“لماذا تطيعين الكلام بهذه السهولة؟!”
“أنا دائمًا أستمع جيدًا.”
ظهرت نظرة ذهول على وجه جوشوا بعد ردي الواثق.
وقف جوشوا بتردد و جلس بجانبي مجددًا بينما يلعب ببتلات الزهور و ينظر إلى السماء.
بدا مترددًا و هو يحرك شفتيه، كأن لديه شيئًا يريد قوله. انتظرتُ دونَ استعجال، حتى فتح فمه أخيرًا:
“قلتُ إنني لا أستطيع زيارة جير كثيرًا لأنني قد أؤثر عليه سلبًا.”
نعم، هذا صحيح.
“لذا… أريدكِ أن تستمعي إلى نصيحتي و تعتني بجير جيدًا.”
“الرئيس كبير بالفعل. هل تعرف كم هو طويل؟ طويل جدًا لدرجة أنني أتساءل إن كنتُ أنظر إليه أم إلى السقف. عندما أقف أمامه الآن، لا أرى إلا صدره العريض ، و هذا فقط بينما يقف بشكلٍ متردد. لو استقام و وقف بشكلٍ صحيح، ربما سأرى بطنه.”
هذا يناسب مستوى عينيّ تقريبًا. لستُ أنظر إلى ذلك المكان لأنني أريد ذلك.
استمع جوشوا إلى ثرثرتي المبالغ فيها بذهول، ثم استعاد رباطة جأشه و صرخ:
“ليس هذا ما قصدته!”
نهض فجأة و هو يتنفس بغضب ، ثم عض رأسي بقوة.
“توقف.”
لكنه لم يتوقف، و مع وجود رأسي بين أسنانه، تحدث بوضوح دون أي تمتمة:
“في الحقيقة، جير يعاني من تقلبات عاطفية شديدة، و هي سلبية. ليس هذا ما يريده، لكنه بسبب تأثير…”
نظر إليّ بحذر، ثم طمس كلامه و تابع:
“عندما يغرق في المشاعر السلبية، لا يستطيع الخروج منها. لهذا أصبح شخصًا ينقصه التواصل الاجتماعي.”
“حقًا؟”
“لم يكن كذلك في السابق! كان يمزح كثيرًا و يثير المشاكل بمهارة. كان يتشاجر مع النبلاء كل يوم! لم يعرف شيئًا عن الآداب.”
‘هل هذا وقت إهانة الرئيس؟’
عند التفكير في الأمر، ألم يكن الرئيس يفتقر إلى التواصل الاجتماعي حتى في الماضي؟
“لكن منذُ عامين، أصبح التحدث مع أي شخص غيرنا صعبًا جدًا. هذه المشاعر السلبية ليست شيئًا يريده!”
“همم.”
شعر أنني لا أستمع جيدًا، فزادت قوة عضته على رأسي.
‘هذا مؤلم، يا تابع الشيطان.’
“بعض أعضاء نقابة إكليبس قد جاءوا من قبل ، لكنه كان يقول لهم فقط ‘اخرجوا’. التحدث بالنّسبة له أصبح حلمًا بعيد المنال.”
“أنا أتحدث مع الرئيس جيدًا هذه الأيام.”
“بالضبط! هذا يعني أن هناك أمل!”
أضاءت عيناه و هو يعانق ركبتي بقوة من مسافة قريبة.
“إنه يتحدث معكِ جيدًا! و يطلب منكِ الخروج كثيرًا!”
“نعم ، يتحدث بشكلٍ جيد جدًا.”
كلما قلت شيئا، يقول “اخرجي”. ربما هذه براءة اختراع الرئيس.
دفن وجهه في ركبتي و هو يضحك، ثم رفع رأسه:
“…همم. لذا، ساعديه!”
“أنا أحاول جاهدة.”
“إذا استمعتِ إلى نصيحتي، ستفعلين ما هو أفضل!”
“دعني أسمعها إذن.”
أريد أيضًا أن أبذل قصارى جهدي لإخراج الرئيس من تلك الغرفة المظلمة.
