اهتزت نظرات هيلاري ذات اللون الكهرماني العميق للحظة، قبل أن تعض على شفتها السفلى، هامسة بصوتٍ منخفضٍ غارقٍ في الغيظ المكبوت:
“……يا للجبن.”
ثم أغمضت عينيها ببطء، وكأنها تعترف بالهزيمة، وأطلقت تنهيدةً خافتة.
عندها فقط، ابتسمتُ ابتسامةً عريضة وقلتُ بمرحٍ متعمد:
“أعتمد عليك إذًا، يا معلمتي.”
نظرت إليّ هيلاري كما لو كانت تحدق في شيطانٍ خرج للتو من الجحيم.
كانت بلدة فيلتواك تقع في أقصى شمال شرق الإمبراطورية، على مسافةٍ لا يمكن بلوغها إلا بعد خمسة أيام من السفر بعربةٍ تجرها الخيول، أي ما يقارب عشرة أيامٍ ذهابًا وإيابًا.
“هل أنتِ حقًا متأكدة من الأمر؟”
اقتربت هيلاري مني بينما كنت أتحقق من السرج، وعلامات القلق تظلل ملامحها.
أومأت بثقةٍ خفيفة.
“نعم، لا تقلقي.”
كانت الطرق المؤدية إلى فيلتواك وعرةً وغير ممهدة، لذا كانت العربات خيارًا غير عملي. قررت أن أستغل الرحلة كفرصةٍ للتدرّب على الصيد أيضًا، فامتطيت جوادي بنفسي.
كان ذلك أسرع وأكثر كفاءة.
ومع ذلك، لم تستطع هيلاري إخفاء قلقها من فكرة أن أقطع تلك المسافة على ظهر حصان.
“ربما يكون من الأفضل أن نركب نفس الحصان؟”
“ركوبنا معًا لمسافة طويلة مرهق وغير فعّال، سنُبطئ الرحلة. الأفضل أن نتحرك منفصلين.”
“لكن…”
“لا بأس، أنا بارعة في الفروسية أكثر مما تظنين.”
حين امتطيت الحصان للمرة الأولى بعد أن أصبحت في جسد يوريا، شعرت ببعض الغرابة من طول الغياب، لكن سرعان ما عادت إليّ مهارتي القديمة، كأن الجسد تذكّر نفسه من جديد.
وحين رأت هيلاري ثباتي على السرج، تراجعت أخيرًا مستسلمة.
“حسنًا. لكن إن شعرتِ بالإجهاد، يجب أن تخبريني فورًا.”
“أعدك بذلك.”
جاء ردي واضحًا وصادقًا.
اكتفت هيلاري بزفرةٍ طويلة وكأنها تبتلع كل ما تبقى من اعتراضاتها، ثم امتطت جوادها.
اقتربت إريل وهي تُعلّق حقائب الإمدادات على جانبي الحصان.
“لقد أعددتُ طعامًا وماءً يكفيان لعشرة أيام، ومعهما بعض المال للطوارئ… أرجوكِ، عودي سالمة، يا سيدتي!”
كانت عيناها دامعتين بعد أن علمت من هيلاري مدى خطورة فيلتواك.
شعرتُ بالذنب تجاهها؛ فحراسة القصر وحيدة أمر ثقيل على فتاةٍ مثلها.
حين امتطيت حصاني، بدا العالم صغيرًا أسفل قدميّ، وابتسمت لها برفق.
“أوكلي أمر القصر إليكِ ريثما أعود.”
ثم أضفت بعد لحظة صمتٍ متأنية:
“ولست مضطرةٍ لفعل أي شيء مفرط، فقط حافظي على كل شيء كما هو.”
فالفكرة الأخيرة التي أريدها عند عودتي هي أن أُستقبل بجوقة من “مرحبًا بعودتكِ” و“نعتذر بشدة”.
أجابت بحماسٍ شديد:
“لا تقلقي بشأن القصر! سأحرسه وأديره كما لو كنتِ هنا!”
…هل عليّ أن أقلق أكثر الآن؟
تملكني هذا الشعور الغريب وأنا أبتعد راكبةً جوادي.
بفضل الاهتمام الكبير بتجهيز السرج، كان الطريق مريحًا نسبيًا.
مررنا بعدة مدنٍ وقرى، واسترحنا ثلاث ليالٍ قبل أن نتوقف في اليوم الرابع عند وادٍ قريبٍ من فيلتواك لننصب معسكرنا.
كانت المؤن التي أعدّتها إريل وفيرة، فلم يكن الطعام أو الماء مصدر قلق.
ربطتُ الحصان وجلستُ قرب هيلاري بجانب النار.
كان صوت الحطب وهو يتقد طقطقةً دافئة تذكّرني بأيامي حين خيّمت مع هيكارد.
‘ربما كانت هيلاري تشبهه أكثر مما ظننت.’
كلاهما كان صامتًا، حذرًا، يملك ماضيًا يثقل الكتفين أكثر من السنين.
وحين فكرت بالأمر، أدركت أنني لم أتحدث مع هيلاري حديثًا صادقًا قط منذ انضمامي إلى النقابة.
حلّ الليل بظلاله الثقيلة.
ساد سكونٌ مهيب بيننا، فقط النار تتنفس.
‘هل ينبغي أن أقول شيئًا؟’
ترددت قليلًا، ثم قررت أن أتكلم أخيرًا.
“أنا لا أحب الليل.”
رفعت هيلاري رأسها نحوي فجأة، دهشة في عينيها.
تابعت حديثي دون أن أنظر إليها:
“حين يحلّ الظلام، يتسلل أولئك الذين يريدون إيذائي من بين خيوطه. يختبئون فيه، لا يمكن رؤيتهم، فأضطر للبقاء متيقظة. إنّها أكثر أوقات اليوم إنهاكًا.”
كنت أتحدث عن أيامي كرئيسة للنقابة.
ففي كل ليلة، كان هناك من يسعى لاغتيالي، يزحف في الظلام، يختبر حظّه.
لذا كرهت الليل.
لم أستطع النوم حتى بزوغ الفجر، كنت أدفن نفسي في العمل أو أغرق في الشراب لأطرد الصمت القاتل.
وحين عدت إلى كوريا، تنفست قليلًا، لكن الحياة لم تختلف كثيرًا.
درست بجنون لأعوض ما فاتني، وعملت لأضمن معيشي، ولم أجد يومًا حقيقيًا للراحة.
ثم همستُ وأنا أحدّق في النار:
“لكنني هذه الأيام… بدأت أرتاح في الليل.”
سألت هيلاري بصوتٍ هادئٍ، كأنها تخشى كسر السكون:
“هل لي أن أعرف السبب؟”
نظرت إليها.
كانت ألسنة النار تتراقص على خصلات شعرها النحاسي، فتتوهج كجمرةٍ مقدسة.
ابتسمت وقلتُ بصدقٍ خافت:
“لأن لديّ حارسةً أثق بها.”
صمتت.
“الآن، لياليّ محروسةٌ بهيلاري إيبوت. لهذا أشعر بالسكينة.”
حتى في أيام النقابة، كان لديّ حرّاس أكفاء، لكنهم كانوا مرتزقة، رجالًا يشترون ولاءهم بالذهب، يمكن أن يخونوا في أي لحظة.
لم أثق بهم قط.
أما هيلاري… فكانت مختلفة.
قضينا وقتًا قصيرًا معًا، لكنه كافٍ لأن أجزم بشيءٍ واحد:
إنها لن تخونني أبدًا.
وذلك وحده يكفيني لأشعر بالأمان.
لم تقل هيلاري شيئًا.
ظلت تحدق في اللهيب بصمتٍ، شفتيها مطبقتان بإحكام.
فقلتُ بعد لحظةٍ من التأمل:
“وأنتِ يا هيلاري؟ هل هناك ما تحبينه أو تكرهينه؟”
طال صمتها قبل أن تفتح شفتيها أخيرًا وتهمس:
“أكره البشر.”
أصغيتُ لها دون مقاطعة.
“أكره من يقترب مبتسمًا، كما أكره من يقترب غاضبًا. أكره من يفرض عليّ ثقته، ومن يجرّني إلى قتالٍ لا أرغب فيه.”
كان صوتها هادئًا، خالٍ من النبرة أو الارتجاف، لكن كلماته كانت ثقيلة، كأنها مغموسة في رماد الماضي.
“الناس، بالنسبة لي، كائنات أنانية، تبيع وتشتري أمثالها كما لو كانوا سلعًا تُستهلك وتُرمى. لهذا أكرههم.”
“وماذا عن الأشياء التي تحبينها إذًا؟”
ترددت لحظة ثم قالت بخفوتٍ ناعم:
“الحيوانات… أحب الحيوانات.”
ابتسمتُ قليلًا.
