استمتعوا
ترى، كيف يكون شعورُ حمّام الفقاعات؟ لا بُدّ أنّ رائحته ستكون أخّاذة، أليس كذلك؟ وريشي سيغدو أنعم وأنضر أيضًا.
أطلقتُ لحني الصغير، أُغنّي بهدوءٍ وأنا أستمتع بنسيمٍ عليلٍ يلامسني.
“أتبدين سعيدةً إلى هذا الحدّ؟”
“بيب!”
“فلنُسرع إذًا؟”
“بيب!”
ضحكت روزاريا برفقٍ حين ألحتُ عليها، فأسرعت في خطاها.
من مكاني العالي، كانت الغابة تمتدّ أمامي بامتدادٍ فسيحٍ لا يُرى له آخر، منظرٌ لم أكن لأراه وأنا على الأرض.
قبل لحظاتٍ فحسب، لم يكن أمامي سوى حصاةٍ صغيرةٍ بحجم وجهي.
وبينما كنتُ أُدير رأسي أتأمّل الأرجاء، انتبهتُ لأمرٍ غريب.
كما قال باوون، لم أستطع أن أستشعر وجود أيّ كائنٍ حيٍّ آخر.
كيف يكون ذلك، في غابةٍ بهذه السَّعة والعمق؟
“إنّها المرّة الأولى لكِ في الغابة، أليس كذلك يا صغيرتي؟”
“تشيييرب.”
“هذه أراضٍ خاصّة بعائلة أستروفيل. كما ترين، لا يعيش فيها مخلوقٌ آخر. فالتحكّم فيها صارم، منعًا لأيّ احتمالٍ لتسلّل ـسوان متنكّرين.”
آه، إذًا لهذا السبب… هذه الغابة أعجب ممّا ظننت.
“بما أنّ المكان آمن، يتدرّب السادة الصغار أحيانًا في هذه الأنحاء. أظنّ أنّهم كانوا مجدولين للتدريب اليوم أيضًا، لكن…”
أمالت روزاريا رأسها في حيرةٍ لطيفة.
“يبدو أنّهم ليسوا هنا اليوم. أترى، لعلّهم خرجوا للصيد.”
“تشييرب؟”
ظننتُ للحظة أنّي سمعتُها خطأ.
من أحاديثي القليلة، فهمتُ أنّهم لم يُولَدوا قبلي إلّا بفترةٍ يسيرة.
أصبحوا يصطادون بالفعل؟
انفرج منقاري ذهولًا، فابتسمت روزاريا ابتسامةً ناعمةً.
“لقد أتمّ السادة الصغار مرحلة التحول البشري. هل سمعتِ عنها من قبل يا صغيرتي؟ إنها القدرة على اتّخاذ هيئةٍ بشريّة، كما أفعل أنا الآن.”
“…تشييرب.”
“ستتمكّنين من فعلها قريبًا أيضًا، يا صغيرتي.”
“تشييرب.”
ليس فقط أنّهم يصطادون، بل أتقنوا التحوّل البشري أيضًا!
لابدّ أنّ أولئك السادة يملكون قوًى مدهشةً تفوق الخيال.
لكن إن عملتُ بجدّ، فسأبلغ ما بلغوه!
اشتدّ عزمي، وضغطتُ جناحيّ بقوّةٍ صغيرةٍ تعبيرًا عن الإصرار.
لكنّني توقّفت فجأة.
“تشييرب؟”
ما هذا؟
“ما الأمر يا صغيرتي؟”
“تشيييرب.”
أمامنا شجرةٌ ضخمةٌ سقطت سقوطًا مأساويًّا… ثمّ أخرى بجانبها، وأخرى تليها.
صفٌّ كاملٌ من الأشجار العتيقة، كلٌّ منها يحتاج عقودًا لينمو، مقتلعةٌ من جذورها!
أيّ قوّةٍ غامضةٍ هذه التي تُسقط أشجارًا سليمةً كهذه؟
نظرت روزاريا نحو ما أشرتُ إليه وقالت ببرودٍ عجيب.
