* * *
كان ينظّف نظارته بعصبية، وهو يعبس بشدّة أحيانًا. بدا و كأنه يشعر بضيق شديد تجاه القديسة.
“هل تظنّين أنّني لم أحاول؟ بذلتُ جهدًا كبيرًا لترتيب لقاء، لكن الرئيس تجاهلَ القديسة تمامًا. بعد كل ذلكَ العناء لإحضارها…”
منذُ أن وقّعتُ على عقد السرية، أصبح كلامه أكثر صراحة.
هل هذا هو الوقت المناسب للتّحدث بحرية؟
“ألـم تقل إنه أغلقَ على نفسه في غرفته بعد أن رفضته القديسة؟”
“هكذا ظننت، لكن يبدو أن هذا ليس صحيحًا.”
يا لها من إجابة سطحية.
“ألا تعرف سببًا آخر؟”
“لو كنتُ أعرف، لكنتُ أخرجته بالفعل.”
كلامه منطقي.
لكن ما يقلقني هو أن بطلة هذا العالم، القديسة، فشلت أيضًا في إعادة الحيوية إلى جيرفانت.
“هل يمكنني حقًا أن أنجح في فعل ما فشلت القديسة فيه؟ و لماذا اخترتني أنا مَـنْ الأساس؟”
“أثناء البحث عن الشّخص المناسب، سمعنا بالصدفة عن الآنسة تيتايم من عائلة أنجيلا.”
لماذا يستمر في قول “تيتايم”؟
هل هو لا يزال منزعجًا لأنني ناديته “بيلت”؟
“ما نوع الشائعات التي سمعتها، سيد بيلت؟”
“هل تتذكرين الآنسة هانا وايتلي؟”
“آه، هانا…”
كانت هانا صديقتي الوحيدة وملاذي الآمن عندما كنتُ أعيش تحت وطأة مضايقات ويليام في عائلة أنجيلا.
“لقد هربتُ دون أن أودّعها.”
لم تكن ظروفها أفضل من ظروفي، لذا لم أستطع طلب مساعدتها. كل ما استطعتُ فعله هو الهروب بعيدًا دونَ أن أسبّب لها ضررًا.
ابتسامة مريرة ارتسمت على وجهي.
“هل تعرفين الاسم الحقيقي للآنسة هانا وايتلي؟”
“هانا وايتلي.”
“حسنًا، هذا ليس موضوعنا. على أي حال، كانت هانا وايتلي تعاني من اكتئاب شديد و تؤذي نفسها في طفولتها. الشّخص الذي منعها من ذلك وأخرجها إلى العالم هو أنتِ، الآنسة تيتيا، أو بالأحرى، تيتايم.”
يا إلهي، قلتُ اسمي بشكلٍ صحيح، فلماذا تغيّره؟
“كان ذلكَ صدفة…”
“لا، لا. لا تزال الآنسة هانا تبحث عنكِ من شدة امتنانها.”
“إذن، بما أن الوضع مشابه، ظننتم أنني الشخص المناسب؟”
“نعم.”
سماع اسم صديقتي بعد وقتٍ طويل جعلني أشتاق إليها.
“حتى تنتهي هذه المهمة، لا يمكنني مقابلة هانا، أليس كذلك؟”
“لن نمنعكِ بالضرورة. لكن إذا أمسك بكِ ويليام في منتصف الطريق، قد أتردّد بين إعادتكِ أو ترككِ، حسب حالة الرّئيس.”
قل إنني لا أستطيع مقابلتها مباشرة!
“حسنًا، للأسف، لن أقابلها الآن. هل هي بخير؟”
“بخير جدًا.”
“هل يمكنني مراسلتها؟”
“نعم، ذلك مقبول.”
لحسن الحظّ. سأكتب رسالة فور وصولي.
* * *
آه…
أعاني من دوار الحركة…
كم كان الأمر عاجلاً؟ استمرت العربة في السير لأربعة أيام دونَ توقف.
لماذا لا يوجد في هذا العالم بوابات تنقل فورية؟
لو كانت موجودة، لكان بإمكاننا الهروب بسرعة عند ظهور الشياطين.
و الأهم من ذلك، أنا لم أكن لأعاني من دوار الحركة!
كنتُ أتمنى بشدة أن يخترع أحدهم بوابة أو سيارة أو أي وسيلة نقل سريعة عندما…
اهتزاز
اهتزت العربة بشدة ثم توقفت. سمع صوت السائق الجهوري:
“لقد وصلنا!”
أخيرًا!
“هيا لننزل.”