“جير مريض و لا يبدو بخير، لكن داخله أكثر سوءًا. لذا، امنحيه بعض الضحك.”
“كما قلتُ مرارًا، أنا لستُ مضحكة.”
‘اذهب و استأجر ممثلًا كوميديًا بدلاً مني.’
“إذن، لا تعتقدي أن كلامه سيؤذيكِ. مهما أردتِ الاستسلام، لا تفعلي. إنه يتألم جسديًا و عقليًا.”
ربتتُ على ظهر جوشوا الحزين. كان يبدو كتابع للرئيس أكثر من كونه تابعًا للشيطان.
لا أعرف ما الذي حدث بينهما، لكن يبدو أن جوشوا يهتم بالرئيس كثيرًا.
كان محزنًا أن جوشوا، الشيطان، لا يستطيع الاقتراب منه خوفًا من تأثيره السلبي عليه.
‘لحظة. ألا يعني ذلك أنه قد يؤثر سلبًا عليّ و على الآخرين؟’
لكنه كان دائمًا حولي و حول الآخرين، لذا ربّما هناك شيء لا أعرفه بين الرئيس و جوشوا .
“ليس لدي نية للاستسلام. إذا استسلمتُ هنا، فكأنني أستسلم لحياتي.”
لا أريد أن يمسك بي ويليام و أعيش حسب إرادته.
الرئيس يثير الشفقة، لكن حياتي أيضًا تثير الشفقة.
صرخ جوشوا بحماس:
“أنتِ صادقة جدًا لدرجة أنكِ قد تجرحين جير! هل تعتقدين أنني أفعل هذا كله من أجلكِ؟!”
“أليس من الغريب أن أقول له أنني سأفعل كل شيء من أجله؟ لم يمر شهر واحد حتّى منذُ أن التقيتُ به.”
هدأ جوشوا من حماسته و أومأ:
“هذا صحيح. على أي حال، قد ينفجر أحيانًا إذا لم يتحكم في مشاعره، لذا كوني حذرة. إنه يعاني كثيرًا، لكن لا تُظهري الخوف.”
“أنا خائفة منه حتى عندما يكون ساكنًا.”
“…حسنًا. مهما حدث، لا تذكري سبب قدومكِ إلى هنا. لا أريد أن يتأذى جير.”
“لقد فعلتُ ذلك.”
“أنتِ!”
نهض جوشوا، و هو يلهث بغضب و ينظر إليّ. هدأته و أضفتُ:
“لقد تجاهلني الرئيس حينها. من الأفضل أن أكون صريحة بدلاً من أن يحدث سوء فهم لاحقًا.”
هدأت عيناه المتوترتان تدريجيًا:
“…هذا صحيح. أنتِ ذكية، أليس كذلك؟”
“شكرًا.”
‘ههه، لقد تلقيتُ مديحًا من تابع للشيطان.’
فصلتُ يـده التي كانت تشد شعري بعنف على الرّغمِ من كلامه اللطيف.
* * *
لم تكن كلمات جوشوا بلا تأثير. شعرتُ بحماس أكبر من ذي قبل.
“رئيس، هل تعرف ماذا أعددتُ لك؟”
تجاهلتُ تجاهله لي، دخلت من الباب، و سحبتُ صينية كنتُ قد جهزتها. كانت مليئة بالطعام الفاخر.
“عندما أخبرتهم إنها لكَ، أعدوا هذه الكمية!”
“لا أريد الأكل.”
“توقعتُ ذلك. لذا اخترتُ أطعمة تناسب ذوقي. سأتناول بعضها هنا.”
“…هل أنـتِ مجنونة؟”
“ليس كثيرًا.”
وضعتُ الطعام على الطاولة و جلستُ. حدقتُ بسعادة في الأطعمة التي يتصاعد منها البخار.
‘من الآن فصاعدًا، سأتظاهر بأنني أحضر طعام الرئيس و أتناوله بنفسي.’
بما أنني أتناول الطعام أمامه، فإذا اكتشف ذلك لاحقًا، سأجد مبررات.
على أي حال ، لقد سألته إن كان يريد الأكل، لكنه رفض، لذا لا أشعر بأي ذنب.
‘أنا بريئـة.’
طقطقة.
تردد صوت الأطباق و مضغي في الغرفة. بسببِ الهدوء الشديد، كان صوت المضغ مسموعًا بوضوح.
نهض الرئيس فجأة و جلس على الكرسي المقابل لي، متكئًا قليلاً إلى الأمام.
“افرد ظهركَ! لماذا تبدو مترددًا هكذا؟”
“أكملي طعامكِ أولاً قبل أن تتحدثي… إنه يتطاير.”
مسح وجهه بظهر يـده و نظر إليّ، لكنني قطعتُ قطعة لحم و مددتها له.
“ما هذا؟”
“ألم تأتِ لتأكل؟”
“لا.”
‘إذن سأتناوله.’
حاولتُ إعادته إلى فمي، لكنه أمسك معصمي و وضع اللحم في فمـه.
“قلتَ إنكَ لن تأكل.”
استمر في المضغ و هو يحدّق بي.
“…لن تأكل كل شيء مثلما فعلتَ بالخوخ، أليس كذلك؟ كنتَ مريضًا حينها، لذا لن تفعل ذلك الآن، صحيح؟”
رد الرئيس المزعج بوقاحة:
“ربّما يجب أن أفعل ذلكَ.”
‘لا!’
أكلتُ الطعام بسرعة، لكنه أكلَ ضعف الكمية التي أكلتها. في النهاية، تناول أكثر من نصف الطعام الذي أحضرته.
“يبدو أنكَ تأكل فقط عندما يكون هناك منافس…”
‘مثل طفل تمامًا. أعتقد أنني بدأتُ أفهم كيف أتعامل معه.’
“لا تبدين سعيدة.”
“نعم.”
‘لستُ سعيدة.’
أخرجتُ منديلاً و مسحتُ ما حول شفتيه. أبعد يدي بعنف:
“ابتعدي.”
“ابـقَ ساكنًا!”
لم يكن هناك شيء، لكنني مسحت الزيت من شفتيه اللامعتين. حاول التملص، لكنني أنهيتُ مهمتي، ثم نقلتُ الأطباق الفارغة إلى الصينية.
تركتُ الصينية خارج الباب و عـدتُ، فأمسكتُ به وهو يعود إلى مكانه المعتاد.
“لماذا عـدتِ مجدّدًا…؟”
“يجب أن نغسل أسناننا.”
“…..”
تنهد بعمق، لكنه تبعني إلى الحمام. وضعتُ معجون أعشاب على فرشاة أسنانه.
‘ربما بسببِ كونها رواية رومانسية، لديهم معجون أسنان.’
فرك أسنانه بنظرة غير راضية، و وقفتُ بجانبه أفرك أسناني بحماس أمام المرآة. تجاهلني بنظرة اشمئزاز.
بعد التنظيف، أعدتُ الصينية إلى المطبخ و عدتُ إلى الغرفة. كان جالسًا متكورًا في مكانه المعتاد.
جلستُ أمامه بنفس الوضعية، بحيث تكاد أصابع قدمينا تتلامس.
“لماذا تجلس هكذا دائمًا؟”
“إنه مريح لقلبي.”
“ألا يؤلم ظهرك و رقبتك؟”
“لا.”
“لقد تألمتُ كثيرًا.”
وضعتُ ذقني على ركبتي، فرفع وجهه المدفون في ساقيه و سألني:
“ماذا تقصدين؟”
بدأتُ أحكي بهدوء عن طفولتي:
“حتى مع وجود الفيكونت أنجيلا السابق، كان ويليام يضايقني كثيرًا. إنه شخص مهمل جدًا. عندما كنتُ في السادسة، حُبستُ في صندوق خشبي صغير مربع الشكل.”
تذكرتُ ذلكَ اليوم، و شددتُ يديّ بقوة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"