“آه، يبدو أنّهم أنهَوا تدريبهم وعادوا.”
هاه؟
“غالبًا كان ذلك فعل السيّد الصغير الاول.”
السيّد الصغير الاول؟ أيمكن أن يفعل هذا مخلوقٌ صغيرٌ لم يمضِ على مولده سوى زمنٍ قصير؟
حدّقتُ فاغرةً منقاري، مذهولةً بلا تصديق.
“ستقدرين على ذلك أيضًا عندما تكبرين يا صغيرتي. ومع ذلك…”
نقرت روزاريا لسانها بخفّةٍ وهي تمضي نحو مركز الخراب.
ومن قربٍ، كان المشهد أفظع ممّا بدا من بعيد.
لابدّ أنّ طبعه ناريٌّ حادّ.
لا تفسير آخر لمجزرةٍ كهذه بين الأشجار!
لكن لماذا جئنا إلى هذا المكان المدمَّر أصلًا؟
“من يُحدث فوضى عليه أن يعرف كيف يُصلحها. أظنّ أنّ السيّد الصغير لم يفكّر بتلك المرحلة بعد.”
وضعت روزاريا قدمها برفقٍ فوق جذعٍ سميك، وضربته بخفّةٍ بالكاد تُرى…
لكنّ النتيجة كانت مذهلة.
الشجرة، التي يحتاج اثنان أو ثلاثة رجالٍ بالغين ليحيطوا جذعها بذراعيهم، بدأت تتدحرج جانبًا بسهولةٍ مدهشة، حتى استقرت في ركنٍ مرتب.
تتابعت الأشجار تتراصّ بانتظامٍ عجيبٍ كما لو حُرّكت بخيوطٍ خفيّة.
فركتُ عينيّ بجناحيّ غير مصدّقةٍ ما أرى.
“تشييرب؟ تشيييرب؟”
ما الذي يحدث بحقّ السماء؟
“ها قد انتهيت. كلّ شيءٍ في مكانه. أعتذر يا صغيرتي، هل أطلتُ عليكِ الانتظار؟”
“…تشييرب تشييرب. تشييرب تشييرب تشييرب.”
لا، أبدًا… لم أكن أنتظر.
اعتدلتُ في مكاني بهدوءٍ، بينما يدقّ قلبي.
أمي هذه الأنسة مخيفة حقًّا.
***
في تلك الأثناء، كانت في يد كايد دميةٌ غريبةُ الهيئة، لا يليق بها موضعها هناك.
دميةُ الأفعى الملوّنة التي أعدّتها روزاريا خصّيصًا للفرخة الصغيرة.
“مثيرٌ للاهتمام.”
ارتسمت على شفتي كايد ابتسامةٌ خفيفةٌ، وهو يستعيد المشهد الذي جرى للتوّ.
في عائلة أستروفيل، حيث لا أحد يمنح شيئًا ممّا يملكه، كانت مثل تلك الهديّة أمرًا لا يُصدَّق.
بعد أن نال كايد من الفرخة الصغيرة أوّل صيدٍ لها على نحوٍ غير متوقّع، غرق في بحرٍ من التأمّل.
قال بصوتٍ خافتٍ أقرب إلى الهمس.
“لهذا إذًا، يظلّ الجميع يثرثرون عن رغبتهم في إنجاب ابنة.”
كانت عبارته هادئة، لكن من المستحيل أن يفوتها باوون ذو السمع الحادّ.
رفع باوون رأسه نحو سيّده بنظرةٍ متفاجئة، مستغربًا هذا الكلام الخارج عن موضوع حديثهما الجادّ.
ثمّ ما لبث أن لمح الدمية في يد كايد — دمية الأفعى التي أعدّتها روزاريا خصيصًا للفرخة الصغيرة — فارتجف كتفاه وهو يكتم ضحكًا يتصاعد من أعماقه.
كان المشهد متنافرًا تمامًا مع هيبة رئيس الأسرة.
“بفف…”
ما إن تسلّل ضحكٌ خافت من بين شفتيه، حتى ارتكزت نظرات كايد عليه ببرودٍ قاطع.
“باوون.”
“اهم، نعم.”
“إن كنتَ تُقدّر حياتك، فلتتوقّف في الحال.”
“هل أفعل؟”
كلّ البشر يحرصون على حياتهم، لذلك سرعان ما جدّف باوون وجهه متصنّعًا الجديّة.
قال يحاول تغيير دفة الحديث.
“ولِمَ الحديث عن البنات فجأة؟ لديك ولدان بالفعل.”
رفع “كايد” الدمية أمام عينيه وقال بنبرةٍ هادئة.
“ولداي لا يُقدّمان لي أشياء كهذه.”
كانت الدمية ملوّنة صغيرة الحجم، تفيض بالظرافة والعذوبة.
أغمض باوون عينيه بقوّة، يحاول ألا يضحك.
لا، لا يجب أن أضحك. أفكار حزينة، تذكّر أمورًا حزينة.
ثم تمتم محاولًا إخفاء ابتسامته.
“إنها شجاعة على نحوٍ لافت، أن تفكر في اصطياد أفعى، وإن كانت مجرّد دمية.”
قال كايد متذكّرًا منظر الفرخة الصغيرة وهي تهاجم الدمية بحماسٍ غريب.
“لقد كان تصرّفًا يستحقّ الإعجاب بطريقته الخاصة.”
قال باوون بابتسامةٍ ماكرة.
“إنها تشبهك تمامًا، سموك.”
“هم؟”
“أليست شرسة للغاية؟ وطريقتها في الصيد كذلك.”
لكن باوون كان يقصد بـ’شرسه للغاية’ معنى آخر تمامًا.
حدّق كايد فيه بعينين ضيّقتين، مستعيدًا صورة الفرخة أثناء الصيد.
قال ببطء.
“كانت عيناها حمراء بلا شكّ.”
العيون الحمراء سمةٌ لا تُخطئها عين، إذ تميّز أولئك الذين يسري في عروقهم دم عائلة أستروفيل.
تأثّرًا بفرمونات الجدّ الأول القويّة، تشارك معظم أفراد العائلة سماتٍ متقاربة. شعرٌ أسود وعينان حمراوان.
ولوهلةٍ قصيرة، بدت عينا الفرخة الصغيرة بلونٍ قانٍ واضح.
“لا بدّ أنّ ذلك لأنّها امتصّت فرموناتك، سموك.”
“نعم. وتلك هي المشكلة بعينها.”
عاد وجهه الجادّ إلى الصرامة وهو يسترجع محور حديثهما الأصلي.
فما زال لغزُ من تجرّأ واقتحم أملاك أستروفيل ليترك بيضةً هناك، دون أن يُكتشف، قائمًا بلا إجابة.
كيف أمكن حصول ذلك أصلًا؟
وإن كانت لهذه الحادثة صلةٌ بـإستيلا، التي ماتت وهي تضع الورثة، فإنّ العاقبة ستكون كارثيّة.
تجمّد وجه كايد ببرودٍ قاتم.
قال بأمرٍ قاطع.
“حقّقوا في الأمر. أريد أسماء جميع من كانوا حاضرين أثناء ولادة إستِيلا، دون استثناء. كلّ من تولّى الحراسة في القصر في ذلك اليوم، أريدهم واحدًا واحدًا.”
“أتظنّ أنّ هناك جاسوسًا في العائلة؟”
“ولِمَ لا؟ ليس ثمة ما يمنع ذلك.”
“لكنّ نطاق التحقيق سيكون واسعًا للغاية، وقد يستغرق وقتًا.”
ارتسمت الجديّة على ملامح باوون أيضًا.
فإن وُجد جاسوسٌ بينهم، لزم تحقيقٌ سرّيّ ودقيق لكشف هويّته.
قال كايد بصوتٍ متجمّد
“لا يهمّني الوقت. استأصلوا كلّ جرذٍ متخفٍّ في الظلال، وأحضروه أمامي.”
