لو كان ذلك الهدف إنسانًا لا دمية، لصرخ عاليًا وسقط أرضًا متلوّيًا من الألم.
“أولاً، اخفضي جسدك هكذا، ثم اضربي بقوة على مشط القدم. وبعدها…”
“وبعدها؟”
“اركضي. اهربي بكل ما أوتيتِ من سرعة. تلك هي الطريقة التي تعلمتُ بها النجاة.”
الفرار.
لو كان قائلها فارسًا من الطبقة النبيلة، لعدّها جملةً مخزية، لا تليق بفخر السيوف. لكن “هيلاري” قالتها ببساطة مطلقة، بلا خجل ولا اضطراب.
“حسنًا، فهمت. سأفعل ذلك.”
لم أشعر بأي نفور من تلك الفكرة، بل تقبّلتها بطمأنينة.
فمن أجل البقاء… أيّ كرامةٍ لا تُداس؟
ومنذ ذلك اليوم، شرعت “هيلاري” تُعلّمني طرق السيطرة على العدو في المواقف الطارئة، وأساليب التشويش على الرؤية للحظات ثم الهرب بأسرع ما يمكن.
“أظن أن الخنجر أنسب لكِ من السيف الطويل. فالسلاح المخفي يجعل خصمكِ أقل حذرًا.”
وكانت على حق.
حين كنتُ سيدة القافلة الكبرى، كنتُ دائمًا أضع خنجرًا في معطفي.
كان أكثر مرونة من السيف، وأسهل تحكمًا، خصوصًا أن النساء يُستهان بهن عادة، فتكون تلك الثغرة سلاحًا قاتلاً في يدي.
وإن كنتُ في النهاية قد لقيت حتفي، فكل تلك الحيل لم تنقذني آنذاك.
استمرّ التدريب ثلاثة أسابيع.
وخلالها، خضت مع “هيلاري” عشرات المحاكاة لمواقف خطرة، وتعلمت كيف أخرج منها حيّة.
ثم بدأت التحضيرات لمهرجان الصيد قبل انطلاقه بنحو شهر.
كانت مسابقات الصيد عادةً حكرًا على الرجال، لكن هذه المرة فُتحت أبواب المشاركة للنساء أيضًا.
وبالرغم من أن كلمة “صيد” توحي بالخطر، إلا أن المخلوقات المستهدفة لم تكن سوى وحوش دنيا، لا تفوق في قوتها حيوانًا بريًا.
في الواقع، كان الفرسان المرافقون هم من يتولّون الصيد، أما النبلاء فيكتفون بالمشاهدة من مواقعهم الآمنة، متفاخرين بمهارة أتباعهم.
وإضافة إلى ذلك، كان هناك جهاز سحري من ابتكار “تشارشا” للتجارة، يعمل كدرع أمان ضد الحوادث.
وبذلك، بات بإمكاني حضور المهرجان والمشاركة رسميًا.
غير أن أول ما احتجته كان زيّ الفروسية.
وهنا واجهتُ عقبة غير متوقعة.
كم هو خانق!
إيجاد زيّ فروسية نسائي في غير موسم الصيد لم يكن أمرًا يسيرًا.
وبعد جهدٍ طويل في البحث، عثرتُ أخيرًا على متجرٍ يمتلك بعض القطع. لكن حين ارتديتها، شعرتُ وكأنها قيدٌ من حديد، لا ثوبٌ للركوب.
صلب، ضيق، يخنق الأنفاس…
كان أشبه بجلدٍ ملاصقٍ للجسد، لا يسمح بحرية حركةٍ أو حتى التنفس.
وفيما كنت أتحمل الاختناق بصمت، كانت المصممة بجانبي تفيض إعجابًا قائلةً:
“يا إلهي، تبدين فاتنة! أؤكد لكِ أنكِ ستكونين الأجمل في ميدان الصيد!”
الأجمل؟
وهل الجمال ينفع وسط رائحة الدم والغبار؟
لكنني كنت أعلم أن ذلك المنطق لا ينطبق هنا.
فمهرجانات الصيد، بالنسبة للنساء، ليست سوى ساحة للتعارف الاجتماعي، أكثر منها ساحة صيد.
لذا كانت الأزياء فاخرة، خانقة، ومصممة لتُبهر لا لتُقاتل.
