر جيسيكا واسع و دافئ. لذلك غفوتُ قليلاً.”
“جيسيكا!”
“لا أحبّ أن يكون جوشوا حزينًا.”
“لكننا لم نخبرها كل شيء. أخبرناها فقط عن مكانكَ .”
“و كأن إخبارها لا بأس به أصلا؟ المشكلة أنكما أحضرتما أيضا!”
“مرحبًا. اسمي…”
“اصمتي، تي تي!”
“إذن سأهمس؟”
بهدوء لم يحمل أي انزعاج ، همست تيتيا و مدت منديلاً إليه. نظرَ جوشوا إليه للحظة، ثم انتزعه و ضغط على عينيه.
شعر بالحزن لسببٍ ما.
إنها لا تعرف شيئًا…
لا تعرف لماذا يتصرف جير هكذا، و مع ذلك تتصرف بمرح.
كان يمقت رؤية تيتيا تتجول أمام جيرفانت.
لكن كلماتها كانت نفس ما قاله جيرفانت له عندما كان يلوم نفسه:
‘أنـتَ لست مؤثرًا بما يكفي لتحديد نجاح أو فشل حياتي العاطفية.’
اختلط صوت جيرفانت البارد مع صوت تيتيا، فبكى جوشوا بصوت عالٍ.
“هييييء! مزعجة! لا أحبّـكِ، لقد دخلتِ إلى هنا فقط لتنقذي نفسكِ بينما تزعجين جير! أنا أكرهكِ”
“آه… إذن هذا سبب تنمرك.”
أومأت تيتيا كأنها فهمت أخيرًا، لكنها لم تقدم أعذارًا لنفسها.
استمعت بهدوء إلى استياء جوشوا، ثم غفـت فجأة.
“أكرهها حقًا!!”
ضرب جوشوا جبهتها بقبضته، فظهر نتوء صغير على جبهتها. قالت تيتيا:
“ابق بجانب الرئيس و سترى. لا أعرف لماذا، لكن طاقتي تنفد بسرعة. في البداية، ظننتُ أنني متعبة، لكن الأمر لم يكن كذلك. إذا فقدتُ تركيزي للحظات، أنام دونَ وعي منّي.”
“…..”
لم يجـد جوشوا ما يقوله. بدلاً من ذلك، فرك جبهتها بهدوء و اعتذر:
“…آسف.”
“لا بأس. النوم أمام شخص يبكي كان خطأي.”
“لم يكن خطأكِ. البقاء بجانب جير يستنزف الطاقة حقًا.”
“لماذا؟”
“لا أستطيع قول المزيد.”
“إذن، هل يمكنكَ إخباري مَنٔ أنـت؟”
تردد جوشوا، ثم أغلق عينيه بإحكام و أمسك يديه معًا، و قال بهمس:
“…خادم الشيطان سيراييل.”
توقع أن تصرخ خوفًا عندما قال إنه خادم شيطان كاد يدمر القارة، لكن تيتيا سألت بنبرةٍ هادئة كالسابق:
“الذي طُهّـر بواسطة القديسة؟”
لم يكن هذا رد الفعل المتوقع، فتلعثم جوشوا وأجاب متأخرًا:
“…نصفه فقط.”
“حتى لو تـمّ تطهير نصفه، أليس ذلك قاتلاً لشيطان؟ كيف لا تزال حيًا؟”
“الذي خُتـم هو شيطان سيراييل، ليس أنا. و أنا لست ضعيفًا لأموت من تطهير واحد. أنا قوي جدًا!”
“بالطبع. أنتَ خادم شيطان سيراييل.”
ما هو شيطان سيراييل؟
كان ملاكًا عظيمًا دفع العالم السماوي إلى حافة الدمار، ثم سقط و أصبح شيطانًا.
عندما هبط إلى العالم البشري، كاد يدمر القارة بقوته الهائلة، حتى أن مجرّد شقّ صغير في الحاجز الذي يحبسـه تسبّب في تلوث القارة و انتشار الوحوش.
لكن الأخطر كان قدرته “المتاهة”.
لو ظهرت المتاهة، لكان دمار القارة أمرًا محتومًا.
لكن القديسة و آخرين سدوا شقوق الحاجز و أعادوا ختم سيراييل، فأصبحوا أبطالاً أنقذوا العالم.
“بسببِ سوء حظي و لأنني إلى جانب جير، انتهى به الأمر بهذا الشّكل.”
“ماذا؟”
“لا أستطيع قول المزيد.”
أغلق جوشوا فمـه.
كان اعترافه بأنه خادم شيطان خطأً بحد ذاته.
لقد كشف نقطة ضعفه لتيتيا.
لو علمت القديسة أو ولي العهد أو جيرفانت، لأصروا على قتل تيتيا فورًا، لكنه لم يهتم.
‘ليس و كأن ذلكَ لن يؤثر عليّ.’
قد يفنـى على يـد القديسة لأنه كشف ذلك.
لكن كلامه لم يكن متهورًا. شعر بطاقة غريبة من تيتيا، تشبه المانا لكنها أكثر قدسية.
اختفت بسرعة، لكنه شعر أنها قد تكون مفيدة لجيرفانت بشكلٍ غريب.
حدس الشيطان نادرًا ما يخطئ.
و كان هناك شيء آخر.
كان متأكدًا أن تيتيا لن تنشر هذا السر، لأنها…
“كم عمركَ؟ أنا، تيتيا، عمري 21 عامًا.”
تسأل مثل هذا السؤال التافه حتّى لخادم شيطان سيراييل!
****
في الظلام الدامس، كان جيرفانت يمسك رأسه الذي كان ينبض بشدّة.
فُتـح الباب قليلاً و دخل جوشوا.
عندما رآه جيرفانت، تذكر فجأة تيتيا التي كانت تصرخ بأنها تحب شاربها، فأغلق فمـه بسرعة في محاولة لكبح ضحكته.
أساء جوشوا فهم ذلك و سأل بصوتٍ مرتجف:
“هل أنـتَ ….تتألم كثيرًا؟”
هـز جيرفانت رأسه بصمت. دارت الدموع في عيني جوشوا.
لم يكن جوشوا أحمق يتلعثم هكذا من قبل!
كان يشتاق إلى جيرفانت المرح الذي كان يمزح.
تحدّث جوشوا و هو يشهق:
“لقد قابلتُ تيتيا للتو.”
ارتجفت زاوية فم جيرفانت. بينما كان يخفض رأسه لمنع نفسه من الضحك، لم ينتبه جوشوا و أخفض رأسه كمذنب، معترفًا:
“أخبرتها أنّني خادم شيطان…”
تصلب فم جيرفانت. رفع رأسه فجأة، و عيناه خلف النظارة أصبحتا قاتلتين.
“قلتَ ذلك…؟ لماذا؟”
“……”
نهض جيرفانت، و أمسك كتفيّ جوشوا بقوة. كانت عيناه مشتعلتين.
“لماذا لا تخرج و تخبر الآخرين أنّكَ خادم شيطان ليأتوا لقتلكَ؟”
رد جوشوا بغضب:
“لا تقل ذلك! تيتيا جديرة بالثقة…!”
“منذُ متى تعرّفتَ عليها أصلاً لتكون واثقا بها هكذا؟”
دارت عينا جوشوا الكبيرتان، و أجاب بتردد:
“… بسببِ حدسي؟”
أفلت جيرفانت كتفيّ جوشوا و عض شفتيه. احتقنت عيناه بالدم مع تصاعد مشاعره.
“يجب قتلها. لا يمكن تركها حيّـة.”
كانت نبرته تبدو و كأنه سيستدعي تيتيا الآن، فتشبث جوشوا به بكل قوته.
“لا تفعل! تيتيا ليست من هذا النوع!”
“جوشوا!”
عندما صرخ جيرفانت، أصبح الجو ثقيلاً. لمست نية القتل الموجودة في الهواء جلد جوشوا، لكنه رد بصوتٍ أعلى:
“أقسم! جيسيكا و لينيت لم تمنعاني من إخبارها! سيحلان الأمر قبل أن يحدث شيء، لذا دع تيتيا و شأنها!”
“هل أصبحتم أصدقاء مقرّبين؟”
“لا أعرف! أنا فقط أشعر أن طاقتها ستساعدكَ… آه، اللعنة ، أنا حقًّا لا أعرف!”
لم يكمل جوشوا كلامه و هرب. كان لا يزال طفلاً غير ناضج كشيطان.
لم يكن يرتكب أخطاء في الكلام عادةً…
‘هل أقتلها؟’
عض شفتيه بقلق. ماذا لو أخبرت أحدهم؟ ماذا لو اضطر للقضاء على جوشوا؟
إذن، جوشوا سوف…
و أنا…
هل سأصبح معزولًا تمامًا؟
جلس جيرفانت بثقل، واضعًا ذراعيه بلا قوة على ركبتيه، و أخفض رأسه.
غرق في التفكير. كالعادة، رُسمت صورة تيتيا في ذهنه بوضوح:
شعر أسود، رموش كثيفة، جسم نحيل، وجه رقيق و جميل، و شامة صغيرة تحت شفتها اليمنى.
كانت جميلة بما يكفي لتلفت الأنظار، لكنها لم تكن تخشى الظهور بمظهر مضحك…
‘لماذا لا تضحك؟ أنتَ لم ترمش حتى لأفضل أعمالي!’
تذكر وجه تيتيا المحبط، فخلع نظارته و مسـح وجهه.
“…هاه.”
كان من المفترض أن يقضي عليها دون تردد، لكنه الآن كان مترددًا.
لقد ضحك لأول مرة منذُ عامين تقريبًا.
كان جيرفانت يعرف جيّدًا ثقل حياة الإنسان. أليس هذا سبب عزلتـه؟
لذا كان مترددًا.
لكن هذا لم يكن السّبب الوحيد.
لقد شعر بالطاقة التي تحدّث عنها جوشوا.
لو كانت مجرد قوة، لتجاهلها، لكن عندما دخلت تيتيا، شعر باضطراب في طاقته.
كانت تستجيب لطاقتها.
كانت ضعيفة و قصيرة، فظنها وهمًا، لكن إذا شعر بها جوشوا أيضًا، فالأمر مختلف.
جوشوا، الذي نادرًا ما يكشف عن هويته، فعل ذلك، و جيرفانت، الذي كان حذرًا من الآخرين، قبلها بسهولة أكبر.
هذا وحده كان سببًا كافيًا لمراقبة تيتيا.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"