“مفهوم.”
وأثناء إنصرافه، لم يستطع باوون أن يمنع نفسه من تأمّل سيّده بنظرةٍ مشوبة بالأسى.
كان كايد في تلك اللحظة هادئًا على نحوٍ غير معهود، لا صراخ ولا غضب، بل صبرٌ مريب.
نظر إلى أرجاء المكتب حيث لا تزال بقايا إستيلا تلوح في الزوايا. مزهريةٌ لم تُبدّل، كتابٌ تركته مفتوحًا ذات يوم.
حين رحلت إستيلّا، لم يُبدِ كايد أيّ ردّة فعل تُذكَر.
ولهذا، انتشرت الشائعات بأنّ العلاقة بينه وبين إستيلّا لم تكن على ما يرام، غير أنّ آثارها ما زالت حاضرةً بوضوحٍ في مكتبه.
لقد أحبّها كايد بما يكفي ليُظهر جانبًا من ضعفه النادر أمامها
فأثقل هذا الإدراك قلب باوون.
فإن كان فرخ الطائر الحديث الولادة مرتبطًا بموت إستيلّا… فلا شكّ أنّ عاصفةً من الدماء ستندلع.
ولكسر جوّ الكآبة، تخلّص من غصّته.
“على كلّ حال، ما الذي ستفعله الآن بعد أن امتصّت الصغيرة فرموناتك؟ لم يَعُد بالإمكان التخلّص منها خارج الحدود.”
قال كايد بهدوءٍ قاتم.
“سنراقبها في الوقت الراهن.”
“يبدو أنّ روزاريا متعلّقة بالصغيرة إلى حدٍّ كبير أيضًا.”
“…وهلّا كففتَ عن مناداتها بـالصغيرة؟”
“روزاريا تناديها هكذا، فظننت أنّي أقتدي بها. أليس لقبًا لطيفًا؟”
“إنّه مقزّز. لِمَ تُسميها كذلك؟”
“لأنك لم تُطلق عليها اسمًا بعد، سموك.”
لقد أمر فقط بتركها خارج العقار فور فقسها، لذا كان من الطبيعي أنّها لم تحمل اسمًا.
ولم يجرؤ أحدٌ على تسميتها نيابةً عنه.
ومع انبعاث الفيرومونات الخاصّة برئيس العائلة منها بوضوح، لم يكن هناك من يجرؤ، مهما بلغ جنونه، على الإقدام على فعلٍ كهذا.
‘مع ذلك، قد تكون روزاريا قادرةً على ذلك.’
كانت تُبدي اهتمامًا واضحًا بالفرخة الصغيرة، وتُراقبها بتمعّن، كأنّها تُخطّط لشيء.
ربّما، متى ما اتّخذت قرارها، ستتصرّف من تلقاء نفسها.
لمعت عينا باوون ببريقٍ ماكرٍ.
“إن لم تُسمِّها أنت، سموك، فربّما يغتنم أحدهم الفرصة ويسبقك.”
“وما شأن ذلك؟”
“وماذا لو بدأت الصغيرة تتبع شخصًا آخر، وتُهديه الهدايا أيضًا؟”
كانت ملاحظته المبطّنة كفيلة بأن تُثير في كايد شيئًا غريبًا.
أصدر صوتًا خافتًا من الضيق. لم يكن الأمر أنّه أراد ابنة، بل في الحقيقة… لم يكن يهتمّ.
في عائلةٍ تُعَدّ فيها الورثةُ كنزًا ثمينًا، كان يكفي أن يولد وريثٌ مناسب فحسب.
لكنّ فكرة أن تتبع تلك الصغيرة أحدًا غيره وأن تُقدّم له دميةً كتلك جعلت شيئًا في صدره ينقبض على غير إرادةٍ منه.
“اسمٌ، إذًا…”
“هل خطر لك واحد؟”
“كلا.”
جاء الردّ فوريًّا، قاطعًا، حتى إنّ باوون لم يجد ما يقوله بعده.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 5"