نزلَ السيد بيلت أولاً و مـدّ يده لي. أمسكتُ يده و نزلت من العربة، فرأيت قصرًا ضخمًا محاطًا بحديقة رائعة.
بدت روعة القصر وكأنها طردت دوار الحركة.
كان القصر على شكل حرف U، يتألف من أربعة طوابق، لكن ارتفاع كل طابق جعله يبدو أعلى بكثير.
“هذا قصر عائلة الدّوق ديستين.”
“رائع…”
تمتمتُ بإعجاب، فقاد الطريق و قال:
“الآنسة تيتايم، ستكونين مسؤولة عن كل ما يتعلق بالرئيس. يمكنكِ التصرف بحرية دونَ إذن مسبق، لأنه لا يجب أن تكون هناك قيود في خدمة الرئيس. إذا كانت لديكِ أسئلة، اسأليني مباشرة.”
“لماذا تغيّر اسمي من تيتيا إلى تيتايم، سيّد بيلت؟”
“تفضلي، ادخلي.”
يبدو أنّني حرّة في السؤال، لكن الإجابة ليست كذلك.
تبعته إلى داخل القصر.
كان القصر ينضح بسحرٍ كلاسيكي. كانت هناك تماثيل و أعمال فنية باهظة الثمن في كل مكان، واللوحات الهادئة على السقف والأرضيات الرخامية لم تكن مبهرجة لكنها مليئة بالأناقة والرقي.
“لقد أخبرتُ رئيسة الخادمات و الخادم الشخصي مسبقًا، لذا لا حاجة لتحيّتهم.”
“ألن يظنوا أنني متعجرفة؟”
“أنا أكثر تعجرفًا، لذا لا بأس.”
هذا يعني أنّـه أنـتَ مَـنْ لا بأس به!
“آه، و تجنبي مناداة الرئيس بـ’الدوق’ أو ‘صاحب السمو’.”
“لكنه دوق، فلماذا؟”
“الرئيس يكره هذه الألقاب لأنها تجعله يشعر بالإحراج.”
في رأيي، لقب الرئيس هو الأسوأ.
ربّما لأنه اعتاد سماع هذه الألقاب أثناء إدارة النقابة.
“نحن نفخر أكثر بكوننا جزءًا من نقابة إكليبس أكثر من أي لقب آخر.”
شعرتُ بفخر كبير في صوت السيد بيلت عندما تحدّث عن إكليبس. حتى وجهه البارد استرخى عند ذكر النقابة.
“لكن في المناسبات الرسمية، لا بد من استخدام هذه الألقاب.”
“لا مفرّ من ذلك، لكن أعضاء نقابة إكليبس ينادونه بـ’الرئيس’. بما أنكِ الآن جزء من إكليبس، ناديه هكذا. ستكونين الأقرب إليه، لذا من المهم ألا تزعجيه.”
“حسنًا.”
لا يهمني إن ناديته بالرئيس أو الدوق، فوافقتُ بسهولة.
تبعته على الدرج المركزي من بين ثلاثة درجات متفرعة. عندما وصلنا إلى الطابق الثالث، ظهر ممر بنوافذ كبيرة. كان الرخام يلمع بلطف تحت ضوء الشمس، لكن كلّما تقدمنا، أصبح المكان أكثر ظلمة بسبب الستائر السوداء المحكمة.
أضاءت الشموع على الجدران الطريق بنور خافت.
إحضاري مباشرة إلى الرئيس دونَ توقف؟ كم هو عاجل هذا الأمر؟
حسنًا، طالما يدفعون جيدًا، سأبقي فمي مغلقًا.
“ها نحن ذا”
توقف السيد بيلت أمام باب خشبي كبير بلون داكن.
هل هذا لأنه دوق؟ حتى غرفة شخص منعزل تبدو مختلفة.
لم أرَ الداخل بعد، لكن بابًا بهذا الحجم يعني أن الغرفة واسعة جدًا.
مع هذا الحجم، يمكن للمرء أن يعيش منعزلاً لسنوات، و ليس لمجرّد عام.
“الغرفة المجاورة ستكون غرفتكِ، الآنسة تيتايم. هناك زي خادمة بالداخل، فاستحمي وارتديه ثم اخرجي.”
كانت الغرفة واسعة ونظيفة لدرجة أنني ظننتها غرفة صاحب القصر.
أخذتُ زي الخادمة بإعجاب و دخلتُ إلى الحمام.
بعد استحمام منعش و ارتداء الزي، خرجتُ فوجدتُ السّيد بيلت يصحّح صوته و يرفع صوته قليلاً:
“رئيس! لقد أحضرتُ اليوم الخادمة الشخصية التي ستعتني بكَ!”