بهذه الملابس؟ لن أستطيع حتى ركوب الحصان.
خلعتها بسرعة وغادرت المتجر دون التفات، رغم نداء المصممة المتوسّل خلفي.
أنا لا أبحث عن “زيّ استعراض”، بل عن زيّ معركة.
إلا أن بقية المتاجر كانت جميعها متشابهة؛
كلها تتسابق في من يصنع الثوب الأضيق والأكثر تقييدًا.
عجيب… وكأنها منافسة في خنق النساء لا في تأهيلهن للصيد.
حينها، داهمتني ذكرى قديمة.
ففي أيام القافلة، كنتُ أهوى الصيد أيضًا — أو بالأحرى، كنتُ مضطرةً له، لأن أغلب اجتماعات النبلاء كانت تُقام في ميادين الصيد.
كانوا يظنون أنهم يفرضون عليّ الهيبة بأن يستدعوني إلى ساحاتهم الرجولية،
لكنهم لم يدركوا أنني كنت أتمرّس في كل مرةٍ أكثر فأكثر،
حتى غدوتُ من تفوقهم جميعًا.
لقد كنتُ أتمرّن بلا انقطاع، أركب الخيل يوميًا وأطعن الدمى المتحركة بالسهم والسيف، فقط لأثبت أنني لا أقلّ شأنًا من أي رجل بينهم.
من صمّم لي زيّ الفروسية آنذاك؟
كانت تلك الحقبة أكثر قسوة على النساء،
ولم يكن في السوق ثياب معدّة لهن أصلاً.
ثم تذكّرت.
فريا.
نعم، كانت “فريا” — فتاة من قبائل البدو الرحّل،
هي من خاطت لي بيديها زيًّا بسيطًا لكنه مرنٌ إلى أقصى حد.
كان عمليًا، مريحًا، يمنحني حرية حركة لم أذق مثلها بعدها قط.
تُرى… كيف أصبحت الآن؟
كانت صغيرة آنذاك، ما تزال تتعلم الحِرفة تحت رعايتي.
أما اليوم، فقد سمعت أنها غدت مصممةً عالمية، تُعرف عبقريتها في أرجاء القارة.
شعرتُ برغبةٍ مفاجئة في رؤيتها.
نعم… سأذهب إليها بنفسي.
وسأطلب منها أن تصنع لي زيّ الفروسية كما في الماضي.
وصادف أن سمعت أنها عادت مؤخرًا من الخارج، وتقيم في العاصمة استعدادًا لافتتاح مشغلها الخاص.
إن كانت في طور الافتتاح، فلا بد أنها تبحث عن موقعٍ مناسب.
ابتسمت، وقد اتضحت في ذهني وجهتي التالية.
ناديت “إريل” وبدأت أتهيأ للخروج.
“سيدتي، إلى أين أنتنون هذه المرة؟”
سألتني “إريل” وهي تلفّ حولي معطفًا من الفرو الدافئ، استعدادًا لرياح الشتاء القاسية.
أجبتها بابتسامة خفيفة:
“إلى فِلتوآك.”
قرية التائهين المنسيين.
قرية المنبوذين والمرتزقة.
كانت القرية شبه خالية، لا شيء فيها سوى مبانٍ صغيرة متناثرة، كأنها أطلال زمنٍ مضى.
الشوارع مقفرة، لا يكاد المرء يرى فيها سوى بضعة وجوه قاسية الملامح،
رجالٌ يحملون السيوف على أكتافهم، يسيرون بعينين حذرتين كذئابٍ في العراء.
كان العرق يتصبب من جبين السمسار الذي يرافقها،
فقد كاد يتورط قبل قليل في شجارٍ مع أحد المرتزقة حين اصطدمت كتفاهما عرضًا في الطريق.
تقع “فِلتوآك” عند الطرف الشمالي الشرقي من الإمبراطورية،
حيث تمتد الرمال حتى الأفق.
لكن رغم كونها تُسمّى “قرية”، إلا أنها بالكاد تستحق هذا الاسم؛
فهي أرضٌ قاحلة جرداء، بلا نظام ولا قانون.
لا يقصدها سوى المغامرين، والمرتزقة، وكل من لفظته المدن الراقية.
أناسٌ جعلوا من البقاء مهنةً، ومن الخطر حياةً.
فكان طبيعيًا أن تكون القرية نفسها انعكاسًا لهم — خشنة، قاسية، خالية من التهذيب والسكينة.
ولذا، لم يستطع السمسار تصديق ما سمعه من المرأة التي ترافقه.
متجر أزياء… هنا؟!
حدّق حوله مراتٍ عديدة.
لا توجد نساء في هذه الأرض، ولا زبائن يمكنهم شراء ثوبٍ واحد حتى.
“آنستي، أليس من الأفضل إعادة النظر؟”
قالها بخوفٍ وهو يلتفت إليها، لكنها أجابته بصرامةٍ لا تقبل الجدال:
“لا. هذا هو المكان.”
هبت ريحٌ جافة، فتمايل شعرها القصير ذو اللون النحاسي في الهواء،
لتكشف عن عينيها الفاتنتين بلون الفضة الخالصة.
حدّقت بعينيها في المبنى المهجور أمامها، كأنها ترى فيه شيئًا لا يراه أحد.
كانت جميع الأبنية من حولها متهالكة، يغلفها الغبار واليأس،
حتى المطاعم والنُزُل القليلة الباقية بالكاد تتنفس الحياة.
بالفعل، لم يكن في “فِلتوآك” ما يليق بمتجرٍ أنيق للأزياء.
لكنها تمتمت بإصرارٍ ثابت:
“يجب أن يكون هنا. لا مكان سواه.”
السمسار، وقد أوشك صبره أن ينفد، كان يريد الهرب من هذه القرية الملعونة.
حتى الرجال الأقوياء لا يطيلون المكوث فيها،
فما بالك به هو، رجلٌ أعزل لا يملك سوى دفتر العقود.
ولولا المبلغ الضخم الذي وعدته به،
لهرب قبل أن يفرغ من جملته الأولى.
كان ينظر إليها في حيرةٍ ودهشة.
من تكون هذه المرأة بالضبط؟
ولماذا تريد افتتاح متجرٍ للأزياء… في جحيمٍ كهذا؟
ثم هز رأسه في نفسه.
لا شك أنها إحدى أولئك الأثرياء الغريبي الأطوار.
قال محاولاً إخفاء توتره:
“هل نتابع رؤية بقية المباني؟”
“نعم، فلنفعل.”
أجابته بابتسامة خفيفة، فتنفّس الصعداء، وأشار نحو الطريق التالي.
وفيما كان يمضي أمامها متعثّر الخطى،
التفتت هي للحظة إلى الخلف —
نظرةٌ عميقة، متوجسة، كأنها تشعر أن هناك من يراقبها من بين الظلال.
قبل أن تُشيَّد هذه الأبنية، كان هذا المكان غارقًا في الدماء واللهيب.
وفي قلب ذلك الجحيم، التقت هي بشخصٍ مميّز،
شخصٍ كان الأعظم والأكثر سموًّا في حياتها بأسرها—
ذلك الذي ترك في روحها بصمة لا تُمحى.
تساءلت، أيمكن أن يجمعنا هذا المكان مجددًا، كما لو كانت الأقدار قد نسجت خيوطها لتقودني إليه؟
لكنها سرعان ما ابتسمت بسخريةٍ خافتة، وهمست لنفسها:
‘مستحيل.’
ثم استدارت وغادرت المكان بخطواتٍ هادئة، تحمل في أعماقها شيئًا بين الحنين والاستسلام.
حين أعلنت أن وجهتها القادمة هي “فيلتواك”، انقسمت ردود الفعل على الفور إلى نقيضين.
“فيلتواك؟ أين تقع هذه؟”
سألت إيريل بعفويةٍ طفولية، بينما جاء صوت هيلاري حادًا، قاطعًا كحدّ السيف:
“لا، لا يمكنكم الذهاب إلى هناك.”
أجبت بهدوءٍ مطمئن:
“لا بأس.”
غير أن إيريل نظرت إليّ في حيرة، تتنقل بعينيها بيني وبين هيلاري،
قبل أن تسمع الأخيرة تتابع بصرامةٍ أشدّ:
“تلك منطقة بلا قانون، موطن للفوضى والوحوش البشرية.”
“ماذا؟! يا إلهي، هذا خطير جدًّا يا سيدتي!”
صرخت إيريل وقد اتسعت عيناها رعبًا، لتلحق بها موجةُ الخوف متأخرةً لكنها عارمة.
كانت هيلاري محقة.
فـ”فيلتواك” لم تكن سوى أرضٍ منسية في طرف الإمبراطورية الشرقي الشمالي،
قرية صغيرة عند حافة الصحراء، كانت يومًا موطنًا لقبائل متعددة.
كانوا مختلفين في الملامح واللغة والعادات،
لكنهم صنعوا لأنفسهم نظامًا وعدلاً خاصًّا،
وعاشوا معًا في انسجامٍ نادر،
يصنعون السلام بأنفسهم في ظلّ صمت الإمبراطورية التي تجاهلت وجودهم.
كما كانت تلك القرية نقطةَ وصلٍ بين الإمبراطورية والصحراء؛
مكانًا يستريح فيه العابرون والتجار والرحّل بعد عبور الرمال القاسية.
كانت فقيرةً، صغيرة، لكنها نابضةٌ بالسكينة والدفء.
إلا أن الإهمال كان حكم الإمبراطورية عليها،
فلم تجد فيها نفعًا ولا ثروة، فتركتها دون حماية.
وكانت أسوارها الواهية دعوةً مفتوحةً للغزاة والطامعين.
صمد أهلها طويلًا، لكن الموجة تلو الأخرى من الهجمات لم تدع لهم خيارًا.
ومع ذلك، لم يرحلوا.
لم يستطيعوا.
فالأرض التي سال فيها عرقهم ودمهم كانت بيتهم،
والرحيل عنها موتٌ آخر.
‘هناك، التقيت بفريا لأول مرة.’
كنت آنذاك في رحلة عمل إلى مدينة قريبة،
فقيل لي إن النجوم فوق الصحراء هناك تسحر الأبصار،
فعرّجت إليها على سبيل الفضول.
وكانت السماء فعلًا كما وُصفت: بحرًا من الجمال المتوهّج.
لكن شيئًا غريبًا لفت نظري—
بقعة من الأفق تلتهب بلونٍ أحمرٍ قاتم.
اتجهت نحوها…
فرأيت قريةً تلتهمها النيران.
حين وصلت، لم يكن هناك سوى الرماد،
والرائحة الثقيلة للموت.
كان الرمل نفسه مصبوغًا بلون الدم والنار،
كأنه احتفظ بأثر الفاجعة في ذراته.
لم يكن يبدو أن أحدًا نجا.
جثوتُ على الأرض أترحّم على أولئك الذين سقطوا بلا ذنب،
ثم هممتُ بالرحيل—
لكنّ حركةً خافتةً بين الأنقاض أوقفتني.
هناك، بين الخشب المنهار والركام،
وجدت طفلةً صغيرة تتشبث بجسد أمّها الميتة.
كانت تنزف، جسدها نحيلًا، لكنها تتشبث بالحياة بأصابعٍ مرتجفة.
أنقذتها.
ثم حين اكتشفت بريق الموهبة في عينيها، أرسلتها لتتعلّم وتكبر.
تلك الطفلة… كانت فِريا.
‘فيلتواك هي موطنها الأول. لا بد أنها تحاول إحياءه من جديد.’
الآن، لم يبقَ في ذلك المكان سوى المرتزقة والعابرين،
مدينةٌ خالية إلا من الغبار والذكريات.
لذا كان خوف هيلاري مبرَّرًا.
فالمرتزقة قساةُ الطبع، خشنو الملامح، لا يعرفون قانونًا سوى القوة.
أما أنا، فضعيفةٌ أمامهم كزهرةٍ في مهبّ العاصفة.
نظرت هيلاري إليّ بعينيها العسليتين المليئتين بالصرامة،
وقد تجسّد في نظرها اعتراضٌ صارم لا يعرف المساومة.
لكنني ابتسمت وقلت بثقةٍ هادئة:
“أنا بخير.”
فأجابت بسرعة، بنبرةٍ قاطعةٍ كالسكين:
“لستم بخير يا سيدتي. مهما تدربتم على السيف، فأنتم لا تقوون على مجابهتهم.”
حينها التفت إليها بابتسامةٍ خفيفة،
وعيناي تلمعان بطمأنينةٍ غير مألوفة:
“هيلاري… أليس وجودك إلى جواري كافيًا؟”
التعليقات لهذا الفصل " 44"