“هل هناك نوعٌ محدد تفضلينه؟”
“الجراء… أحب الجراء.”
“ولماذا؟”
انخفض صوتها كأنها تستعيد ذكرى بعيدة:
“حين كنت في السيرك، كان هناك جروٌ صغير، بنيّ اللون. كان لطيفًا جدًا، مليئًا بالحب، جعلني أدرك للمرة الأولى أن هناك شيئًا في هذا العالم يستحق الحنان.”
ابتسمت، ابتسامة خفيفة بالكاد تُرى.
“كان أول مرة شعرت فيها أن الكائنات يمكن أن تكون نقية فعلًا.”
“…….”
“لذلك، أحب الجراء أكثر من أي شيء آخر.”
“أفهم الآن.”
لم تتحدث أكثر عن ذلك الجرو، ولم أطلب منها أن تفعل.
لأنني كنت أعلم النهاية سلفًا.
في سيركٍ غير شرعيٍّ مثل ذاك…
لا يملك حتى الكائن الأكثر براءةٍ فرصة النجاة.
لكنني لم أحاول أن أنبش ذلك عمدًا.
فأنا لا أرغب في تمزيق جراح “هيلاري” القديمة.
“وأيضًا…”
“همم؟”
هل هو مجرد إحساس؟
حين نظرتُ إليها من غير قصد، بدا لي وجه “هيلاري” محمرًّا قليلًا.
هل السبب ضوء النار؟
“…هناك أمر آخر قد تحسَّن مؤخرًا.”
“وما هو؟”
“…عائلة كرايسيا.”
قالت ذلك وهي تُخفض رأسها بشدّة.
كان وجهها أكثر احمرارًا من ذي قبل.
لم يكن مجرد وهم.
“منذ أن التقيتُ بكِ يا ليدي يوريا، وعشتُ في قصر كرايسيا… أجد نفسي أبتسم دون وعي. حين تطلبين مني شيئًا أو تُظهرين ثقتكِ بي، أشعر بسعادةٍ خالصة. ذلك المكان بات يبدو لي… كأنه منزل.”
ثم نظرت إليّ بطرف عينيها، بحذرٍ يشبه—
‘جروًا صغيرًا.’
لم أُربِّ كلبًا قط، لكنني كنت متأكدة أن مظهر “هيلاري” في تلك اللحظة لا يقلّ لطفًا عن أي جروٍ في العالم.
وهي ما زالت تنظر إليّ بخجل، قالت بصوتٍ متردد:
“إن كنتُ قد تجاوزتُ حدّي، فأعتذر…”
“بل أنا سعيدة.”
أملتُ رأسي قليلًا وأسندته على كتفها.
تصلّبت فجأة، ورفعت رأسها تنظر إليّ بدهشةٍ ظاهرة.
ربما كان الإرهاق من كثرة الحركة، أو ربما لأن قلبي شعر بالراحة أخيرًا.
ارتخت عضلاتي، وبدأت أستسلم للنعاس.
“يسرّني أنكِ سعيدة، يا هيلاري…”
“……”
“يمكنكِ اعتبار قصر كرايسيا منزلكِ، يا هيلاري. أنتِ مرحّبٌ بكِ دومًا هناك… لذا…”
لا تخونيني.
لقد سئمتُ من طعم الخيانة التي تأتي من أولئك الذين وثقتُ بهم.
“إن كنتِ ترغبين، فلنُربِّ كلبًا معًا… في مكانٍ واسعٍ وهادئ، يمكنه الركض واللعب كما يشاء. فقط لا تتركي جانبي، يا سيدة هيلاري أبوت.”
كلمة سيدة كانت تُستخدم عادةً مع أولئك الذين نالوا لقب الفروسية.
لكن “هيلاري” لم تُمنح بعد ذلك اللقب، لذا سارعت بالاعتراض باضطراب:
“سيدة؟! لا يليق بي هذا اللقب… لم أحصل بعد على شرف الفروسية…”
“فارسي أنتِ.”
“……”
“أوفى وأصدق من أيّ فارسٍ آخر.”
تردّدت قليلًا، ثم أومأت برأسها في صمت.
لقد أدركت الآن… أن عنادي لا يُقهر.
ابتسمت بخفةٍ بسبب تلك المسافة القريبة بيننا، ثم غفوت أخيرًا.
وفي تلك الليلة أيضًا، حمتني “هيلاري”… كما تفعل دائمًا
التعليقات لهذا الفصل " 45"