“……”
“قال ادخلي.”
هو لم يقل ذلك، أليس كذلك؟
تجاهل السّيد بيلت نظرتي و فتح الباب بلطف غير ضروري، مشيرًا لي بالدخول. ألقيتُ نظرة جانبية عليه و دخلتُ.
كان الظلام حالكًا، كأن ستارة وضعت على عينيّ، بلا حتى وميض الشموع. كان هناك ضوء خافت في مكان واحد، لكنني لم أعرف ما هو.
“هل أذهب إلى هناك؟”
بينما كنتُ أحرّك يدي في الهواء بحثًا عن الاتجاه، تنهّـد السيد بيلت و وضعَ شيئًا في يدي.
“نسيتُ إعطاءكِ هذا. نظارة. ارتديها، سترين جيدًا في الظلام. إنها إحدى روائع نقابتنا.”
“لماذا تعطيني إياها الآن؟”
“لأنني أرتدي واحدة.”
مع هذا المستوى من تصرّفاتكَ، يمكنكَ جعله يغضب ليخرج من الغرفة!
ارتديتُ النظارة، فأصبحت الرؤية أوضح. لم تكن مضيئة كالنهار، لكنها لم تكن بشكلٍ غير واضح كما في السابق.
نظرتُ حولي، فرأيتُ رجلاً متكورًا في زاوية. أدركتُ أن الضوء الخافت كان من شعره.
لم يكن الرئيس على السرير، بل متكورًا في زاوية قريبة، دافنًا وجهه في ركبتيه المعانقتين بذراعيه.
حتى و هو متكور، كان حجمه كبيرًا. لا يمكن تخمين طوله إذا وقف.
يجب أن أترك انطباعًا جيدًا أولاً.
حييته بحيوية:
“مرحبًا، رئيس. أنا تيتيا. أتطلّع إلى العمل معك!”
“لا تضحكي…”
كان صوته المكتئب خافتًا جدًا، لكن بسبب هدوء الغرفة، سمعته بوضوح.
“رئيس.”
ناداه السيد بيلت مرّةً أخرى، فتحرك وجهه ببطء. رفع رأسه قليلاً، مغطّيًا نصف وجهه بركبتيه، وحدّق بي بعيونٍ باهتة خلف نظارة مستديرة.
كانت عيناه الفارغتان غريبة لدرجة أنني وجدتهما جميلتين. كنتُ أتمنى لو لم يخفِهما شعره و نظارته.
بينما كنتُ أتبادل النظرات معه كالمسحورة، اهتزت حدقتا جيرفانت قليلاً.
“…ساحرة؟”
أنـا؟
كان سؤالًا مفاجئًا، لكنني رددتُ بهدوء:
“أنـا؟ حسنًا، بمعنى ما، قد أكون ساحرة. سأكون ساحرة ضحكتكَ من الآن فصاعدًا…”
“اخرجي.”
حسنًا، سأتبع تعليقات الرئيس اللطيفة و أخرج الآن.
إنّـه حـادّ جدًا الآن.
حاولتُ الخروج لأرتاح من تعب السفر الطويل، لكن السيد بيلت أمسك الباب وقال:
“أرجوكِ، اعتني برئيسنا.”
طق.
أغلق السيد بيلت الباب بوقاحة.
“سيد بيلت!”
نقرة نقرة.
هل أغلقَ الباب من الخارج؟
“كيف سأخرج إذا احتجتُ؟”
“يوجد حمام داخل الغرفة.”
“ماذا لو أراد الرئيس قتلي؟”
“أنا بارع في التعامل مع الجثث.”
يا إلهي! ليس هذا ما قصدته!
“أرجوكِ، اعتني به حتى وقت الغداء. إلى اللقاء.”
إذن، أتركني محبوسة هنا حتى الغداء؟
هل يعرف السيد بيلت أن حبس تيتيا هكذا قد يجعلها تصاب بالذعر؟
لكن صوت خطواته تلاشى، فاستسلمتُ.
على أي حال، هذا جبل يجب أن أتسلقه.
الهروب لن يفيدني بشيء. هانا كانت خائفة هكذا في البداية أيضًا.
جلستُ القرفصاء على مسافة منه. لم أحاول التحدث إليه.
الحديث الآن لن يفيد بشيء.
يجب أن يعتاد على وجودي أولاً حتى يستمع إليّ.
لذا، جلستُ بهدوء و بدأتُ أعـدّ الأرقام.
لم أكن لأفعل ذلكَ لو كنتُ أعلم أنني سأنام و أنا أشخر.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات