بينما ظلّ جيرفانت عاجزًا عن الإجابة في النهاية، لم تستطع يوبيلين إخفاء سعادتها.
“لقد تأخّرتُ كثيرًا، لهذا أنـتَ غاضب، أليس كذلك؟”
“….”
“في الحقيقة، كنتُ في رحلة خطوبة مع تيرنس. أنتَ لم تحضر حفل الخطوبة، أليس كذلك؟”
اشتدّ التوتّر في فـكّ جيرفانت. عندها فقط أدركت يوبيلين خطأها فغطّت شفتيها و اعتذرت.
“آسفة، أعني أنّك لم تتمكّن من الحضور.”
من دون أن تبذل أدنى محاولة لمعرفة شعوره، قامت يوبيلين بتغيير موضوع الحديث.
“على كلّ حال، حدث شيء ضايقني. ستستمع لي، أليس كذلك؟”
ظلّ جيرفانت صامتًا، أمّا يوبيلين فواصلت الكلام دونَ أن تهتم.
كونه لا يتكلّم لم يكن أمرًا جديدًا، لذا لم يكن ذلك سببًا للقلق.
و بينما كانت تنظر إلى جيرفانت المحبوس في هذا الظلام، لم يخطر ببالها أيّ شيء، بل أخذت تثرثر بقصصها وحدها.
“تخيل، حتى عندما ذهبتُ مع تيرنس في رحلة الخطوبة لم نستمتع كثيرًا، لأنّ الجميع أينما ذهبنا كانوا يمطروننا بالثناء و يصفوننا بالأبطال، لذا بقينا في القصر فقط. أليس من اللباقة أن يتظاهروا بأنّهم لا يعرفون مَـنْ نكون؟ ألا تعتقد أنّ الناس يبالغون؟”
بينما كانت يوبيلين تتحدّث بكلامٍ لا يعلم إن كان تباهيًا أم لا، أخفض جيرفانت رأسه.
لم يرَ سوى الأرض المظلمة أسفل نظره المنخفض.
كانت مظلمة و باردة كـمستقبله.
“تيرنس أيضًا مشغول للغاية، فبعد أن عدنا من الرحلة ذهبَ للعمل مباشرة و لم يستطع الحضور لزيارتكَ، لذا طلب مني أن أبلّغـكَ سلامه.”
كلّما خرجت من شفتي يوبيلين قصصهما السعيدة، اختنق حلق جيرفانت أكثر.
ضغط على أسنانه كي لا يخرج منه أيّ أنين.
كانت مشاعر العجز و الغيرة، و السؤال الحقير ‘ لماذا لستُ أنا؟’ تقفز داخل رأسه كلّما استمع إليها، و تنهشه بلا رحمة.
‘هل كنتُ بائسًا إلى هذا الحد؟’
لم يكن ذنبهما، و مع ذلك بدأ يلومهما.
‘هل أنا حقير…إلى هذه الدّرجة؟’
شعر جيرفانت أنّ وضعه بات بائسًا و مخزيًا إلى حدّ لا يُحتمل.
في حين كان الاثنان قلقين عليه، كان هو يشعر بالغيرة منهما.
كان يحسد سعادتَهما.
و رغمَ أنّه فرح لرؤية يوبيلين بخير، إلا أنّ ذلك كان يحطّم ثقته بنفسه.
لقد تغيّر كثيرًا عمّا كان عليه سابقًا.
لم تعـد يوبيلين تلكَ الفتاة التي كانت تنظر إليه بخجل وهي تحمرّ و تشيح بوجهها عنه.
و على عكسِ الماضي، لم يكن يخفى عليه أنّ في عينيها الآن شعورًا بالاستصغار نحوه.
‘اللعنة.’
يا له من شخصٍ حقير.
قبض على يـده بقوّة.
في تلكَ اللحظة، لامس يـده دفء أذاب جليد عينيه. رفع جيرفانت رأسه بسرعة، و قد فوجئ.
أمسكت يوبيلين يده بابتسامة تنعكس في عينيها.
“لا بأس يا جير. لعلّ اللعنة ستزول يومًا ما. حتى ذلك الحين سأبقى أراقبـكَ.”
“…..”
بدأ يكرهها لأنها تمنحه أملًا لا تؤمن به هي نفسها.
فهذه اللعنة لم تُفـكّ حتى بقوّة القدّيسة.
كانت لعنة أقوى من أن تزيلها القدّيسة ذاتها.
‘ستبقين تراقبينني، هاه؟’
لم ترسل ردًا على رسائله، و لم تُـرِه وجهها طوال تلك المدّة، فما الذي ستراقبه الآن؟
كفى وعودًا لا يمكن الإيفاء بها.
لكن الكلمات التي بقيت على طرف شفتيه ابتلعها مجددًا.
بات عاجزًا حتى عن الكلام أمام يوبيلين.
لا شكوى، لا غضب، لا اعتراض.
لم يعـد قادرًا على فعل شيء.
هي مَـنْ جعلته عاجزًا. خصوصًا بعد…
‘جير، أنا لست سلة قمامة لمشاعركَ.’
بعد أن سمع تلكَ الكلمات منها، أصبح يخشى الكلام أمامها و أمام تيرنس أكثر.
لو كان على طبيعته لكان ردّ عليها.
و لربّما لم يعـد يرغب حتى في رؤيتها لو انتهت مشاعره.
لكن منذُ أن صار محبوسًا، انكمش جيرفانت و أصبح يتصرّف كشخصٍ أحمق.
“إن كان لديكَ أمـر يضايقك، فأخبرني به.”
كأنها ستسمع إليه إن تحدّث.
“سأستمع لكَ على الأقل.”
و كأنها فعلت ذلك من قبل بالأصل.
أراد أن يسـدّ فـم يوبيلين التي تتحدث ببساطة و كأنّ الأمر سهل.
و مع ذلك، لم يستطع جيرفانت أن يحمل عليها كرهًا كاملًا.
كان ذلك نتيجة انهيار ثقتـه بنفسـه.
طوال عامين، كان ينهار و يعزل نفسه شيئًا فشيئًا، حتى أصبح عاجزًا عن الكلام، مهزومًا تماما أكثر من السابق.
و بات يشعر أنّه لا يحقّ له حتى أن يشعر بالغيرة أو الضيق من أحد.
“جير خاصّتنا…”
حين كاد يسدّ أذنيه ليمحو صوتها الحلو، و يمحوها معه من رأسه…..
طقطقة.
فُتح الباب على مصراعيه، و اندفع شيء ما نحو الداخل.
و أوّل ما أبصره جيرفانت كان عينين بلون مائي مليئتين بالبهجة.
ثم رأى الدرّاجة الحمراء التي كانت تركبها.
بكلّ جسارة، دخلت تيتيا مترجلةً في الظلام بدراجتها، دارت دورة كاملة حول الغرفة كأنها تتباهى باللون الساطع وسط العتمة.
تفاجأ جيرفانت و كذلك يوبيلين، و لم يفعلا شيئًا سوى التحديق بها.
بعد أن أكملت دورتها بفخر و توقّفت أمامه، قالت تيتيا بنبرة متعالية قليلًا:
“الغرفة واسعة بلا فائدة، أليس كذلك؟ البقاء دون فعل أيّ شيء في غرفة كهذه أمرٌ غير منتـج إطلاقًا! لدرجة أنّ السّيد بيلت أصبح يقلق على ضمور عضلات الرئيس. لذلك فكّرت أن يقود دراجة هنا على الأقل…”
و في منتصف كلامها المتواصل، التقت عيناها بعيني القدّيسة مباشرة.
قفزت كمَـنْ لُسـع بالنار، و نزلت بسرعة من الدراجة و انحنت باحترام.
“أ-أُحيّي القدّيسة. ظننتك عًدتِ إلى المعبد. آسفة…”
انقطع الخيط المشدود بين يوبيلين و جيرفانت في لحظة، دون مقاومة.
*****
‘ماذا؟ لقد قيل إن القدّيسة رحلت!’
لهذا السبب تركتُ الحلوى و اقتحمت الغرفة بالدراجة.
كان الرئيس منكمشًا في الغرفة، لذا قرّرت ممارسة نشاطٍ معه، و أحضرت الدراجة بحماس شديد.
و الآن… لقد تجرّأتُ على مقاطعة وقته مع القدّيسة.
لا بدّ أنّه سيقتلني.
و سيقتلع عجلتيّ الدراجة و يرميهما نحوي.
‘يا إلهي! لا أريد!’
“أنتِ….”
بينما أتخيّل مستقبلي المأساوي، دوى صوت الرئيس فارتجفت كتفاي.
سارعت إلى التبرير بملامح مظلومة و حركات مبالغ بها.
“حقًا يا رئيس! ظننتُ أنّـكَ وحدكَ هنا! السيد بيلت قال إنني أستطيع زيارتكَ الآن…”
“لم أقل إن القدّيسة غادرت.”
ردّ بيلت ببرود من الخلف.
‘هل تحاول النجاة لوحدك؟’
رمقته بنظرة مليئة بالغيظ.
“كانت نبرة السيد بيلت توحي بذلك.”
“لم تكن كذلك.”
‘توقف عن الكلام، هذا يثير أعصابي.’
هل يريد أن يتمّ طردي الآن بعدما وظّفني؟
لا يوجد سبب آخر يجعله يلعب معي مثل هذه اللعبة.
لكن أيا يكن، عليّ إصلاح خطئي أولًا.
أصبح عقلي صار أبيض من الذعر و لم أجد مخرجًا مناسبًا، لهذا قررت المغادرة بسرعة.
جمعت يديّ بأدب و قلت بملامح مظلومة:
“أعتذر كثيرًا لمقاطعة وقتكما. سأتقبّل العقاب لاحقًا. سأخرج الآن…”
وضعت قدمي على الدوّاسة لأتحرك، لكن الدوّاسة لم تتحرّك.
التفتّ خلفي فرأيت الرئيس واقفًا خلفي.
‘لماذا يمسك بي؟ هل سيعاقبني الآن؟’
“لماذا يا رئيس؟ هل أنتَ ستوبّخني؟ لكنني مظلومة فعلًا.”
لم يقـل شيئًا، بل أخفض رأسه.
‘هذا غريب…’
عندها فقط لاحظتُ الجو الغريب بينه و بين القدّيسة.
فاقترحتُ بحذر:
“رئيس، هل تريد أن تركب خلفي؟ أنا بارعة في ركوب الدراجات.”
اعتلى المقعد الخلفي فورًا، و كأنه كان ينتظر سماع ذلك.
‘لقد قلت ذلكَ عشوائيًا فقط.’
‘هل يريد الهرب من قضاء الوقت وحده مع القدّيسة؟’
وضعتُ كلّ قوتي في الدوّاساا، و بدأت الدراجة تتحرك ببطء.
“جير…!”
نادته القدّيسة، لكن السيد بيلت قاطعها أولًا:
“أيتها القدّيسة، هلّا غادرتتِ الآن؟ في هذا الوقت عادةً ما تكون آنسة وقت الشاي اللطيفة تستمتع باللعب مع رئيسنا العزيز. و يكونان في غاية السعادة.”
‘أنتَ مَـنْ حرص على لقائهما، فلماذا أنتَ سعيد الآن عندما رفضها؟’
كان يبدو سعيدًا للغاية بأنّ الرئيس يتجنّبها.
“…..”
“كما أنّكِ مشغولة جدًا، و هناك فرسان مقدّسون ينتظرونكِ في الخارج بقلق.”
كان الرئيس يتجنّب نظرات القدّيسة بوضوح.
و لسببٍ ما، بـدا ذلك مرضِيًا لها فابتسمت بسعادة.
“حسنًا، سأرحل. اعتنِ بنفسكَ يا جير. و أنـتِ أيضًا، يا آنسة وقت الشاي اللطيفة.”
اسمي آنسة تيتيا اللطيفة.
“عودي بسلامة، أيتها القدّيسة. أعذرينا على عدم قدرتنا على توديعكِ كما يليق بكِ، فأنا مشغولة بخدمة الرئيس.”
“لا بأس، إن كانت سعادته ستعود قليلًا، فلا بأس إن تصرّفتم بوقاحة معي. نلتقي لاحقًا، جير.”
غادرت القدّيسة دونَ أيّ تردد، فرفع السيد بيلت إبهامه نحوي بشكلٍ مزعج قبل أن يغلق الباب.
امتلأت الغرفة بصوت أنفاسي اللاهثة و صوت الدوّاسات.
و فجأة، خفّ وزن المقعد خلفي ثم سُمِع صوت ارتطام، فتوقفت و نظرت خلفي.
كان قد انهار على الأرض بوضع أسوأ من المعتاد و هو يغطي وجهه.
قفزت من الدراجة و ركضت نحوه.
“ر- رئيس! هل أنتَ بخير؟ أخبرتكَ أن تتمسّك بشكلٍ جيّد!”
“… مزعج.”
“ماذا؟”
” مثير للشفقة.”
“و هذا طبيعي. فأنا فعلًا مزعجة و مثيرة للشفقة بعض الشيء.”
“….”
أنزل يـده عن وجهه و نظر إليّ و هو مصدوم.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"